البحث عن الديموقراطية في الانتخابات الأميركية والفرنسية واللبنانية

image_pdfimage_print

منذ سبع وسبعين سنة بالتمام والكمال كتب سعاده أن الديموقراطية الحاضرة والتفكير الحاضر قد دخلا طور الشيخوخة (“سورية الجديدة”، 25 نيسان 1940). وكان بذلك يشن حملة انتقادية لنوع معين من الديموقراطية هو بالتحديد الديموقراطية التمثيلية المعمول بها في الغرب آنذاك. ونكاد نقول إنه لم يكن من ديموقراطية وقتها إلا في الغرب. أهم ما قاله سعاده هو “أن الديموقراطية الحاضرة قد استغنت بالشكل عن الأساس فتحولت إلى نوع من الفوضى، لدرجة أن الشعب أخذ يئن من شلل الأشكال التي أخذت على نفسها تمثيل الإرادة العامة وصار ينتظر انقلاباً جديداً. وهذا الانقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة القومية الاجتماعية القائلة بالعودة إلى الأساس والتعويل على التعبير عن الإرادة العامة بدلاً من تمثيل الإرادة العامة الذي هو شكل ظاهري جامد… الديموقراطية التي خبرتها الشعوب المتمدنة حتى اليوم لم تتمكن من حل الأضاليل الاجتماعية الاقتصادية…”.

 فما هو أساس الديموقراطية الذي استغنت عنه الديموقراطية الحاضرة؟ وما هو الشكل الذي تتخذه ولم تستطع بواسطته حل المعضلات الاجتماعية والاقتصادية؟

الحقيقة أن هذا الموضوع لا تكفي مقالة سياسية قصيرة لإيضاحه وإعطائه حقه بشيء من التفصيل. لكننا نستطيع هنا إلقاء ضوء على بعض العناوين، خاصة بعدما شاهدنا الانتخابات الرئاسية الأميركية والفرنسية وما رافقهما من إشكالات وانقسامات وسوابق ومفاجآت… إلخ، وأيضاً بعد أن طال بنا مشهد النزاع في لبنان حول قانون جديد للانتخابات نرجح أنه لن يصدر في المدى القريب!

 ففي أميركا للمرة الأولى يفوز مرشح خلافاً لاستطلاعات الرأي التي كانت حتى عشية يوم الانتخابات تؤكد أن منافسته هي التي ستفوز. وأيضاً للمرة الأولى فاق جموع المتظاهرين استنكاراً لفوزه عدد المحتشدين للاحتفال بهذا الفوز.

وفي فرنسا ينجح رئيس كان غير معروف شعبياً منذ سنة على الأقل، وقد هبط على الناس من حيث لا يدرون، ويتم تسويقه على عجلة كأية سلعة أو بضاعة: هو شاب في مقتبل العمر، ذكي، ناجح، قادر، خارق، أنقذ أحد مصارف عائلة روتشيلد الفاحشة الثراء من الافلاس. إنه مختلف، غير شكل، حتى أنه تزوج امرأة تكبره بربع قرن من السنين، وهو فخور وسعيد في زواجه… إلخ.

أما في لبنان، حيث التعايش والعيش المشترك بين العائلات الروحية والمادية أيضاً، وحيث الأجنحة الطائفية ترفرف مزهوة في سماء لبنان وتخيم فوق جباله وتلاله وروابيه الخضر ووديانه الخصيبة 25 ساعة في اليوم! فالجميع حريص على الجميع، الكل يريد مراعاة الكل، ولا أحد يقبل إلا بقانون “يكفل صحة التمثيل وعدالته”، يتوافق عليه الجميع ويرضي الجميع وينصف جميع المجتمعات و”الأمم اللبنانية”، ويضمن حصة جميع العائلات “العريقة” وحصة جميع الأحزاب والحركات والتيارات والطوائف (ما عدا طائفة المواطنين العلمانيين)، ويزيل مخاوفهم من بعضهم البعض وهواجسهم وتوجساتهم وتطيرهم وكل أنواع أمراضهم النفسية التي جلبتها عليهم فلسفة التعايش الفريدة.

