المخلص والقائد

image_pdfimage_print

التوق الشعبي الدفين إلى وجود “المخلص” هو نزوع متأصل ومستمر في الوجدان الاجتماعي السوري، ولدى شعوب أخرى عريقة، منذ أقدم العصور الموغلة في التاريخ. وقد تجلى في إحدى صوره مع أسطورة تموز (أدونيس) الذي يصرعه الخنزير البري فتبكيه عشتار بحرقة وألم إلى أن تعيده الآلهة إلى الحياة ليحيي الأرض في دورة متعاقبة على مر الزمن. والفكرة الأساسية الكامنة هنا أن “مخلصاً” لا بد وأن يأتي في المستقبل غير المحدود لتحقيق العدل في الأرض وقيادة المؤمنين به إلى عالم الخلود.

التوراة اليهودية التي استعارت كثيراً من الأساطير والمرويات السورية في زمن “السبي البابلي” تتحدث عن “مسيح مخلص” سيأتي في ميعاد لاحق. وقد رفض اليهود الاعتراف بأن يسوع الناصري هو “المسيح المخلص”، فحاربوه وصلبوه. وآمن المسيحيون بيسوع مسيحاً، مات فداء عنهم، وقام مخلصاً لهم، على أن يعود في آخر الزمان كي يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملأت جوراً.

ولم تخلُ الرسالة الإسلامية المحمدية من هذا النزوع، إذ يُروى عن النبي حديث مشهور يقول: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد دينها”. ولدى كثير من الطوائف المحمدية اعتقادات راسخة بوجود “مخلص” ينتظر نهاية الزمان ليتجلى مرة أخرى في هذه الحياة الدنيا. وقد أوصلت الشيعة الإثنا عشرية (المذهب الجعفري) هذا الاعتقاد إلى ذروته من خلال الإيمان بالإمام الثاني عشر “المهدي المنتظر” الذي لا بد وأن يعود من غيبته الطويلة في يوم من الأيام.

لا نريد في هذه المقالة أن ندخل في تعقيدات علم النفس الاجتماعي الذي يرى بعض مفكريه أن التوق إلى وجود “مخلص” في المستقبل غير المنظور يعكس نوعاً من الاحباط الاجتماعي في مرحلة تاريخية معينة، فيصبح التطلع إلى الأمل البعيد غير المضمون بمثابة التعويض الجمعي الإيهامي عن النكسات المريرة الراهنة. الفشل المتكرر، والعجز عن مواجهة القوى المتسلطة، وعدم وجود أفق واضح لتغيير الأحوال المقيتة… كل ذلك يتم ترويضه بمسكنات الإشتياق الماورائي (النيرفانا) إلى ذلك “المخلص” الحامل مزايا وصفات يفتقدها الناس في كل مَنْ هم حولهم!

ولا نريد كذلك أن نتورط في نقاشات دينية لا طائل منها تتعلق بمعنى وجود “المخلص” ودوره على مستوى الجماعات الإنسانية. فهذه مسألة إيمانية روحية لا ترتبط بالواقع الاجتماعي الراهن للذين يؤمنون بعقيدة الخلاص في الآخرة. كما أن تلك النقاشات، في الوقت نفسه، لا تقدم ولا تؤخر في فهم أبعاد الأزمات التي تواجهها أية مجموعة تفتقد “القائد” القادر على تقديم رؤية واضحة ومن ثم توحيد الصف حول غايات محددة وفق خطط عمل ومشاريع مرتبطة بالواقع المُعاش وليس بزمن أخروي كامنٍ في علم الغيب.

كان لا بد من هذه المقدمة التي قد يراها بعضكم مسهبة، وهي بالفعل كذلك، قبل الوصول إلى أحد أبرز جوانب الأزمة التي تعصف بالقوميين الاجتماعيين الذين تضعضعت نظرتهم إلى حقيقة الخلل الواقع فيه الحزب السوري القومي الاجتماعي، والذي يظهر في ثلاث مؤسسات تحمل اسمه دونما علاقة بين أي منها ونظرة ذلك الحزب العريق وغايته.

رأى عدد كبير من قوميي الرعيل الأول في سعاده مخلصاً، وعبّرت عن ذلك أدبيات تلك المرحلة. وبعد الثامن من تموز سنة 1949، أصبح في نظر الكثيرين “الفادي” الذي افتدى الأمة بدمه. ربما كانت خسارة سعاده بتلك الطريقة المفجعة، إلى جانب تاريخ طويل من الفشل والأزمات المتعاقبة، هي مفتاح فهم شعور الصف الحزبي بالحاجة إلى “مخلص” في ظروف الإحباط والشك والفوضى والخطر المصيري والخوف الوجودي. فنشأ التماهي، بشكل عشوائي مرات ومتعمد مرات أخرى، بين “المخلص” و”القائد”.

ومع كل أزمة جديدة، كانت عملية التماهي هذه تتكرر فتضيع فرص الإصلاح الداخلي إما بعودة الهيمنة السلطوية أو بتصفية دعاة التغيير جسدياً ومعنوياً. وفي كل مرّة أيضاً كانت الأزمات تؤجل بإجراءات سطحية لا تعالج الجذور الفعلية للخلل المتأصل في آليات انبثاق السلطة وممارستها وتداولها، والتي غالباً ما تترافق مع الانحراف الفكري أو السياسي أو المناقبي.

حينما قاد الرفيق الشهيد وسيم زين الدين (أبو واجب) حركة المنفذين سنة 1974، لمواجهة وضع حزبي على شفير الانهيار العقائدي والتنظيمي، خلط القوميون الاجتماعيون الذيم أيدوه عملياً بين الحاجة إلى “قائد” في تلك الفترة والتطلع إلى “المخلص” المنقذ.

وعندما غدرت رصاصات التواطؤ الحزبي الفتحاوي بالشهيد زين الدين، ضاعت الأهداف التي لأجلها تحرك الصف القومي وأعيد استنساخ القيادات التقليدية ذاتها.   والشيء نفسه تقريباً حدث عندما قضت رصاصات الغدر على الأمين الشهيد محمد سليم سنة 1985، أو حينما حصدت رصاصات الإهمال الأمين الشهيد حبيب كيروز سنة 1987. في كل هذه الحالات، كان القضاء على “المخلص” أو “المخلص القائد” شرطاً ضرورياً لكي تخلو الساحة القومية لثعالب السلطة كي تمسك بأعنة الحزب مستخدمة العنف والمال والفساد السياسي.

ويبدو لي أن القوميين لم يتعظوا بتجربتي 1975 و1987، فإذ بهم اليوم في واحدة من أخطر الأزمات القومية والحزبية ضائعون في البحث عن “مخلص” وعن “قائد” حتى خارج الصف الحزبي، بل وحتى خارج المنظومة الفكرية القومية الاجتماعية. في حين أن المطلوب هو برنامج عمل واضح وخطة تحرك مرنة يعيدان الحزب إلى تنكب مسؤولياته، ويخاطبان هواجس القوميين وتطلعاتهم. إن انتظار مجيء “المخلص” ربما يلبي حاجة مؤقتة، وقد يهدئ من إضطرابات النفوس القلقة المرتبكة، لكنه لن يحقق إنجازاً على أرض الواقع، ولن يؤمن ديمومة العمل القومي الاجتماعي ويستعيد الألق المناقبي للحزب السوري القومي الاجتماعي من منطلق كونه حركة الشعب العامة.

 

إن “المخلص”، إذا ظهر اليوم، لن يكون سوى مشروع شهيد لقوى الفساد الأمني والمالي. في حين أن الأولوية المطلوبة الآن هي انتشار الوعي بكيفية “تخليص” الحزب من أسباب أزماته، فلا ينتهي “الخلاص” بانتهاء “المخلص”!

لقد أسّس سعاده الحزب وأنشأ له من المؤسسات ما يكفل أن لا ينتهي بانتهاء مؤسسه. بل كان له من الثقة بالصف الحزبي أن وجّهه، عبر مرسوم الطوارئ بتاريخ 30 تموز سنة 1936، أن يُقدم على اختيار قيادة جديدة كلما اعتقلت سلطة الانتداب قيادته. هذه العبرة يجب أن تكون ماثلة أمام أعيننا إذ نبحث عن مخرج للخلاص من سلطة الهيمنة والفساد على مقدرات هذا الحزب العريق.

لا شك في أنه سيأتي يوم قريب يظهر فيه شخص أو أشخاص يقولون بالصوت الواثق الهادر: “الأمر لي” أو “الأمر لنا”. لكن ذلك سيكون بعد تمهيد الأرضية داخل الصف القومي الاجتماعي وفي أوس

 

اط المواطنين المترقبين. وذلك لن يحصل إلا وفق شروط: تحديد طبيعة الأزمة، القطيعة النهائية مع مسببي الأزمة والمستفيدين منها، العودة المتجددة إلى القواعد القومية الاجتماعية نظرة وغاية وعقيدة ودستوراً، ووضع خطط ومشاريع مرحلية تخاطب حاجات المجتمع ومتطلباته الملحة.

في مثل هذه الحالة فقط تنتفي الحاجة إلى “مخلص منتظر” يسقط علينا فجأة من عليائه! ومن ضمن هذه الظروف ننتج قياداتنا الفاعلة الملتزمة. فسعاده لم يأتنا مؤمناً بالخوارق والمعجزات بل بالحقائق التي هي نحن.

كل رفيق فعلت فيه العقيدة، هو خامة قيادية كامنة، هو هذه الحقيقة الناصعة!

في هذا العدد<< النظام السياسي المرن -الدكتور قيس جرجسإنتفاضة الـ WASP >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
1 تعليق
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
chehadeghaoui
chehadeghaoui
6 سنوات

أوافقك تماما حول معنى “المخلص” وعبثية انتظار مخلص. واوافقك تماما حول ضرورة وجود “قائد” يكون الامر له ينبثق من صفوف الشعب- الحزب ولا يهبط عليه من مكان آخر. لكنني أرى أن لوجود القائد صاحب الامر شروط أسماها سعادة في كتابه العلمي نشؤ الامم “الشخصية”، أي الصفات والمؤهلات القيادية، واسماها أحد أمناء الحزب “الشروط المؤهلة للقيادة”. أن الشخصية تبدو لنا اليوم نادرة…ولكن ممكنة