معركة اميركا القادمة في العالم العربي ومحاورها الثلاثةـ الدكتور ميلاد السبعلي
دأب بعض الصحف ومراكز الأبحاث الأميركية منذ فترة بالحديث عن ثورة الموالين في سورية. وقد وردت هذه التسمية في مقال للواشنطن بوست منذ شهرين، وردده بولتون هذا الأسبوع، إذ طمأن أتباعه أن الحصار المفروض على الشام بدأ يقلص البيئة الحاضنة للنظام.
وصار واضحاً منذ عدة أشهر، بعد الهزيمة العسكرية للمجموعات المسلحة الممولة أميركياً وعربياً، أن أميركا ستعمد الى الحرب الاقتصادية، لتأليب الرأي العام، خاصة في المناطق التي تسيطر عليها الدولة، ضد الحكومة والرئيس، على أمل إحداث تغييرات لم تستطع إحداثها عسكرياً وأمنياً.
وقد تلقى بعض أصدقاء بولتون من المسؤولين اللبنانيين مؤخراً تحذيرات من إمكانية استقبال مليون نازح سوري جديد، نتيجة الحصار الاقتصادي، وتوقعات بانهيار اقتصادي للنظام في الشام خلال أشهر معدودة. وهي ليست المرة الأولى التي يعمم فيها الأميركي توقعات كهذه منذ بداية الأزمة. لكنه، هذه المرة، يربطها بالأزمة الحقيقية للمحروقات التي تمر بها الشام، والتململ الشعبي من الأوضاع الاقتصادية هناك، خاصة في ظل تساؤلات تصل الى حدود العتب والشك من ردة فعل الحليف الروسي، الذي لم يحرك ساكناً مؤخراً للمساعدة على تزويد الشام بالمشتقات النفطية من البحر الأسود، أو إرسال بضعة حاملات نفط الى شواطئ طرطوس. ويأتي هذا الموقف بعد الامتعاض الشعبي من تسليم بوتين لجثة الجندي الإسرائيلي الى نتنياهو قبل الانتخابات الإسرائيلية، والدعم الروسي الواضح له، والمتناغم مع الدعم الأميركي.
في المقابل، يتساءل البعض عن حقيقة الدور الإيراني، وقدرته على دعم دمشق في كسر الحصار الأميركي، خاصة في ظل تصاعد الضغط الأميركي على طهران نفسها، والحديث عن تطبيق نظرية صفر تصدير نفط التي يقول الأميركي أنه سيفرضها على طهران في أيار. ومن الحلول المطروحة مؤخراً هي إمكانية استيراد النفط الإيراني براً عبر أكثر من 1500 شاحنة يومياً عبر العراق. لكن الطريق البري ما زال غير آمن كلياً، خاصة بوجود كل من الجيش الأميركي وبؤر داعش الصحراوية في غرب العراق وشرق الشام. كما أن الأميركي يراهن على التمايز في الموقف تجاه سورية بين فريقين في طهران: فريق المتشددين الذي يمثله خامنئي والحرس، والداعم مالياً وعسكرياً للدولة السورية، والفريق السياسي الذي يمثله الرئيس روحاني ووزير الخارجية ظريف، وهو فريق يتعامل بشكل براغماتي مع الإقليم، خاصة لجهة المرونة مع السياسة التركية والروسية، حيث تخطى التبادل التجاري السنوي الإيراني مع تركيا عتبة 30 مليار دولار. ويبدو هذا الفريق أكثر تحفظاً تجاه خطوط التأمين المالية التي كانت إيران تتيحها لسورية خلال الأزمة، وينسق مع تركيا لمواجهة الحصار الأميركي.
في المقابل، تسعى إيران والعراق والشام الى فتح المعابر فيما بينها، وتأمين الطرق السريعة وربط سكك الحديد، بدعم صيني، كجزء من مشروع طريق الحرير الشهير. فيما تجهد أميركا الى عرقلة فتح أي معبر دائم بين الشام والعراق، ومراقبة وعرقلة حركة النقل
.تشير هذه الوقائع الى حرب من نوع جديد، تخوضها أميركا في المنطقة، تهدف الى خنق الشام، ومنعها، بالحد الأدنى، من استعادة عافيتها الاقتصادية وإعادة بناء قوتها وتعزيز دورها الإقليمي بالتعاون مع العراق ولبنان وإيران. في حين يصل الطموح الأميركي في حده الأقصى الى التسبب بانهيار اقتصادي في الشام يؤدي إما الى سقوط النظام أو الى إسقاط الرئيس الأسد ديمقراطياً في معركة انتخابات رئاسية بإشراف دولي، يكون الرهان فيها على اللاجئين في دول الجوار وعلى سكان مناطق سيطرة الأتراك والميليشيات الكردية، وعلى الموالين المعترضين على سياسات الحكومة والأوضاع الاقتصادية في الداخل
ولهذه الحرب عنوان معلن آخر، هو منع النفوذ الإيراني في المنطقة الممتدة من إيران عبر العراق والشام الى لبنان (حزب الله). ولطالما اعتبرت أميركا أن ضرب هذا المحور يكون بتقطيعه من خلال ضرب الشام أولاً. ولما فشلت بذلك عسكرياً، لجأت الآن الى الحصار الاقتصادي والسياسي. فهي منعت المبادرة الروسية لإعادة النازحين، وربطت إعادة الاعمار بحل سياسي انتقالي ترضى عنه هي. وتحاول الآن عرقلة جهود الحكومة العراقية الجديدة داخلياً من خلال اتهامها بالانحياز الى إيران، وتحذيرها من كسر الحصار المفروض على إيران او الشام. وتحاول خنق الحكومة اللبنانية من خلال تشديد المراقبة المالية على المصارف وعلى حركة نقل النفط حتى لا يتحول لبنان الى رئة اقتصادية للشام.
الهدف الأكبر لهذه الحرب إذا، هو منع تشكل تحالف إقليمي في سورية الطبيعية، متحالف مع إيران. ويسأل بعض الخبثاء: هل هذا هدف أميركي فقط؟ أم أنه ايضاً يخدم إسرائيل، وتركيا، وحتى روسيا، التي تفضل أن تكون هي لا إيران صاحبة اليد الطولى في المنطقة؟ يمكن القول حتى إشعار آخر، أن هناك أسباب عديدة لإبقاء التحالف الاستراتيجي بين الروس والإيرانيين، والى حد ما الاتراك، نتيجة تشابك مصالحهم في أكثر من منطقة، مثل آسيا الوسطى والقوقاز، إضافة الى المشرق العربي. ورهان أميركا وحلفائها العرب على خلافات وتشقق في هذا التحالف هو تمنيات ورغائب لا تأخذ بعين الاعتبار الصورة الأشمل.
بالتوازي مع هذه التطورات على ساحة الهلال الخصيب، نرى مشروعاً آخر يتشكل في محيط البحر الأحمر. فالواضح أن ما عرف بثورات الربيع العربي كان الهدف البعيد منها هو تغيير الواقع العربي ليصبح أكثر تقبلاً لإسرائيل، كعامل تنمية وازدهار في المنطقة، وتحويل العداء من إسرائيلي/يهودي-عربي/إسلامي كما كان في القرن الماضي، الى صراع عربي/سني-فارسي/شيعي. ولو سقطت الشام، لكانت الجامعة العربية برمتها اليوم تحتفل بإسرائيل كعضو جديد فاعل. غير أن صمود الشام أدى بأصحابه الى الاكتفاء مرحلياً بما أنجز، والتركيز على دمج إسرائيل مرحلياً مع دول حوض البحر الأحمر، أي دول الخليج ومصر والسودان. وما حصل مؤخراً في السودان يعتبر استكمالاً لهذه التوليفة، التي تم تسويقها كتحالف استراتيجي اقتصادي-عسكري، لمواجهة إيران وتنمية دول حوض البحر الأحمر والحفاظ عليه كأحد الخطوط الرئيسية للتجارة الدولية، خاصة في ظل منافسة خطوط السكك البرية التي بدأت الصين وروسيا تنشئها لربط شرق اسيا بغرب أوروبا. وقد تحدث نتنياهو في مؤتمر الأيباك عام 2018 عن دور إسرائيل الرائد عالمياً في التطور العلمي والتكنولوجي وريادة اقتصاد المعرفة، وفي المقابل رسم خريطة ما أسماه هلال الظلام، من طهران الى بيروت. وكان من الواضح أن المعركة القادمة لإسرائيل وأميركا في المنطقة تقوم على محاور ثلاثة: 1- تثبيت ما تم الحصول عليه، 2- ورسم قواعد اشتباك جديدة مع دول “هلال الظلام”، 3- ومنع هذه الدول من تشكيل خطر وجودي عليها، وإضعافها قدر المستطاع.
ويتولى الأميركي إخراج هذه المحاور الثلاثة من خلال الحرب الاقتصادية التي أشرنا اليها، ومحاولة تقطيع منطقة الهلال الخصيب وإيران، لمنعها من تشكيل محور اقتصادي عسكري يشكل خطراً على إسرائيل، ومن خلال تشكيل ما عرف بالناتو العربي، وتشجيع دول حوض البحر الأحمر للتعاون الاستراتيجي فيما بينها، وخاصة في المجالات الاقتصادية والعسكرية، وبالتالي تقبل إسرائيل كعضو في هذه المجموعة، لا بل قائدة لها. وبالتوازي، تعمل الإدارة الأميركية على فرض ما سمي بصفقة القرن، التي يعتقد الأميركي انها تزيل أية إشكاليات من أمام دمج إسرائيل في المنطقة ورسم قواعد اشتباك جديدة مع الدول التي ما زالت خارج الناتو العربي.
لقد أصبحت عناصر التحالف العربي الإسرائيلي في حوض البحر الأحمر شبه جاهزة. ففي مؤتمر وارسو الذي دعت إليه أميركا، حضر معظم الدول العربية المعنية بهذا التحالف مع إسرائيل وبدأت تنسيقاً عسكرياً وأمنياً معها، وتحدث الاميركيون مراراً عن ناتو عربي، ودعموا التحالف العربي في حرب اليمن، التي كان أحد أهدافها إزالة أية مخالب إيرانية من البحر الأحمر. كما أن التغيير الحاصل حالياً في السودان هدفه إزالة أي إمكانية لحضور تركي قطري فيها، حيث حرص البشير على إبقاء التوازن بين المحور الإماراتي السعودي والمحور التركي القطري. فهو شارك في حرب اليمن على أمل حصوله على مساعدات سعودية إماراتية اقتصادية. ولما لم يحصل عليها، أفسح المجال لاستثمارات قطرية وصلت في 2016 الى مليار ونصف مليار دولار، ووهب جزيرة سواكن للأتراك. وعلى الصعيد الاقتصادي أيضاً، تم الإعلان عن العديد من المشاريع التنموية في غرب المملكة العربية السعودية التي تعتمد على الدعم التكنولوجي والصناعي الإسرائيلي والأميركي بعد تطبيع وضع إسرائيل مع دول المنطقة. وقد شهدنا زيارات متكررة لنتنياهو ووزرائه الى الخليج ولقاءات تنسيق في العديد من العواصم. كما أن تحضير إسرائيل لتكون عقدة تصدير أساسية للغاز الى أوروبا، من خلال اتفاقيات لمد خط انابيب تحت البحر عبر قبرص واليونان وإيطاليا. ويسوق لهذا الخط أنه سيخدم كل دول المنطقة المنتجة للغاز، من قطر حتى شرق المتوسط. ويمكن حتى للبنان، المحرج من التعاون مع إسرائيل، الالتحاق بهذا الخط في قبرص!
أما بالنسبة لصفقة القرن، التي قال كوشنير أنها ستعلن بعد نهاية رمضان المقبل، فيحاول الأميركي تسويقها على أنها متوازنة وتتطلب تنازلات من الطرفين المتصارعين، لا بل ذهب بعض المحللين الأميركيين الى حد القول إن لا مصلحة لإسرائيل بها، كونها منحازة الى الفلسطينيين وتعطيهم أكثر ما يستحقون! وقد مهد لها ترامب بنقل السفارة الى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، وبالاعتراف بضم الجولان. وما تسرب عنها يتضمن مقترحات بتبادل الأراضي، والتعويض على الفلسطينيين بأراض من الأردن وسيناء، بدل قضم إسرائيل لأجزاء كبيرة من الضفة وغزة. والبعض يتحدث عن فدرالية بين الأردن والسلطة الفلسطينية، وإلا فدويلة فلسطينية مسخ تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية، مع ترتيبات للإشراف على بعض المواقع المقدسة في القدس وتأمين وصول الفلسطينيين للصلاة في المسجد الأقصى، وإلغاء حق العودة وتوطين الفلسطينيين حيث هم، مع وعود بتعويضات ضخمة في المقابل. وتتحدث التسريبات عن مئات المليارات الموعودة للأردن والسلطة ومصر ولبنان مقابل القبول بهذه الحلول.
ويقال إن أحد أسباب الفتور في العلاقة السورية الروسية هي الضغط الروسي على الشام لتمرير صفقة القرن بالتفاهم مع الأميركي، مقابل بقاء النظام وتخفيف الحرب الأميركية عليه وتسهيل الخروج من الازمة.
كما أن الوضع في الأردن يتأجج اقتصادياً وسياسياً، الى حد أن فئات شعبية كثيرة بدأت تطالب الملك بقبول الصفقة وتوطين نصف مليون فلسطيني مقابل إلغاء الدين الأردني الذي يبلغ 54 مليار دولار، والحصول على مساعدات كبيرة. وقد يكون ما يحصل في لبنان من توتير اجتماعي اقتصادي وتهويل بالانهيار المالي هو لتحضير الأجواء للقبول بتوطين نصف مليون فلسطيني ونصف مليون سوري، مقابل تسديد الدين العام الذي بدأ يقترب من مئة مليار دولار. ويعتبر الأميركي، يسانده بذلك حلفاؤه العرب، أن القبول بصفقة كهذه هو شرط لكل الحلول الأخرى، بما في ذلك الحل السياسي في الشام ومسائل إعادة النازحين وإعادة الاعمار، والتي ترتبط حكماً بالتمويل الغربي والعربي لها.
منذ قرابة القرن، جاء الانتداب الغربي، وعمل على تقسيم بلادنا الى كيانات، وإشغال سكان كل كيان بمشاكلهم المحلية وإدارة دولتهم وترسيخ انتمائهم الوطني المحلي، الذي أنتج بعد عقود سياسات مثل لبنان أولاً والأردن أولاً والعراق أولاً وسورية أولاً، تمهيداً للوصول الى وقت يعلن فيه قيام كيان العدو في فلسطين. ويعتبر سكان هذه الدول أن مشكلة فلسطين هي مشكل محلي بين فلسطينيين باعوا أرضهم ولم يعرفوا كيف يحافظون عليها، وبين اليهود الذين يعتبرهم البعض أبناء عمومتهم. فجاء أنطون سعادة ليعلن أن “كل سوري، أينما كان وحيثما وجد، مسؤول عن الذل الضارب أطنابه في بلاده، وعن العبودية الواضعة نيرها على عنقه وأعناق مواطنيه. لذلك، يجب على كل سوري، سواء كان في الوطن، أو في المهجر، أن يعمل لإنقاذ وطنه من الذل والعبودية“.
وأطلق خطابه الشهير يوم عودته الى الوطن عام 1947: ” ولعلكم ستسمعون من سيقول لكم إنّ في إنقاذ فلسطين حيفاً على لبنان واللبنانيين وأمراً لا دخل للبنانيين فيه. إنّ انقاذ فلسطين هو أمر لبناني في الصميم، كما هو أمر شامي في الصميم، كما هو أمر فلسطيني في الصميم. إنّ الخطر اليهودي على فلسطين هو خطر على سورية كلها، هو خطر على جميع هذه الكيانات”. وبرغم اغتياله، كان لموقفه الريادي هذا ارتدادات مباشرة وغير مباشرة أججت عدة أنواع من المقاومة في الأمة، عطلت مسألة الاعتراف والتطبيع لعقود، بعد أن اعتقد الغرب واليهود أنها مسألة سنوات قليلة.
وها نحن اليوم أمام الموقف نفسه. كل كيان غارق في مشاكله المحلية، في وقت تحاول اميركا تصفية المسألة الفلسطينية لصالح كيان العدو، مع الكثير من جوائز الترضية للكيانات المحيطة مقابل تقبلها لذلك. ولا مجال لمواجهة ذلك الا باعتماد استراتيجية قومية اجتماعية وبناء قاعدة صلبة للمواجهة، نواتها الشام والعراق، اللتان منعتا من التقارب حتى يوم حكمهما حزب واحد، تجذب اليها بحدود معينة لبنان والأردن وما تبقى من فلسطين، على قاعدة رفض الاستسلام والتنازل عن الحقوق القومية في كامل فلسطين، واستئناف الصراع في ظل نمط جديد من تخطي مفاعيل حروب المجتمع على نفسه، وتعزيز الوحدة الداخلية والمصالحة والتنمية والتعاون الاستراتيجي الاقتصادي والدفاعي.
.