بوادر السياسة الأوروبية

image_pdfimage_print

 أحد الأسئلة التي طُرحت على إيمانويل ماكرون أثناء خوضه معركته الانتخابية للرئاسة الفرنسية كان معرفة ما إذا كان سيزور ألمانيا إذا انتخب رئيساً؟ الجواب أتى بعد ايام على توليه منصبه في أول زيارة له للقاء أنجيلا ميركل تثبيتاً لكل التحليلات والتوقعات السياسية من أن برنامج ماكرون هو برنامج يخدم مصلحة وتوجه وسياسة أوروبا الحالية. وقد أكدا خلال المباحثات رغبتهما في خلق أوروبا جديدة وحيوية ستترجم في الاجتماع الوزاري الألماني الفرنسي المقرر عقده في حزيران المقبل، ليشكل رمزاً لتوجه البلدين الجديد والذي يأمل ماكرون أن يكون أكثر واقعية وطواعية. واتفقا أيضاً على العمل الفوري لتنفيذ مشاريع قصيرة المدى وإنشاء برامج قادرة على تدعيم العملة الموحدة (اليورو).

إذاً الهدف من اللقاء الألماني الفرنسي هو لقاء دولتين أوروبيتين لإعادة التفكير بأوروبا، إذ تقترح المستشارة الألمانية تغيير المعاهدة التي قامت عليها الوحدة، وهو أمر لا يعارضه الرئيس الفرنسي. وهذا يعني إعادة تأسيس أوروبا! إنما على أي أساس؟

الاتحاد الأوروبي يعاني منذ فترة من الأزمة الاقتصادية، شأنه شأن العديد من الدول في العالم ، ما أدى إلى اهتزاز كبير في الشعور بالانتماء إلى هذه المؤسسة الضخمة من قبل مواطني وحكومات الدول الأوروبية التي شعرت بانهيار اقتصادها وباتت تعاني من ديون كبيرة. فازدادت التيارات اليمينية المتطرفة المطالِبة بالانفصال حفاظاً على مصالحها القومية. عندما تقع الكارثة كل يحاول حماية نفسه، فيتخلى عن فكرة تبادل المصالح والمنافع والخطط المشتركة التي قام عليها الاتحاد الأوروبي.

ماكرون يعبّر اليوم عن تطلعاته بفرض إصلاحات على منطقة العملة الموحدة، وهو أمر كانت ألمانيا متحفظة عليه بسبب الرفض الفرنسي لمشروع الدستور الأوروبي عام 2005. فكان من بين التطمينات التي قدمها الرئيس الفرنسي رفضه فكرة تبادل وتقاسم الديون السابقة للدول الأعضاء، مما يطمئن الحزب الديمقراطي المسيحي الألماني المتخوف من  هذا الطرح، والمعارض لطلب صندوق النقد الدولي بمساهمة مالية أكبر لألمانيا.

  إذا الهدف المنشود لإعادة تأهيل أوروبا هو إنعاش الوضع الاقتصادي بكامل ميادينه، وبالتالي استرجاع  ثقة المواطنين بالمشروع الأوروبي فيتبوأ هذا الأخير موقعاً عالمياً جديراً به. والدولتان الوحيدتان القادرتان على السير في هذا المخطط هما ألمانيا وفرنسا، أقوى دولتين في الاتحاد الأوروبي بعد أن غادرت بريطانيا التي كان يعرف عنها مواقفها الصلبة في العديد من المشاريع والتوجهات الأوروبية.

إعادة تأهيل أوروبا، لكن لمواجهة من؟ تتخبط أوروبا حالياً بين ماردين اثنين بدت بوادر الاتفاق على علاقاتهما: روسيا وأميركا. فكان على أوروبا أن تجد من يحمل مشروعاً أوروبياً قادراً على نجدتها. وليس أفضل من ماكرون كاقتصادي متمرس وخارق الذكاء، لن يكون فقط قادراً على إزالة الصعوبات إنما على “سحق” كل من يقف في دربه ليصل إلى مبتغاه، حتى بات كثير من السياسيين، فرنسيين أو غير فرنسيين، يتهافتون إلى السير في ركاب حركته الحزبية حالمين بالمراكز والمناصب العالية.

