ملاحظات على هامش “الدين والدولة والمواطنة”
في إطار “ندوة الفكر القومي” التي تنظمها “مؤسسة سعاده للثقافة” دورياً، قدّم الدكتور عاطف عطية دراسة بعنوان “الدين والدولة والمواطنة ـ العلاقة الملتبسة”، تطرّق فيها إلى عدد من المفاهيم المترابطة والمتقاطعة: العلمانية، الدولة، السلطة، الدين، المواطنة. وحدّد في سياق بحثه ثنائيات بين بعض هذه المفاهيم، كما طرح تساؤلات مثل “هل تتناقض الدنيوية مع الديني؟ أو العلمانية مع الديني؟” ثم عرج على تبيان بعض مواقف المفكرين المسلمين، قديماً وحديثاً، من مسألة العلمانية أو الدنيوية، كما يفضل أن يسميها.
عندما نتحدث إطلاقاً عن الدين في عالمنا العربي، فإننا نقصد الإسلام المحمدي على وجه التحديد حتى وإن لم نذكره باسمه. هذا هو الواقع الفعلي لسببين: الأول، أن الغالبية الساحقة من شعوب العالم العربي تدين بالإسلام المحمدي. ثانياً، أن الدين المسيحي بصورة عامة لا يعاني من إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، كما هي الحال في الإسلام. لذلك أرى من الضروري العودة إلى النصوص الإسلامية الأساسية لمعرفة ما إذا كان الإسلام قابلاً (أو متقبلاً) لقيام دولة مدنية أو سلطة سياسية منفصلة عن السلطة الدينية، كخطوة في مسار “علمنة” المجتمع المسلم.
يقول الدكتور عطية إن المعنى المعاصر لكلمة “الوطن” هو شأن طارئ على المفاهيم اللغوية والاجتماعية العربية. وهذا رأي دقيق لأن مجتمعات الجزيرة العربية قبل الدعوة المحمدية قامت على الانتماء القبلي. في حين أن الإسلام، نظرياً على الأقل، دعا إلى أخوة الإيمان الديني التي تؤسس لجماعة يعتبرها النص القرآني “خير أمة أخرجت للناس”.{آل عمران ـ 110}، ولهذا فإن مفهوم الانتماء إلى وطن، أي المواطنة، لم يكن فاعلاً بشكل جذري في المجتمعات الإسلامية على مر العصور. فالناس في “دولة الإسلام” يصنفون حسب أديانهم أو وفق ترتيبات الملل والنحل. وفي الحد الأدنى هناك المسلمون وهناك أهل الكتاب (أهل الذمة).
الالتزام بهذا التصنيف يجعل من الصعب نشوء الشعور بالمواطنة، وبالتالي لا مجال لتطبيق الديمقراطية الصحيحة تحت جناح سلطة تلتزم بالشريعة كلياً أو جزئياً. ومن عناصر الديمقراطية الأساسية “مساواة المواطنين في الحقوق والواجبات”. لذلك فإن التمييز بين المسلم والذمي يلغي المساواة، ويؤدي بالتالي إلى تفريغ الممارسة الديمقراطية من جوهرها… إذا ما أريد تطبيقها إلى جانب التشريعات الإسلامية المحمدية.
وكما أوضح الدكتور عطية في دراسته، فقد حاول مفكرون إسلاميون معاصرون استخدام المسوغات الشرعية للتفريق بين الدين والدولة. ونحن نعرف أنهم يفعلون ذلك اعتماداً على نصوص يمكن أن تسبغ مشروعية فقهية على فكرة “فصل الدين عن الدولة”. وغالباً ما يستشهد هؤلاء بحديث نبوي أورده صحيح مسلم، جاء فيه أن النبي قال لبعض المسلمين: “أنتم أعلم بأمر دنياكم (…) إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به. وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر”. ولأن الحديث مرتبط بحادثة معينة، فإنه لوحده لا يشكل قاعدة سياسية ما لم يستند إلى نصوص قرآنية واضحة.
والواقع أن النص القرآني والسيرة النبوية لا يقدمان آلية لقيام السلطة وتداولها بعد النبي. وكل الترتيبات اللاحقة كانت اجتهاداً بشرياً، وإن حاول فقهاء السلطان إحاطتها بالقداسة. وفي إطار هذا الصراع نضع مسألة تقديم النقل على العقل أو العقل على النقل! وهي مسألة لم تُحسم حتى الآن، وإن كانت النزعة السلفية الأصولية التي تُعطي الأفضلية للنص (النقل) على العقل هي الراجحة، وإليها تنتمي غالبية جماعات الإسلام السياسي، سنيها وشيعيها.
وماذا عن “إمكانية نشوء الدولة الإسلامية الحديثة”؟ يشير الدكتور عطية إلى تجربتي تركيا وتونس بوصفهما دولتين مسلمتين أقدمتا على فرض تشريعات “دنيوية”. لكن التطورات الأخيرة أظهرت هشاشة التوجه الدنيوي أمام تيارات الإسلام السياسي، حيث سيطرت “جماعة الإخوان المسلمين” على مقاليد السلطة: من خلال صناديق الاقتراع في تركيا… وثورة “الربيع العربي” في تونس.
نحن نرى أنه من الصعب التوفيق بين الإسلام الأصولي ومستلزمات قيام السلطة الدنيوية. فالنصوص التي يعتمدها الأصوليون والسلفيون غير خاضعة للتفكير كونها تتمتع بقداسة خاصة تجعلها عصية على التغيير. والظاهرة الأخطر كذلك أن التقديس ينسحب على الأشخاص أيضاً، فتصبح آراؤهم مطلقة في المكان والزمان. إن قداسة النص والشخص هي العقبة المركزية في استحالة نشوء “دولة إسلامية حديثة”… بل أن نزع القداسة عن النص وعن الشخص يعتبر “فريضة عين” إذا أردنا للعالم العربي أن يخرج أخيراً من عصر الانحطاط المديد.
28 تشرين الأول 2020