راهنية سعاده والتحديات المعاصرة – أسامة عجاج المهتار
** تنشر بالتزامن مع موقع سيرجيل (https://sergil.net)
تمهيد
انطلقت الدعوة لهذه الندوات من المقال الذي كتبه الأستاذ عبد المنعم على عيسى ونشرته صحيفة الأخبار. وقد تناول زملائي الأمناء في الحلقة الماضية وحلقة اليوم بعض النواحي حول راهنية فكر سعاده، ذلك أن الأستاذ عيسى، إذ ينعى على الحزب فشل مشروعه، يرد ذلك إلى عدم تجديد أفكاره كما يتضح من هذه العبارة:
“شكّل مشروع سعادة حلمَ نهوض كبير، وهو يمتلك مشروعيّة كانت كافية لنجاحه. وعلى الرغم من الضربات التي تلقّاها بفعل التلاقيات الإقليمية سابقة الذكر، كان من الممكن له أن ينهض من جديد، فيما لو نجح منظّروه في تجديد الأفكار بما يتلائم مع الزلازل التي ستشهدها المنطقة عموماً، وسوريا الطبيعية على وجه الخصوص.”
وسوف أنطلق في مقاربتي لهذا الموضوع من الاختصاص الذي أقوم به وهو الإدارة في شكل عام، وإدارة الاستراتيجية والمشاريع والتغيير في شكل خاص، وهو مجال عملي منذ سنوات. والهدف هو الإضاءة أولا على ما توخّاه سعاده، ومن ثم الوصول إلى خلاصة حول النجاح والفشل، وبعد ذلك مناقشة السبب الذي يعزوه الكاتب للفشل.
بودي، بادئ بدء، أن أقدم تعليقا بسيطا على كلمة “مشروع”. المشروع، حسب تعريف معهد إدارة المشاريع، PMI هو “مسعى مؤقت – له بداية ونهاية محددتان – لخلق منتج فريد أو خدمة أو نتيجة فريدتين.” للمشروع ميزانية محددة. والوقت والميزانية وجودة المخرج، وتطابقه مع المواصفات المطلوبة، هي ما يقاس به نجاح المشروع أو فشله.
وبودي أيضا التفريق بين الفشل وعدم النجاح. الفشل شيء نهائي. نقول، فشل انقلاب عام 1961، هذه حقيقة لا يمكن تغييرها. ولكننا نقول، مثلا، “بالرغم من فشل الانقلاب، فإن الحزب مستمر في سعيه لتحقيق غايته.” قد يكون هناك العديد من الأفشال قبل الوصول إلى النجاح، فاقتضى التنويه.
ما الذي توخاه سعاده
لا شك أن استخدام كلمة مشروع يقصر كثيرا عما توخاه سعاده من تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي. إن السبب الذي من أجله تأسس الحزب هو نظرة سامية تقول “بطلب الحقيقة الأساسية الكبرى لحياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى”، (الصراع الفكري) وهذا أوسع بكثير مما تستطيع كلمة “مشروع” الإحاطة به.
إن التعبير الأدق، من منظور علم الإدارة، لما توخاه سعاده، هو “التحوّل” Transformation. أي التغيير الجذري من حالة إلى حالة. وهنا يكون استخدام المقاييس المعتمدة في إدارة التغيير أدق بكثير من استخدام تلك المعتمدة في إدارة المشاريع. ذلك أن نجاح المشروع يقاس بمدى مطابقة مخرجاته outputs للمواصفات، أما قياس عملية التغيير أو التحوّل فيتم عبر قياس النتائج الحاصلة Outcomes.
نقطة الانطلاق في أية عملية تغيير هي في وعي شخص ما أو مؤسسة ما أن ثمة تغيرا أو تحولا جذريا مطلوب لأن الوضع الحالي لم يعد صالحا، وفي استمراره خطر على الحياة في شكل عام أو على حياة المؤسسة. غير أن هذه النقطة لا تكفي. النقطة الأهم هي في وضع الرؤية لما يجب أن يكون. أما الصعوبة فهي في إقناع المعنيين بضرورة التغيير، وهذه هي أرض المعركة التي يتقرر فيها نجاح عملية التحوّل أم فشلها. فالتغيير لا يتم ما لم يتمكن المقتنعون بضرورته من التغلب على العقبات التي سوف يضعها في دربهم المستفيدون من الوضع الحالي، أو الخائفون من التغيير أو اللامبالون.
وعملية التحوّل تمر في خمس مراحل متسلسلة لا يمكن القفز فوق أي منها هي” الوعي بضرورة التغيير، الرغبة بالتغيير، معرفة قواعد التغيير، القدرة على التغيير، وتدعيم التغيير بعد حصوله.
بعد هذه المقدمة سوف انطلق لبحث ما إذا كان سعاده قد استوفى الشروط الضرورية لعملية التحوّل التي توخاها، ومن ثم النظر فيما إذا كان سبب الفشل الذي قدمه الكاتب لناحية “تجديد الأفكار” هو سبب حقيقي أم لا.
عملية التحوّل
قلنا إن الشرطين الأولين لقيام عملية تحوّل هما عدم صلاحية الوضع الحالي وامتلاك رؤية جديدة لما يجب أن يكون. هل استوفى سعاده هذين الشرطين؟ نعم. لقد شخّص أن الوضع الحالي هو “ويل”، وعيّن السبب الأساس لذلك أنه “فقدان السيادة القومية.” من جهة ثانية، وضع نظرة عالية للحياة ذكرناها في بدء هذا البحث هي: “طلب الحقيقة الأساسية الكبرى لحياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى.” سوف أتوقف للحظات أمام هذه النظرة لنتمعن قليلا في أمرين: لغة القسم الثاني منها، ومن ثم النظر فيما هو المقصود بطلب الحقيقة الأساسية الكبرى. والقصد من هذا التمعن كله مرتبط براهنية الأسس الفكرية عند سعاده. فإذا قلنا إنه وضع نظرة يرى أنها تُصلح الحياة وتخرجها من الويل الحاضر، علينا أن نسأل: هل هذه النظرة وقتية، ظرفية، أم مستدامة؟ لقد استخدم سعاده في القسم الثاني من العبارة ثلاثة أوصاف في صيغة أفعل التفضيل الوسطى: أجود وأجمل وأعلى. إنه لم يقل حياة جيدة، ولا عالما جميلا ولا قيما عالية. فلو فعل لطُلب منه تحديد كل من هذه الأوصاف والوقوف عندها. كذلك هو لم يستعمل أفعل التفضيل القصوى فلم يقل الأجود ولا الأجمل ولا الأعلى. فلو فعل، لكان أيضا وجب تحديد ماهية السقف الأعلى الذي لا تجاوز له. اكتفى سعاده بالصيغة الوسطى التي لا تحتاج إلى تحديد ما قبلها ولا ما بعدها. إنها صيغة متحركة ديناميكية تحتّم على حامليها التفكير المستمر بكيفية تجويد الحياة وتجميلها والارتقاء بالقيم. هذه فرادة هذه الصيغة للنظرة العليا التي قال سعاده “إن الحزب قد تأسس بسببها.” (الصراع الفكري)
نعود الآن إلى القسم الأول من العبارة: طلب الحقيقة الأساسية الكبرى، والتي يصفها سعاده في الكتاب نفسه أنها “قضية الفرد والمجتمع”، فكيف حددها؟ سوف أركز على ثلاث: الوجدان القومي، كما هو في مقدمة نشؤ الأمم، و”المحبة كإيمان اجتماعي” كما وصفها في فصل الموسيقى من قصة فاجعة حب، والصدق كما وصفه في شرح العقلية الأخلاقية الجديدة في المحاضرة العاشرة.
هل لأي مما سبق تاريخ لانتهاء الصلاحية؟ لا أعتقد.
المعركة الأساس
قلنا إن شرطي التحوّل الجذري هما فهم الواقع الحالي واستنباط رؤية للمستقبل، وإن المعركة الأساس هي في الانتقال من هذا الوضع إلى ذاك. ولهذه المعركة شروط لا بد من استيفائها هي الأخرى أهمها أن تكون إرادة التغيير على درجة من القوة تستطيع معها التغلب على معوقات التغيير. ما هي هذه الشروط: إنها المنطلقات وخارطة طريق التغيير وإطار إدارة الخطة الاستراتيجية للتحوّل والاستعداد لخوض معركة الأفكار. أين نجد كل هذا؟
المنطلقات: هي المبادئ الأساسية، وهي كيفما درستها وجدتها مبادئ الهوية والحقوق والمصالح والاتجاه. هذه المبادئ تؤسس للهوية القومية الجامعة الضرورية لاسترداد السيادة القومية. خارطة طريق التغيير هي المبادئ الإصلاحية وهي مبادئ التحرر والمساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية والقوة. أما إطار إدارة خريطة الطريق هذه نجدها في ثلاث كلمات وجهها سعاده لغسان تويني قبيل عودته من مغتربه القسري: إنها المنظمة العقائدية التي تفعل “إدارة وسياسة وحربا لتحقيق أهدافها.”
غاية الحزب: كل هذا لخصه سعاده في غاية الحزب. وغاية الحزب كما يجب أن يكون قد صار معروفا تضم أربعة محاور، ثلاثة منها تعتمد على عمل السوريين القوميين الاجتماعيين، والرابع منها يتعلق بالعالم العربي. سوف أعرض عليكم اليوم طريقة مختلفة لقراءة الغاية انطلاقا من علم إدارة التغيير. في إدارة التغيير ننظر إلى الفعل والمُخرج والنتيجة. بمعنى أنه لكي تتم عملية التغيير لا بد من عدد من المبادرات أو المشاريع أو البرامج ينتج عنها مخرجات معينة وفق مواصفات معينة، ولكن الأهم أنه سيكون لها فعل تغييري في المجتمع، أي نتائج تكون مقررة سلفا.
لنقرأ غاية الحزب وفق هذه المنهجية. المحور الأول: الفعل هو “بعث نهضة”، المخرج هو “تحقيق مبادئ الحزب” أما النتيجة فهي “إعادة الحيوية والقوة إلى الأمة السورية”؛ المحور الثاني: الفعل هو “تنظيم حركة”، المخرج هو “استقلال الأمة السورية”، اما النتيجة فهي “تثبيت السيادة”؛ المحور الثالث: الفعل هو: “إقامة نظام جديد”، المخرج هو “تأمين مصالح الأمة”، أما النتيجة الأخيرة فهي “رفع مستوى الحياة” في الأمة السورية، وهذا ما يعيدنا إلى النظرة العليا آنفة الذكر. أما المحور الرابع، فمع أنه في صيغة “السعي” بسبب وجود أطراف خارجية هي بقية أمم العالم العربي، فإن المخرج هو “قيام جبهة عربية” أما النتيجة المرجوة فهي – ونقرأها في أمكنة أخرى خارج عبارة الغاية، في خلق سد في مواجهة الاستعمار.
على ضوء ما سبق لنقرأ غاية الحزب انطلاقا فقط من النتائج المرجوة والمقررة في غاية الحزب فنجد أنها: “إعادة الحيوية والقوة إلى الأمة السورية، وتثبيت سيادتها ورفع مستوى حياتها.”
هل لأي مما سبق تاريخ لانتهاء الصلاحية؟ لا أعتقد.
