بين المؤامرة والوعي… قطبة مخفية !
إطلعتُ خلال الأيام القليلة الماضية على موقفين نموذجيين، مصدرهما مختلف، لكنهما يعكسان منطقاً أعرج واسع الانتشار بين مختلف الطبقات الاجتماعية في عالمنا العربي. وخلاصة ذلك المنطق أن أمراضنا التاريخية والمعاصرة إنما هي نتاج مؤثرات خارجية طارئة، ولا علاقة لها البتة بأوضاعنا نحن بالذات من حيث مسؤوليتنا العامة تجاه غياب الوعي القومي مقابل تفشي عوامل الانحطاط والانهيار القومي والاجتماعي.
ويبدو لي أن المنطق الذي يعمد إلى ترحيل الأزمات الداخلية نحو الماضي أو نحو المستقبل، هو صنو المنطق الذي يحمّل القوى الخارجية مغبة الأوضاع المتردية التي تعيشها بلادنا الآن. ولا يقتصر ذلك على الموقف الذي نتخذه من الأحداث السياسية الحالية، وإنما يحاول بعضهم أن يقرأ التاريخ القديم بإسقاطات معاصرة تتجاهل عمداً ظروف الزمان والمكان والمتغيرات الاجتماعية الحاصلة على مدى قرون.
الموقف الأول جاء في كتاب “دروس التاريخ” للدكتور محمد العبدة. والحقيقة أنني لم أتمكن بعد من الحصول على نسخة من الكتاب، لكن ما أورده أحد الزملاء في معرض تقريظه للمؤلف لفت انتباهي، خصوصاً العبارات التالية التي أنقلها حرفياً عما كتبه الزميل في مقاله الموجز. يقول المؤلف في تناوله لحادثة مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان في المدينة المنورة، إن السبب في ذلك هو “دخول الجماعات الجديدة من شعوب البلدان التي فتحها المسلمون”. ويقصد بهم الفرس والسوريين والروم والأقباط وغيرهم. ثم يجري مقارنة بين المجتمعات ليؤكد “أن مجتمع المدينة كان نظيف القلب، طافحاً بالمحبة ولا يعرف الدسيسة”!
طبعاً هذا كلام يُسقط الحاضر على الماضي، ويستحضر الرؤى المعلبة بما يتناقض مع وقائع التاريخ. فالشعوب التي فُتحت بلدانها لم تكن موجودة في المدينة عندما شهر المهاجرون (وهم صفوة الصحابة وطليعة المسلمين) سيوفهم في وجه الأنصار (حماة الرسول وأوائل المؤمنين به) عند سقيفة بني ساعدة بعد وفاة النبي. ما جرى آنذاك عبارة عن صراع قبلي بين قريش، قبيلة الرسول، وباقي القبائل التي دخلت الإسلام طوعاً أو عنوة. وكذلك لم يكن للشعوب “المفتوحة” أي دور في حروب الردة التي خاضها الخليفة الأول أبو بكر الصديق ضد القبائل المتمردة على سلطة قريش المتمركزة في المدينة. ولا يمكننا فهم الصراعات الدموية بين المسلمين من دون الأخذ في الاعتبار التنافس القبلي أولاً، ثم التنافس الداخلي في قريش بين الهاشميين والأمويين والسفيانيين والعباسيين ثانياً. والواقع أن الشعوب الأخرى دفعت ثمناً باهظاً لهذا الصراع الذي رسّخ القيم القبلية البدوية في تلك المجتمعات على حساب القيم المدينية الحضارية.
الموقف الثاني جاء في رسالة من أحد الرفقاء ينقل فيها عن مواطن شامي لاجئ في فرنسا عبارات تعكس ذلك المنطق غير السليم، لكن من منظور معاصر، في التعامل مع سياسات دول وعت هويتها القومية وراحت توظف كل الأدوات المتاحة لها لتعزيز مصالحها القومية.
القول أن إيران تعمل من أجل مصالحها القومية في مجالها الإقليمي الحيوي، ومن ضمنه بلادنا، لا يستدعي أي جدال أو نفي. فهذا من طبيعة التطاحن بين المصالح المتضاربة للأمم ذات السيادة، حتى وإن كنا متضررين من تلك السياسات. لكن ما نعترض عليه، ويتطلب منا تشريح أبعاده الخطيرة، هو العبارة الثانية التي وردت على لسان المواطن الشامي: “ما فعلته إيران في العراق وسوريا لا يمكن السكوت عليه. الشحن الطائفي لم يوجد في المنطقة مثلما هو عليه الآن. أعتقد أن على إيران الانسحاب من المنطقة وترك الشعوب العربية تقرر مصيرها بنفسها”!
هذا الكلام يتضمن مقولتين مهمتين: أن الشحن الطائفي لم يكن على هذا المستوى في المنطقة من قبل، وأن أوضاع “الشعوب العربية” ما كانت لتصل إلى هذا الدرك لولا “التدخل الإيراني”! ولمزيد من النقاش حول النقطة الثانية، نستطيع وضع أسماء تركيا ومصر والسعودية، ثم فرنسا وبريطانيا وأميركا وروسيا، بل أية دولة أخرى… مكان إيران من دون أي تغيير يُذكر في النتائج المترتبة على التدخلات الأجنبية في أمم ودول فقدت سيادتها على قرارها وعلى مجتمعها.
نحن نرى أن التدخلات الخارجية في بلادنا، سواء من قبل إيران أو تركيا أو مصر أو السعودية، ليست السبب في حالة الانحطاط التي تعيشها دولنا ومجتمعاتنا في سوريا، وإن كانت تعزز تلك الحالة الانحطاطية وتستخدمها. بل هي نتيجة متوقعة لغياب الوعي القومي وفقدان الوجدان الاجتماعي وتضعضع بوصلة المصالح العامة وانهيار منظومة المناقب في الأوساط الشعبية.
الخطوة الأولى في مسيرة التصدي للتدخلات الأجنبية ووضع حدّ نهائي لها تبدأ بالسؤال الذي طرحه سعاده على نفسه وعلى أمته عندما عانى ما عاناه من ويلات الحرب العالمية الأولى: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ وللأمانة التاريخية نقول إن آخرين من مفكري وكتاب ما يُسمى “عصر النهضة” خطرت في أذهانهم أسئلة مماثلة. لكن الفارق الكبير بينهم وبين سعاده أنهم “علقوا” مشاكلنا القومية والاجتماعية كلها على مشجب التدخلات الخارجية، في حين أعلن هو أن غياب الوعي القومي وتشرذم الولاءات الاجتماعية هما اللذان سهلا للقوى الأجنبية نزع سيادة الأمة على نفسها.
ولذلك فإن الإصلاح الجذري في بلادنا يجب أن ينطلق من الاعتراف بأننا نعيش عصر الانحطاط القومي والاجتماعي، بغض النظر عن المؤثرات الخارجية. هناك خلل عضوي في مجتمعاتنا يشمل كل مناحي حياتنا، إذ لا توجد مؤسسات قومية راسخة (خارج نموذج الحزب السوري القومي الاجتماعي) يمكن أن تشكل قاعدة انطلاق نحو بناء الإنسان ـ المجتمع كنقيض للإنسان الفردي الطائفي العرقي العنصري إلخ… الصراع السني ـ الشيعي وُجد قبل إيران (الفتنة الإسلامية الكبرى بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وعائشة، ثم بين أبناء هؤلاء وأحفادهم…) وسيستمر بعدها طالما أن شعوب العالم العربي لم تنتقل بعد من مرحلة الهوية الدينية المذهبية الضيقة إلى رحاب الهوية القومية التي تشمل المتحد بأكمله.
إن الذين لا يرون أبعد من الوقت الراهن، ومعهم الذين يقرأون التاريخ ويكتبونه بألوان دينية وطائفية وعرقية، إنما هم جزء من المشكلة وليسوا أداة للحل. الشحن الطائفي موجود منذ قرون، ودائماً ما ينتظر الظروف المناسبة لينفجر حروباً أهلية مدمرة. والصراع الإقليمي الراهن هو صراع مصالح سياسية يتخفى خلف أقنعة الصدام السني ـ الشيعي. لكن هذا يجب أن لا يعمينا عن رؤية المصالح القومية الحيوية التي دفعت إيران الشاه إلى إرسال قواتها للدفاع عن دول الخليج السنية وقتما هددتها الثورات الشعبية في ستينات وسبعينات القرن الماضي!
مقياس العلاقة مع أي كان، بالنسبة إلينا كقوميين اجتماعيين وعوا هويتهم السورية الواضحة، لا ينطلق من خلفيات دينية أو طائفية أو عرقية وإنما من إدراك للمنافع المشتركة التي تصب في خانة المصلحة القومية العليا. وتتحقق هذه المصلحة كذلك من خلال عدم الإنجرار وراء الغرائز الشعبوية، بل علينا أن نبقي أهدافنا القومية ثابتة ومنزهة عن التحالفات السياسية الآنية التي هي، بطبيعتها، متحولة ومتغيرة.