هذه المشاهد تدفعنا لإعادة التفكير بمعنى الديموقراطية، أساسها وأشكالها. وتدفعنا للتأمل كيف فكر سعاده خلال الحرب، والحرب لا تدع مجالاً للتفكير بغير الحرب، أن يكتب عن الديموقراطية؟ بل كيف “تجرأ” سعاده أن ينتقد ديموقراطية الجبهة الديموقراطية التي كانت تحارب جبهة المحور؟ يومها كتب مقالاً بعنوان “بحث الديموقراطية عن عقيدة”، بمعنى أن أطراف الجبهة الديموقراطية يعانون من فراغ وخواء فكري وعقائدي يبحثون عما يعوضه.

المهم في الأمر الآن أن سعاده منذ 77 سنة كان يصوب على عيوب الديموقراطية الغربية، ويقول إنها غادرت أساس الديموقراطية الحقيقي الذي هو أن السلطة في الدولة يجب أن تكون مستمدة من إرادة الشعب وقبوله واختياره وثقته. ومنذ ذلك الوقت إلى اليوم لا زلنا نرى نفس المشهد، لا زلنا نشاهد كيف أن الشعب في أميركا وفرنسا وغيرهما من الدول المصنفة ديموقراطية، هو آخر من يتعرف على حكامه، وفي آخر وقت قبل ذهابه للإدلاء بصوته في صناديق الاقتراع.

إن الأميركيين والفرنسيين ليسوا هم من أختار ترامب وماكرون، كما تقتضي الديموقراطية. غيرهم اختار لهم اثنين أو ثلاثة أسماء، وكان عليهم هم فقط أن يختاروا اسماً منها. كان عليهم هم أن يصوتوا لهذا أو ذاك من الذين اختارتهم جهات غير شعبية وفرضتهم على الشعب فرضاً.

مخدوعون هم الأميركيون والفرنسيون، أنهم سمّوا واحداً من اثنين لكنهم ليسوا هم من أختار هذين الاثنين. لقد هبطت هذه الأسماء عليهم بغفلة. يذهب الأميركيون والفرنسيون إلى صناديق الاقتراع، بالصف، ليختاروا واحداً من أثنين. وهم يعلمون انه أياً كان الفائز فلن يغيّر الشيء الكثير من أحوالهم الاقتصادية والتربوية والصحية والسياسية. هم يعلمون أن وعود هذا المرشح أو ذاك هي فقط وعود، وأن ما أصطلح على تسميته “الدولة العميقة” هي من يقرر بالنهاية في كل شيء، وأن الفائز سيكون موظفاً عندها. وما أدراك ما الدولة العميقة ومن يسيطر عليها، إن أقل ما يقال فيها إنها غير شعبية، أي غير ديموقراطية.

    أما في لبنان، حيث لا يعرف اللبنانيون لماذا يوجد لهم في لبنان دولة واحدة طالما هم مجتمعات، قيل لهم إنهم مجتمعات، وليسوا مجتمعاً واحداً، وطالما هم مختلفون حتى على من هم(!)، فالديموقراطية هي من أكثر الأكاذيب شهرة ورواجاً. ذلك أنه لا ديموقراطية حيث لا مجتمع واحد، لا ديموقراطية ممكنة التطبيق على مجتمعات مختلفة في كل شيء اختلافاً أساسياً جوهرياً ينتفي معه وجود ما يسمى في علوم السياسة والاجتماع أرادة عامة أو رأي عام.

اللبنانيون لا يشعرون أن الدولة في لبنان هي كلها لهم، أو هي لهم كلهم بالتساوي. وفي هذه الحالة فإن الديموقراطية هي حديث خرافة. المشكلة ليست مشكلة قانون انتخابات بل مشكلة الهوية الاجتماعية الضائعة للبنانيين، وأن أي قانون للانتخابات مهما كان لونه وشكله، أكثرياً أو نسبياً، لن يغير من طبيعة الدولة اللبنانية. الطائفية ستهيمن على النسبي كما هيمنت على الأكثري. من دون حل مشكلة هوية اللبنانيين سيبقى المواطن في لبنان مجبراً على الانتماء أولاً إلى طائفته خاضعاً لأحكامها في كل ما يتعلق بأحواله المدنية من الولادة حتى الوفاة مروراً بالزواج، ممراً إجبارياً له كي يتم الاعتراف به مواطناً لبنانياً من درجة تتناسب مع درجة طائفته في سلم ترتيب “المجتمعات اللبنانية”. إن من يحلم ويطالب بقانون للانتخابات يقوم على النسبية خارج القيد الطائفي في لبنان اليوم هو كمن يطلب الدبس من قفا النمس!

في هذا العدد<< إنتفاضة الـ WASPبوادر السياسة الأوروبية >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments