جولة ترامب الأولى في الخارج: حسابات الربح والخسارة!
الجولة التي قام بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل أسابيع هي عبارة عن حلقات متتالية من السياسة الأميركية الجديدة. سياسة خالفت كل الأعراف والتقاليد المتبعة والمعروفة عن الإدارات السابقة. لم تخالف فقط، بل هزت ونقضت وكسرت التحالفات والاتفاقات السابقة… وحتى التاريخية منها. شعار الإدارة الجديدة “أميركا أولاً”. وتحت هذا الشعار كل شيء مسموح ومباح. ولما لا؟ فالمصالح الوطنية قبل كل شيء …. يتبع
إذا كانت المصالح هي المحرك في التوجهات الأميركية، وجب بالتالي معرفة كيفية إدارتها عبر تحديد الأولويات، إن كان في النقلات أو في الأهداف. كما في لعبة الشطرنج التي تفرض خططاً محكمة قبل البدء بالتحركات.
الذي وعد به ترامب أثناء حملته الانتخابية ينحصر بـ”أميركا أولاً”. عبارة ينضوي تحتها المواطن الأميركي والمؤسسات الأميركية والسياسة الأميركية بشكل عام. عبارة تفرض مصلحة المواطن في استتباب الأمن والاستقرار الداخلي وعقد اتفاقات دولية للتبادل التجاري الحر. عبارة تؤكد للمواطن الأميركي العادي حصوله على العديد من فرص العمل، وتعد المؤسسات الأميركية الكبيرة بتدفق المال، وتعطي الولايات المتحدة بأكملها قدرة السيطرة على كافة الأسواق الدولية. وباختصار شديد، لقد وعد ترامب بجلب المال من كل حدب وصوب، لما فيه مصلحة المواطن والمصلحة العامة كما يراها هو.
ما هو الأسلوب الذي يلجأ إليه ترامب في توجهاته؟ إذا كان الهدف الأول والأخير هو جلب المال لإثراء مواطنيه عبر زيادة فرص العمل وفتح الأسواق أمام شركاته، فهو يتبع سياسة تعوّد عليها كرجل أعمال ألا وهي تفكيك الشركات الكبيرة للسيطرة عليها. فهو منذ البداية يرفض التحالفات والاتفاقات ويعمل على حلها. ولكي ينصرف إلى تنفيذ مآربه كان عليه وضع الخلاف الروسي الأميركي جانباً.
الاتحاد الأوروبي ترقب الزيارة الأميركية وعلق عليها أهمية قصوى، واعتبرها المحاولة الأخيرة لإعادة الوفاق بين طرفي الأطلسي. لكن التوقعات الأوروبية أتت مخالفة للواقع. لقد بدأ ترامب زيارته من السعودية حيث شارك في “قمة إسلامية”، صرح أثناءها عزمه على محاربة إيران. وأبرم في الرياض أكبر صفقة أسلحة قدرت بـ 380 مليار دولار. كانت هذه الصفقة بالغة الأهمية ليس فقط من ناحية المبالغ المالية إنما أيضاً لتأثيراتها الإقليمية. أولاً أتى ترامب لمحاربة الإرهاب من منشأه في ما يعتبر مؤشراً مبطناً إلى اتهام السعودية بالإرهاب. ثانياً دعّم الشرخ بين السنة والشيعة متهماً إيران فقط بالإرهاب وبالتدخل بشؤون دول أخرى. ثالثاً أبرم صفقة بيع أسلحة مشجعاً الدول الإسلامية على التقاتل والتناحر.
من ثم توجه إلى “إسرائيل”، مذكراً إياها بـ “حل الدولتين”، وناقلاً الوعود العربية السنية بالاعتراف بإسرائيل إذا وافقت على هذا الحل والحصول على المساعدات المالية. كما وعد السلطة الفلسطينية بالحصول على المساعدات السعودية وبالتالي إضعاف حماس. فإسرائيل التي كانت تتوقع نقل السفارة الأميركية إلى القدس تفاجأت بتأجيل الأمر إلى حين قبولها بالحل.
إحدى النتائج الفعلية للجولة الأميركية بروز خلاف بين عدد من الدول المنضوية للجامعة العربية. دول ستعترف بإسرائيل وأخرى سترفض، مما سيزيد الوضع تأزماً. وقد علم من مصادر موثوقة أن أمين عام الجامعة العربية المصري أحمد أبو الغيط هو من أبرز المؤيدين للتوجه القائل بمحاربة إيران والاعتراف بإسرائيل، بينما يرى العراق أن هذا الأمر خطير جداً، إذ أنه يمهد لإسرائيل أن تشارك فعلياً مع الدول العربية السنية في حربها ضد إيران.
الخلاف الثالث المحتمل خليجي – خليجي بدأت بوادره تظهر للعيان. فإسناد القرار للسعودية دون غيرها من الدول الخليجية في الموضوع الإيراني، كان وحده كفيلاً في تأجيج الخلاف بين الدول الست الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي. وقد تمادى ترامب في نشر الخلافات الخليجية عندما ألغى بدون سبب لقاءه مع رئيس الوفد العماني، علماً أنه قابل كل رؤساء الوفود الخليجية. والسبب في هذا يعود للدور الذي تلعبه سلطنة عمان في خل الخلافات الإقليمية وعلاقتها الوطيدة مع إيران. فترامب لا يسمح بأي دور غير الدور الذي يلعبه هو. إنه صاحب القرار الأوحد.
الخطة الأميركية في الخليج نجحت تماماً في أخذ المال من أوسع أبوابه، وزعزعة التحالف الذي يقوم عليه مجلس التعاون، وتأجيج الخلافات الطائفية.
أن ينهي ترامب أولى جولاته إلى الخارج بزيارة أوروبا يعتبر تدبيراً استراتيجياً كمن يحضر لحشر الملك في خانة الموت من دون أن يستطيع الإفلات كما في لعبة الشطرنج. ذهابه إلى الشرق الأوسط قبل قدومه إلى أوروبا بمثابة تحضير الأرضية اللازمة وقطع الطريق أمام التصورات الأوروبية المستقبلية في مناقشة أي موضوع أو أي مسألة من دون أن تكون له هو الكلمة الفصل. فبدلاً من أن يجري مشاورات مع الجانب الأوروبي، ويبرم الاتفاقات المشتركة لحل الأزمات وخاصة السورية واليمنية، ويتقاسم النتائج مع “الحلفاء”، سيكتفي بعد الآن بعرض القرارات أمامهم للإطلاع فقط!
زيارة المؤسسات الأوروبية وحلف الناتو كانت أشبه بعرض عضلات منها بمشاورات. الجانب الأوروبي حاول جاهداً إقامة حوار، إنما الرئيس الأميركي أظهر عدم الاكتراث وتغاضى عن بحث البند الخامس من معاهدة حلف شمال الأطلسي القائل بالتزام الدول بالدفاع المشترك، ما لم تقم كل دولة عضو بدفع مستحقاتها بالكامل قبل البدء بأي مشاورات بهذا الخصوص. أما اللقاء الأخير مع الأوروبيين في إيطاليا فكان تكريساً للتعنت الأميركي. لقد كانت قمة معقدة حسب تصريح كل من رئيس المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي. إذ تبيّن أنها قامت على أساس G6 مقابل G1 بدلاً من أن تكون قمة G7 . فقد أظهر ترامب بشكل واضح انفصاله التام عن المجموعة وعدم اكتراثه بما سينتج عنها، وتكرّس ذلك لاحقاً بخروجه من اتفاقية باريس حول المناخ.
تفكيك أوروبا ليس بنفس سهولة تفكيك الدول العربية والإسلامية. فأوروبا ليست فقط الاتحاد الأوروبي، إنما هي أيضاً حلف شمال الأطلسي. والدول الأوروبية ليست ضعيفة كالدول العربية. أن تقبل هذه الدول زيادة مساهمتها إلى 2 بالمائة من دخلها القومي في الجهد العسكري للحلف الأطلسي أمر مستبعد كلياً. ليس لأنها لا تستطيع القيام به بل لأنها لا تريد القيام به. مشكلة كانت مطروحة قبل الخروج البريطاني. (بريطانيا تريد مساهمة أكبر في الحلف وترفض المساهمة في الشأن العسكري في الاتحاد الأوروبي). الدول الأوروبية ستحاول زيادة مساهمتها في الجهد العسكري للاتحاد الأوروبي وليس في الحلف الأطلسي رغبة منها بالتخلص من السيطرة الأميركية. كل التحركات التي قامت بها أوروبا منذ تولي ترامب سدة الرئاسة كانت محاولات جادة للتخلص من ترامب، آخرها كانت تقديم المستحيل لانتخاب مانويل ماكرون رئيساً لفرنسا.
تصريح المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عقب زيارة ترامب إلى بروكسل جاء كردة فعل على التصرفات الأميركية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. ففي عبارتها “الحقبة التي كنا نلجأ فيها للآخرين انتهت” أكبر برهان على أن القطيعة الأميركية الأوروبية أصبحت واضحة. ثم جاءت تصريحات وزير الخارجية الألماني لتؤكد على ضرورة التفكير في الوجود الأوروبي وقوته. وصرح رئيس تجمع الصناعيين الألمان كذلك أن هذه القطيعة ستؤثر على أميركا أكثر منها على ألمانيا. وبالرغم من جدية موقف ميركل وصرامته تجاه التوجه الأميركي، الذي زاد من شعبيتها والتفاف الأحزاب الباقية حولها، فإن الموقف الأوروبي الحالي يتطلب جهداً أكبر وحكمة أدق لكي تستطيع أوروبا مواجهة عدم التوازن الأميركي في السياسة العالمية.
حالياً يعتبر ترامب الرابح الأكبر من جولته الأولى، ولكنه ليس الوحيد. الخاسر الأكبر، كالعادة، دول العالم العربي ومنطقة الهلال الخصيب بأكملها. الوضع الراهن في هذه المنطقة عبارة عن خلافات وصراعات على مصالح وأرباح. كل دولة تغير مسارها حسب الوعود والمنافع المتوقعة. بعض الدول الخليجية التي عُرف عنها تمويل الإرهاب في الأزمة السورية، تتابع النهج نفسه إنما في خلق أزمة ثانية مع إيران.
أوروبا تجاهد لتبقى. وإذا استمر ترامب في نفس السياسة، سياسة فض كل التحالفات الدولية، فسينتهي الاتحاد الأوروبي بأسرع مما هو متوقع ما لم يعمد إلى تغيير سياسته الضعيفة والبطيئة التي اتبعها خلال حقبات عديدة. في السابق كان اللوم الكبير يقع على الاتحاد الأوروبي لخضوعه للقرارات الأميركية. اليوم أمام أوروبا أكبر
فرصة لكي تثبت نفسها عالمياً. إنما عليها أولاً أن تثبت نفسها تجاه مواطنيها.