إذا وضعنا أمام أعيننا المعادلة التي يرزح تحتها الاتحاد الأوروبي  (روسيا ـ أميركا) يتبين لنا أن الهدف الأول والأسهل هو زعزة أميركا ليس لأنها دولة ضعيفة، بل لأن رئيسها أرعن متقلب، غيّر منذ استلامه سدة الرئاسة معايير وقيم العلاقات السياسية والديبلوماسية. إن الجانب الاقتصادي هام لكي تقف أوروبا في مواجهته وتفرض عليه سياستها. ففي حين يصرح ترامب بعدم صلاحية منظمة الأمم المتحدة ويبدي استياءه من عدم التوازن المالي بين ما تقدمه أميركا إلى حلف شمال الأطلسي وما تقدمه أوروبا، نجد أن أوروبا لا تعارضه جهارة وإنما تعمل في نفس خط التوجه لسحب البساط من تحت رجليه.

ولهذا الهدف بدأ الاتحاد الأوروبي التحرك سياسياً بمفرده منذ استلام ترامب سدة الحكم، ومنذ أن ظهرت رغبته في عزل أوروبا. لكن، وبدون أدنى شك، تبين لأوروبا كذلك أنه لا مفر من القوة الاقتصادية للإضطلاع بدور هام عالمياً. الجانب الاقتصادي له وجهان: استرجاع ثقة المواطن الأوروبي، واسترجاع ثقة أوروبا بنفسها.

أن يأتي اللقاء الفرنسي الألماني في هذا التاريخ بالذات ليس محض صدفة، فهو مقدمة تحضيرية لزيارة ترامب لحلف شمال الأطلسي. فإذا كان ترامب لا يحبذ سياسة الحلف الحالية وما تضطلع به الدول الأوروبية داخله، فإن التحركات في العاصمة الأوروبية قائمة على قدم وساق للتظاهر ضد وجوده في بروكسل ولرفض توجهاته السياسية. ولا أظن أن ميركل نسيت لقاءها الأخير بترامب عندما استقبلها في واشنطن والاستياء العام الذي نتج عنه.

التحضير لمواجهة ترامب ليس أوروبياً فقط وإنما أميركياً أيضاً، هدفه قطع الطريق عليه في عقر داره. فها هي هيلاري كلينتون خصمه اللدود تشكل حركة Onword Together   المقتبسة تماماً عن حركة ماكرونEn Marche  . فإذا كانت هذه الأخيرة قد نجحت في فرنسا في فترة قصيرة مدتها سنة واحدة واستطاعت أن تقلب الموازين، وسمحت لرئيسها بإفلاس الأحزاب الفرنسية التقليدية، فلما لا تترجم الحركة في الجهة الثانية من الأطلسي؟

حركة كلينتون تتوجه، مثل حركة ماكرون، إلى المواطنين. إنها لا تتصف باتجاه سياسي معين تماماً كحركة ماكرون التي جمعت في صفوفها ناشطين اشتراكيين ويمينيين. وتوجه ماكرون يجمع بين الانفتاح الاقتصادي الليبرالي وحماية المواطن الاجتماعية، تماماً كما تنادي كلينتون عبر الأطلسي.

اليوم بدأت بوادر التحضيرات السياسية للاتحاد الأوروبي تظهر إلى العلن. خارطتها إحكام القبضة على التوجه الأميركي من الناحية الاقتصادية وعزل الرئيس الأميركي عالمياً وسياسياً، ثم العمل على تقليص هيمنته على المؤسسات والمنظمات العالمية كالأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي عبر سياسة التوازن التي يتبعها الاتحاد الأوروبي، بانتظار ما قد يصدر قريباً من توجهات سياسية فرنسية أوروبية.

المستقبل القريب سيبين لنا أن الوعود الأوروبية بالتغيرات والتنازلات التي يمكن أن تقدمها الدول الكبرى في نص معاهدة روما التي أنشئ بموجبها الاتحاد الأوروبي ليست إلا تخديراً للمواطن للبقاء على ولائه الأوروبي. والسياسة الفرنسية الألمانية ذات المشاريع قصيرة المدى ليست إلا جرعات استرخاء تسمح للإدارة الأوروبية بالعمل اقتصادياً كما يحلو لها، خاصة وأن المؤسسات المالية العالمية والمصارف الدولية هي التي موّلت وصول ماكرون لسدة الرئاسة بموافقة الرؤوس الأوروبية الكبيرة.

اللقاء الفرنسي الألماني هو الجزء المرئي لعلاقة متينة وخفية بين أصحاب المال العالميين وأصحاب المناصب الأوروبية، بدأت نتائجها تظهر شيئاً فشيئاً. إنما هذا لا يمنع حدوث مفاجآت أعتقد أنها قريبة.

وللحديث تتمة…

في هذا العدد<< البحث عن الديموقراطية في الانتخابات الأميركية والفرنسية واللبنانيةبين المؤامرة والوعي… قطبة مخفية ! >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments