النظام السياسي المرن -الدكتور قيس جرجس
النظام السياسي المرن -الدكتور قيس جرجس
كل دولة في العالم بحاجة لتسوية سياسية كل عشر إلى عشرين سنة أو أكثر، كما يستنتج الفكر السياسي وعلم الاجتماع، بما تمليه التغيرات المعرفية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، على تغير التحديات، وتغير طبيعة الصراع الخارجي والداخلي ومواقعه وقواه السياسية، وبروز قوى جديدة وأدوات جديدة وطبقات جديدة
لقد ثبت أن التغيير الاجتماعي والاقتصادي وما يتبعه تقوده المعرفة والإبداع العلمي. فكل اختراع علمي وضع العالم على أساس جديد اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، من اختراع المحراث إلى الثورة الصناعية إلى الثورة المعلوماتية…
وتبين من خلال ما نشهده في العالم أن النظام السياسي القادر على التأقلم مع التغيرات، وعلى استيعاب ما يفرضه حراك المجتمع بكل تنويعاته، وعلى التجديد والتجدد إلى نظام أجد يطرح الترهلات ويأخذ بعين الاعتبار ما هو قائم، بما يخدم مصالح المجتمع والدولة العليا، وبما يحمي المجتمع من الانفجار العنفي والانقسام والتقسيم الداخلي المدمر، هو نظام سياسي مرن قابل للحياة .
وتبين أيضاً أن النظام السياسي القائم على مبدأ سيادة إرادة الشعب في الدولة، بما تعني السيادة أولاً من نيل الأفراد وممارستهم، كشخصيات مستقلة، حقوق الإنسان السيد بدون تمييز، وكمواطنين، حقوق المواطنة المؤسسة على رابطة الاشتراك في الحياة وإنتاجها على أرض الوطن المعينة تاريخياً وجغرافياً بدون العودة إلى لغته أو جنسه أو عرقه أو دينه أو طبقته، بمعنى آخر نظام سياسي لا يقوم على الإقصاء والإبعاد والحرمان الإيديولوجي أو الجنسي أو الديني أو اللغوي أو العرقي.
وقد تمت ترجمة ذلك بدستور قائم على مبدأ فصل الدين واللغة والإيديولوجيا عن ممارسة السلطة في الدولة.
وفيما يعني ذلك المبدأ من إدارة الصراع على السلطة في النظام السياسي سلمياً والاحتكام إلى إرادة الشعب عبر صندوق انتخابات، وقوننة ذلك بأدوات ومؤسسات للرأي الحر متطورة و مفتوحة دائماً على التطور باتجاه التخفيف من سلبياتها الإجرائية.
لقد شهدنا تطورات كبيرة على فكرة الدولة والنظام السياسي في العالم، من نظرة ليبرالية فردية تبعد الدولة كمؤسسة اعتبارية لشخصية المجتمع راعية وموجهة وتقوم بإدارة الموارد البشرية و المادية، ومن نظرة شيوعية إيديولوجية تقوم على ديكتاتورية الحزب المالك للدولة المالكة والقامعة والمصنّعة للمجتمع.
الدولة اليوم هي حاصل حراك سياسي ثقافي اجتماعي اقتصادي على ضوء فشل التجربتين، نحو تدخل أكبر للدولة في قيادة المجتمع لتثبيت استقراره، ونحو ربط التطور البحثي للعلم بالتنمية لجعل العلوم قوة إنتاج مهمة، وكذلك تطورت فكرة الأحزاب الديموقراطية الاجتماعية التي تأخذ بعين الاعتبار كل شرائح المجتمع، وطعّمت برامجها بكثير من تأمين الضمانات الإنسانية لكل أبناء المجتمع بحيث لا تسمح للانفجار الطبقي بجرف المجتمع إلى حرب مهلكة مدمرة. مع تبدل دائم لمفهوم اليمين واليسار والوسط نسبة للتحديات الداخلية والخارجية.
حتى في ما يعني العلمانية، فقد ذهبت العلمانيات الإلحادية إلى التخفيف من عدائها ومحاربتها للدين كشعائر وطقوس وإيمان في المجتمع. ووصلت فقط إلى فصل الدين عن الدولة وحماية الدولة والنظام السياسي من سيطرة سلطة الدين السياسية، كما في روسيا و فرنسا و تركيا. فهي غير قادرة على إلغاء الدين من مسرح الفرد فليبقَ إذاً ضمن علاقة الفرد بخالقه.
هذا لا يعني أنه ليس هناك سلبيات وتحديات لهذه الأنظمة تهددها دائماً، فكما لكل دواء شاف لمرض مهدد لحياة الشخص أعراض جانبية مزعجة ومقلقة لكن لا تصل إلى حد أن نلغي الدواء ونقبل بالمرض المهدد لحياة الفرد… كذلك النظام السياسي ومبادئه.
لا داعي للمقارنة بين أعراس الديموقراطية التي جرت وتجري في البلدان الغربية، والتي كشفت عن وصول قوى سياسية حزبية جديدة أو أشخاص من خارج الطقم التقليدي السياسي مع أعراس تجديد البيعة للقادة العرب المؤبدين!
في “العالم العربي” نجد النظام السياسي يستخدم الدولة وأدواتها ومقدراتها لأخذ المجتمع كاملاً إلى زنزانته الانفرادية المؤبدة، ومن هنا نرى ما نراه من عنف ودمار وانهيار لكل تغيير في السلطة السياسية لكل مجتمع.
لكن من المفارقة الجميلة أن الدولة كمؤسسة كبيرة وتحديات كبيرة بحاجة لتسوية سياسية كل عشرين سنة… ومؤسسة الزواج الصغيرة بحاجة إلى عدة تسويات في اليوم كي تبقى قائمة.