من وهدة اليأس

image_pdfimage_print

مجلة الفينيق / أيار (مايو) 2017 / قوميات / القضية السورية

“فليكن زمن العطاء بدلاً من زمن الأخذ”، الدكتور شوقي يونس.

في 31 تموز سنة 1999 كتبت مقالاً بعنوان “من رحم هذا الألم”، نُشر يومها في صحيفة “المشرق العربي” التي كانت تصدر في تورنتو، كندا. ما أوحى بالمقال آنذاك كان حديثاً عابراً ومقتضباً بين إيهود باراك والرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقه على هامش جنازة ملك المغرب محمد الثاني. يومها قال بوتفليقه لباراك: “إننا نأمل أن تقوموا باحترام الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني”. فردّ باراك بالقول: “إننا مسؤولون عن حماية أمن إسرائيل”. ومما ورد في ذلك المقال أيضاً ما يلي: “… إذا كان في كلماتنا ألم، فلأننا أحياء. وحده الميت لا يستشعر ألم الجرح أو ألم الصفعة”. أما خاتمة المقال فكانت: “من رحم هذا الألم سيولد الوعي. من رحم هذا الألم ستولد العزيمة. من رحم هذا الألم سيولد الرد

بين التمني بصيغة “نأمل” وبين العمل بصيغة “المسؤولية” يقع الفرق بين النجاح والفشل، وبين موت المجتمع وحياته.

بين 1999 واليوم، انتصارات وهزائم. ولكن الميزان يميل إلى الخسارة أكثر بكثير منه إلى الربح. فمع الإنجازات الكبرى التي تحققت في تحرير الجنوب اللبناني سنة 2000، وفي مقاومة عدواني 2006 على لبنان و2009 على غزّة، نجد أن وضع بلادنا اليوم هو في وهدة أعمق بكثير من الوهدة التي دفعتني لكتابة “من رحم هذا الألم”. وما إعصارات المذهبية والفساد التي تعصف بالبلاد، وتمتص حيويتها، وتشرعها لكل غاصب ومعتد، سوى صور عن جوانب مختلفة مما نعيش.

ولعل من أخطر الأعراض الجانبية للوضعين العسكري والاجتماعي اللذين تعاني منهما بلادنا، ما نراه من يأس يتغلغل إلى نفوس كثيرة بما فيها نفوس السوريين القوميين الإجتماعيين. وهذا شيء طبيعي. فإذا كان المواطن العادي يشعر باليأس نتيجة الأوضاع العامة في البلاد، فإن يأس القومي مزدوج إذ يرى أعضاء حزبه الذي تأسس ليوقف الويل يسألون أنفسهم: “ما الذي جلب على حزبنا هذا الويل؟” ذلك أن هذا الحزب العظيم يتلهى بأشياء كثيرة عن مهمته الأساسية، والتي هي “إعادة الحيوية والقوة إلى الأمة السورية، وتأمين استقلالها ومصالحها.”

واليأس يأخذ مظاهر متعددة؛ منها الانكفاء والكآبة والجمود والذهول والتمني وأحلام اليقظة وطلب الشفقة والشلل الذهني والشتائم العشوائية والهروب إلى الماورائيات والسخرية المرّة والتركيز على السلبيات والعودة إلى ماض لن يعود، أو ترديد شعارات جُوّفت من مضامينها.

الخروج من حالة اليأس هو ضرورة ملّحة. ولكن هناك شروطاً وقواعد لتحقيق ذلك، أهمها المعرفة والإرادة والثقة بالنفس والقرار. معرفة أن اليأس لا يحل مشكلاً بل يفاقمه. وأن قوة خارجية لن تستطيع إنقاذنا مما نحن به، بل التعويل على ذواتنا نحن هو ما ينقذنا. وأن الإنقاذ لا يتم عن طريق المعجزات بل عن طريق التخطيط والعمل. وأن الإنقاذ هو مسؤولية نتنكبها وقرار نتخذه.

الكلام سهل. ولكن كيف لمن هو في وهدة الكآبة أن يخرج منها؟ هل تكفي المعرفة؟ هل تكفي الإرادة؟ الأرجح لا. كم من رفيق ذكر أمامي، وأمام سواي، أنه كان يحلم في مطلع شبابه بأن يحرر فلسطين، وها هو اليوم يصل إلى عتبة الكهولة، وعراقنا مدمر وشآمنا تسبح في دمائها، ولبنان يغرق في نفاياته الصلبة ويختنق من نفاياته السياسية.

لا، ليس تدمير الأحلام بالأمر الهين، ولا تدمير الأوطان. إنهما كافيان لتدمير الأمل وزرع الوهن في النفوس. ولكن…

من وهدة اليأس العميق ينتشلك موقف إنساني. رفيق يتبرع لمواطن بكليته. من وهدة الاستسلام ينتشلك موقف بطولي: رفيق يكسر رأس حربة المشروع الإسرائيلي. من وهدة الكآبة ينتشلك موقف مبدأي: رفيقة تقول لصديقة تدعوها لمغادرة البلاد “يا هبلة بلدي موجوع وسخنان ومعتر ما فيني إتركوا. بس يطيب راح أبرم العالم… وطز فيك وبعقود العمل يلي أجوني… تحيا سورية بعيد العمل”. من وهدة الذهول تنتشلك فرقة موسيقية أو كورال ينشدان أناشيد الحياة، فيعيدا الحياة إلى بلد مهدد بالموت.

من وهدة الموت تنتشلك كلمات سعدالله ونّوس حين يقول “نحن محكومون بالأمل.”

ليكن واضحاً أن ما يدور في بلادنا منذ بدايات الحركة الصهيونية له هدف واحد: امتصاص حيوية الأمة عبر تمزيقها وقتل مفكريها وطرد سكانها وتحكيم المجرمين والعملاء في رقاب شعبها واستنزافها بحيث لا يبقى فيها سوى موارد تنتظر من ينهبها وبقايا شعب مستعبد للناهبين. الهدف هو أن نيأس، أما الخلاص فهو أن نبقى محكومين بالأمل.

إلى الدكتور شوقي يونس والأمين حبيب الشرتوني والرفيقة عائدة سلامة وفرقة نبض وكورال قوس قزح… إليكم وإلى كل من يجسّد روح العطاء بعمله، نقول لكم شكراً. إنكم بعطائكم تنتشلوننا من وهدة اليأس.

 

في هذا العدد<< رسالة من مجلة الفينيقتجميد” الصراع في سوريا: حذار من التقسيم” >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
3 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Nassif Rizkallah
Nassif Rizkallah
6 سنوات

اساند موقفك في نشر دون التورية على الحقيقة المرة

Nassif Rizkallah
Nassif Rizkallah
6 سنوات

عفوا
نشر الامل

أسامة عجاج المهتار
6 سنوات

شكر رفيقي العزيز