“فايز صايغ القومي”: ما لسعادة لسعادة وما لصايغ لصايغ ـ محمود شريح

image_pdfimage_print

 

في كتابه الصادر حديثاً “فايز صايغ القومي: تجربته في الحزب السوري القومي الاجتماعي 1938 – 1947” يعيد د. عادل بشارة، الأستاذ المحاضر في جامعة ملبورن في أستراليا، النظر ويكرّ البصر في موقع صايغ على خارطة الحزب القومي على مدى عقد من الزمان، ويميط اللثام عن علاقة مؤسّس الحزب أنطون سعادة [1904 – 1949] بأحد أعمدة الحزب الأوائل فايز صايغ [1922– 1980].

 في 351 صفحة من القطع الكبير وطباعة أنيقة وغلاف ملوّن لصورة فايز صايغ وهو على شرفة نعمة تابت في الغبيري يرحّب بعودة سعادة من مغتربه القسري من الأرجنتين يوم 2 آذار 1947 (صادر عن الفرات للنشر والتوزيع)، يؤرّخ د. بشارة لسيرة صايغ في الحزب، من سنة انضمامه إليه في 1938 وحتى طرده منه في 1947، مع الإضاءة اللمّاحة والدقيقة لتنامي كفاءة صايغ وارتقائها في التسلسل الهرمي للحزب القومي.

يُلاحظ د. بشارة أن هناك عاملين أساسيين ساعدا على صعود نجم صايغ في مسيرة الحزب القومي هما: مغادرة سعادة في 1938 إلى الأرجنتين ما أفسح لصعود كوادر ناشئة إلى مرتبة العمادة، وفيهم صايغ نفسه، وكفاءة صايغ وأسلوبه الجذاب، إضافة إلى دراسته الفلسفة في أميركية بيروت وتدريسها فيها، فكان عميداً للإذاعة والثقافة في آن، أي أن ارتقاءه هذا في صفوف الحزب أوقعه أسيراً للأضواء السياسية فكان من أكثر الوجوه ظهوراً في التسلسل الهرمي الأعلى للحزب القومي.


ثم يسرد د. بشارة قصّة الخلاف الناشئ بين صايغ وسعادة. ففي غياب سعادة نشط صايغ في تحرير جريدة الحزب “صدى النهضة” وإشاعة عقيدته في ندوات وبيانات وتأليف، لكن صوب نهاية 1946 حدثت تغيرّات أساسية في صفوف الحزب، إذ عمدت القيادة المحلية إلى مهادنة النظام واتجهت إلى “لبننة” الحزب، فحذفت كلمة “سورية” من اسم الحزب وشطبت لقب “الزعيم” عن سعادة، لكن بلغ السيل الزبى حين دان الحزب مشروع سورية الكبرى الذي طلع به ملك الأردن عبد الله في 1946، فما أن عاد سعادة من المهجر في 2 آذار/مارس 1947 حتى اتضحت ملامح المواجهة بين سعادة وصايغ. درس سعادة بعناية كتابات صايغ فوجدها منحرفة بشكل خطير عن عقيدة الحزب المركزية، إذ كان صايغ مال إلى تعزيز مفهوم الإنسانية الفردانية وإعطاء الأولوية للفكر الوجودي وإبرازه في نشرة عمدة الثقافة.  طال النقاش بين الاثنين واستغرقت احدى الجلسات تحت أشجار الصنوبر في مسقط سعادة في الشوير في ليلة دافئة من شهر آب/أغسطس 1947 ثلاث عشرة ساعة، لكنها فشلت في رأب الصدع الحاصل بينهما.

يرى د. بشارة أن صايغ ارتكب خطأين أساسيين، أولهما في نقله نزاعه مع سعادة إلى صفحات الجرائد، وثانيهما أنه أعلن الحرب على سعادة في اليوم الأخير قبل مغادرته طبرية إلى الولايات المتحدة. وفي ردّه على صايغ سطّر سعادة رأيه في النشرة الرسمية للحزب فلم يفترِ عليه ولم يشوّه سمعته بل اكتفى بتصويره بأنه متمرّد على الإدارة الحزبية. يبقى القول إن ادعاء فايز أن سعادة فرض فلسفته “الشخصية” على الحزب ليس دقيقاً ويشوبه الكثير من العيوب، إذ يكشف عن مراجعة خاطئة لوجهات نظر سعادة الفلسفية.

ثلاثة ملامح مميزة
يلحّ د. بشارة على أن هناك ثلاثة ملامح مميزة يختصّ بها فايز صايغ، هي: ذكاؤه الاستثنائي وقدرته على الكلام والخطابة، وثانيهما مراعاته ومناصرته للقضايا الفكرية، وثالثهما تصميمه على السعي ومحاولة التوفيق بين تيارين متعارضين: القومية والوجودية، ما أوجده على تصادم مع سعادة الرافض لفكرة إخضاع المجتمع للكمال الذاتي الفردي والوجودي.

أفلح د. بشارة في إيراد ملاحق تظهر مدى غور فكر صايغ القومي من ناحية رأيه بسعادة وحزبه والقومية، إضافة إلى نماذج عن خُطب صايغ، ودراسات له تُنشر لأول مرة وتشكّل مجتمعة إسهاماً فريداً في مؤلّف د. بشارة.

يرى د. بشارة في تحليل مسهب وأقرب إلى الصواب أن سعادة تمكّن في نهاية المطاف من السيطرة الكاملة على الحزب وإقصاء صايغ عنه بأقلّ قدر من التداعيات، ذلك أن صايغ اعتمد موقفاً عنيداً ومتصلّباً، فيما حافظ سعادة على عقل منفتح وأبدى اهتماماً لطيفاً بآراء صايغ ومشاعره، فامتنع عن طرده من الحزب إلى أن نفد صبره ولم يعد بإمكانه أن يحتمل تعنّت صايغ.

كتاب د. بشارة عن الصراع الناشب بين سعادة وصايغ يضع هذا الخلاف الحزبي تحت المجهر فما لسعادة لسعادة وما لصايغ لصايغ، وإنْ ألحّ د. بشارة على أن هناك ثغرة تمثّلت في النهج الأكاديمي المتشدّد الذي اتبعه صايغ، إذ إنه حاول أن يفرض على الحزب منظوراً أكاديمياً فكرياً، ولا سيمّا في ما يتعلّق بالوجودية وحرية الفكر، إضافة إلى أن صايغ استهان بشعبية سعادة وكفاءته وبالغ في تقدير شعبيته وكفاءته الخاصة به. ولأن كتاب بشارة يسعى إلى التوكيد على أن أساس النزاع بين سعادة وصايغ جوهره التحدي الفكري، يتبوأ به صاحبه مكانة لائقة ومرجعية دقيقة في المكتبة القومية.

 

 

 

 

 

في هذا العدد<< قراءة في”عيون مالحة” للروائي قاسم الساحلي ـ د فاتن المربلا أسماء ـ عفاف ابراهيم >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments