تجميد” الصراع في سوريا: حذار من التقسيم”
مجلة الفينيق / أيار (مايو) 2017 / ما وراء الحدث
حققت جولة المفاوضات الرابعة في الآستانة، نظرياً على الأقل، ما عجزت عنه الجولات الثلاث الماضية في ظل انخراط فاعل للدول المؤثرة والضامنة: روسيا وإيران وتركيا. وما كان لهذه الجولة أن تنجز بالفعل إتفاقاً واقعياً يحمل إمكانات النجاح، لولا أنها جاءت في خضم حراك ديبلوماسي مكثف إقليمياً ودولياً، كانت روسيا محوره ويقوده الرئيس بوتين المنهمك في دور أم العريس وأم العروس في آن واحد.
وسيكون من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن الاتفاق سيصمد على أرض الواقع من دون عصي في الدواليب يضعها عدد من اللاعبين الإقليميين الذين يشعرون بأن “الصفقة” المطروحة لم تلبِ كامل مخططاتهم، أو على الأقل لم تقدم لهم ما يوازي عائد “استثماراتهم” السياسية والمالية في الحرب على سوريا. يُضاف إلى ذلك أن غالبية الأطراف السورية نفسها باتت مجرد بيادق مسيّرة في لعبة شطرنج دولية وإقليمية، ليست في مصلحة سوريا والسوريين مطلقاً بتاتاً.
ولا أهمية أيضاً للتحفظات المُعلنة من هنا ومن هناك، ولا للعنتريات السينمائية بالإنسحاب من قاعات المؤتمرات الصحافية، ولا للتشدد اللفظي في وضع شروط يُدرك الكل أنها لم تعد عملة ذات قيمة تصلح للصرف في أروقة المساومات الكبرى. كل ذلك نضعه في سياق مستلزمات “عدة الشغل” بهدف حجز مقعد في قطار التسوية المندفع، في حال قُدّر لسائقه الروسي أن يُوصله إلى محطة التسوية السياسية… مهما كانت نتائج هذه التسوية.
إذن نحن أمام ورقة وقّعها ثلاثي الآستانة الذين أعطوا أنفسهم واللاعبين الآخرين المتورطين في الحرب السورية مدة ستة أشهر قابلة للتمديد. ولقد تعددت الأسماء التي أعطيت للاتفاق لكن المعنى واحد: “مناطق تخفيف التوتر”، “مناطق خفض التصعيد”، “مناطق آمنة”، “مناطق عازلة”، “مناطق هادئة”، “نظام التهدئة”، “نظام الهدنة”، “وقف إطلاق النار”… والواضح هنا أننا أمام حيّز جغرافي معيّن (يتحدثون عن أربع مناطق قابلة للتوسيع) يخضع لسلطة إحدى القوى المسلحة. والاتفاق يضمن ثبات المواقع، والتزام الأطراف المتحاربة بوقف النار، والحفاظ على خطوط المواجهة من دون تغيير.
التسميات المختلفة أعلاه تعني “تجميد الصراع” ولو بصفة مؤقتة، ريثما تنضج الحلول السياسية سواء من خلال مؤتمرات جنيف التي ترعاها الأمم المتحدة، أو في الكواليس الديبلوماسية والاجتماعات السرية التي يُرجح أن تكون الأطراف السورية كلها غائبة عنها، وعن صفقاتها الكبرى. وهنا بالذات يكمن الخطر الذي نستشعره في عملية “تجميد الصراع”. فالتاريخ ينبئنا بأن “التجميد” من دون وجود أفق سياسي للحل يعني ببساطة شديدة “التثبيت”، أي تحويل المؤقت إلى دائم، وبالتالي بروز موازين قوى متبدلة وديناميكيات مختلفة للصراع بين القوى المحلية التي تستفيد من فترة “التجميد” لكي ترسّخ حقائق جديدة على الأرض سيصبح من الصعب تغيير مفاعيلها.
وسنعطي نموذجين من تاريخنا الحديث يظهران لنا كيف تتطور الأمور تحت غطاء “تجميد الصراع”. في العام 1976 دخلت “قوات الردع العربية” إلى لبنان لوقف “الحرب الأهلية”، فتجمد الصراع عند خطوط تماس ثابتة سياسياً وعسكرياً. ولأنه لم يكن يوجد مشروع سياسي للحل، فقد تحالفت “القوات اللبنانية” بقيادة بشير الجميل مع إسرائيل لتنقلب على “الحل العربي”… فاستمرت الحرب الأهلية بأدوات أخرى وأهداف مغايرة حتى مطلع تسعينات القرن الماضي. ولسنا متأكدين حتى اليوم ما إذا كانت هذه “الحرب اللبنانية” قد وضعت أوزارها فعلاً!
وعلى المقلب الآخر نجد نموذج “تجميد الصراع” في شمال العراق حيث أقدمت القوات الأميركية والبريطانية على إعلان كردستان العراق منطقة حظر طيران بحجة حماية الإقليم الكردي من هجمات الجيش العراقي النظامي. ومع أن الغزو الأميركي ـ البريطاني سنة 2003 أسقط النظام العراقي وأقام مكانه نظاماً حليفاً، إلا أن عجز السلطة المركزية في بغداد وغياب مشروع سياسي وطني شامل والدعم الغربي غير المحدود لمشروع الانفصال الكردي… كل ذلك حوّل “التجميد” إلى واقع تقسيمي يزداد رسوخاً يوماً بعد يوم.
وليست منطقتنا وحيدة في مجال تحوّل “التجميد” إلى واقع مغاير، ففي البلقان أمثلة عدة على ذلك. كوسوفو هي صراع مجمد بين صربيا التي لا تعترف باستقلال الإقليم وبين الحلف الأطلسي الذي يحمي النزعة الإنفصالية للأكثرية الألبانية هناك. بل إن البوسنة والهرسك التي عاشت حرباً أهلية مريرة لا تزال في حالة “تجميد الصراع” تحت رعاية الأمم المتحدة، وفي ظل رئاسة ثلاثية بوسنية ـ كرواتية ـ صربية يختلف أعضاؤها على كل ما له علاقة بمستقبل البلاد!
طبعاً نحن لا نزعم أن “تجميد الصراع” في سوريا سيؤدي حكماً إلى ترسيخ الواقع التقسيمي كما هو موجود ميدانياً الآن. لكن في الوقت نفسه، يجب أن نكون متنبهين إلى أن هذا الاحتمال كبير جداً في حال عدم وجود مشروع سوري لحل سوري. كل المؤشرات تدل على أن القوى الإقليمية والدولية شمّرت عن سواعد الجد لتحقيق مآربها في سوريا، والخطط المطروحة الآن هي عبارة عن القمة العلنية الظاهرة من جبال الجليد المخفية. ولن يكون غريباً أن تنجح هذه المشاريع بقدر ما يكون غريباً ومستهجناً تقاعس السوريين وتخاذلهم عن إجتراح الحل القومي لأزمتهم المصيرية.
تحليل ممتاز
Oكالعادة تحليل عميق دون اطناب