جرد حساب
إذا وضعنا جانبا ما أنجزه سعاده في حياته القصيرة لناحية تشخيص الواقع والرؤية لمستقبل أفضل وصياغة المنطلقات وخارطة الطريق والإطار لإدارة الخطط الاستراتيجية، إذا وضعنا كل هذا جانبا وركّزنا النظر في أين نحن من غاية الحزب أفعالا ومخرجات ونتائج، فماذا نرى؟
نرى أن بعض الأفعال الضرورية قد بدأت، وأن بعض المخرجات قد حصلت، ولكننا لم نحصّل أيا من النتائج المرسومة في غاية الحزب. من هنا، فإن الحكم الذي أطلقه الأستاذ عيسى، صحيح في معظم جوانبه ولكن ليس كلها. الجدول أدناه يعطينا فكرة عما نقول. من جهة ثانية، فإن عدم النجاح لا يعني الحكم بالفشل النهائي. إن في كل هذا ما يجب أن يعطي دفعا للمخلصين لأخذ العبر والاستمرار بوسائل وطرق جديدة.
ملاحظة أخيرة حول هذا الموضوع. لا يمكن توقع مخرجات أو نتائج بدون الفعل. والفعل ليس بالضرورة أن تنتج عنه المخرجات المطلوبة وفق المواصفات المرغوبة. كذلك، إن حصولنا على المخرجات لا تعني تحقيق النتائج بالضرورة وهناك أمثال كثيرة على ذلك. إن تحقيق النتائج، والذي هو الغرض الأخير، عملية معقدة ولا مجال للخوض فيها هنا.
سبب عدم النجاح
نأتي الآن إلى القسم الأخير من بحثنا ونعيد طرح السؤال هل صحيح أن مشروع سعاده ما كان ليفشل “لو نجح منظّروه في تجديد الأفكار بما يتلاءم مع الزلازل التي ستشهدها المنطقة عموماً؟”
لا نعتقد، بل نقول إن العكس هو الصحيح. ذلك أن معظم القيادات الحزبية أثناء غياب سعاده في المنفى، وبعد استشهاده فعلت هذا بالضبط، أي أنها – تحت ستار التجديد والتطوير ومواكبة العصر – حاولت أن “تلائم” فكر سعاده مع سواه – لا بل مع ما جاء ليحاربه، فكان فشلها وفشل الحزب في ذلك ذريعا، خاصة لناحية تحقيق النتائج التي تأخر تحقيقها كثيرا.
إن انحراف الحزب نحو الواقع اللبناني كان ملائمة من قيادة الحزب في الاربعينيات مع الانتداب والكيانات الناشئة عنه. كذلك كان موقف الحزب من الأحلاف الغربية في الخمسينات تماشيا مع المد الغربي؛ ثم دورانه مائة وثمانين درجة في نهاية الستينات باتجاه اليسار والمنظومة الاشتراكية الصاعدة، ثم قبول الحزب بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، وصولا إلى ان يصبح أحد “أحزاب المناقصة” – والتعبير للدكتور نديم محسن – إبان الوجود الشامي وصولا إلى وضعه اليوم. في كل من هذه الأدوار، كانت قيادات الحزب، وهي هي نفسها، تتأقلم مع الوضع الجديد ولكن على حساب نظرة الحزب إلى الحياة وغايته وعقيدته ومنطلقاته وخططه وأخلاقه، وعلى حساب المخلصين من أتباعه.
نحن حددنا أزمة الحزب المستمرة منذ استشهاد الزعيم، بل حتى أثناء غيابه القسري بأمر أكثر بساطة بكثير. لقد حددناه بإهمال الغاية التي من أجلها أنشئ، أو بالانحراف عنها نحو غايات أخرى خصوصية. ولا نعتقد أننا كنا مخطئين، بل إن سعاده هو الذي يوصلنا إلى هذه النتيجة. أليس هو القائل، “كل عقيدة عظيمة تضع على عاتق أتباعها المهمة الأساسية الأولى التي هي تحقيق غايتها. كل ما دون ذلك باطل، وكل عقيدة يصيبها الإخفاق في هذه المهمة تزول ويتبدد اتباعها.”
إن التحدي الكبير الذي نواجه اليوم هو نفسه تماما الذي حدق سعاده نظره فيه منذ ما يقارب القرن. إنه الويل الناتج عن فقدان السيادة القومية. الباقي تفاصيل. نعم، كبر حجم الويل، وتشعبّ، أما العلاج الذي وضعه سعاده، وعرضنا أسسه، فلم يتغير.