عندما ينتقل الإيمان بالله إلى الإيمان بالدين ـ صوفي نادر
منذ فترة لا بأس بها، يقوم العديد من وسائل الإعلام بإعادة إلقاء الضوء على المسيحية الصهيونية والتحذير من مخاطرها على مستقبل أمتنا وعلى المخطط السياسي وما يتضمنه من برنامج اجتماعي واقتصادي قائم على المصالح الكيانية دون مصلحة الأمة العامة. مخطط لا وجود لمنفعة منه إلا إذا نظرنا باتجاه إسرائيل. فهي الرابح الأكبر في كل ما يجري وهي المحرك الأساسي الذي تدور حوله كافة أنشطة الحوار والاتفاقيات وما شابه.
وللمسيحية الصهيونية مجالات عديدة للبحث تبدأ من الموقع الفقهي للإيمان، لتمر بكيفية العمل على تحقيق الإيمان، لتصل إلى تجيير الإيمان والعمل على تحقيقه لأغراض سياسية لا علاقة لها بالدين ولا بالإيمان.
تتشابك هذه الأمور الثلاثة مع بعضها البعض لنجد أنها تشكل عملا منسجما يفي بالغرض المنشود كيفما قلَّبناه في تحليلنا له. وفي كل مرة نحاول الإمعان في فهم التوجهات السياسية المتعلقة في أمتنا ونتجه نحو خلاصتها نجد خلفها، إن لم تكن المسيحية الصهيونية بحد ذاتها، إيمانا غاشما محتكرا الإله لمصالحه الخاصة.
المسيحية الصهيونية ليست حديثة العهد كما نعرف لأنها بدأت في القرن السابع عشر على أساس ديني محض (راجع مقالة المطران مارون لحام) وعملت على تحضير الأرضية الصالحة لعودة المسيح المخلص حسب نصوص وردت في التوراة والإنجيل. هذه الفكرة تُبَرر على أنها العودة إلى الدين الصحيح وعدم التقيد بالتيارات المسيحية الأخرى كالكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانتية. (إقرأ مقال سامي كليب حول الموضوع). فنرى تيار الإصلاح (restaurationism) الذي استقر في بريطانيا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر رائدا في هذه الدعوة.
لم يتورع، منذ القدم، العديد من القادة إلى تجيير وتجييش الموالين لهذا التيار في خدمة مصالحهم. فنرى مثلا نابليون بونابرت، في بيان له نشر في أيار 1799 في الصحيفة الرسمية للجمهورية الفرنسية، يدعو فيه يهود آسيا وأفريقيا الانضواء تحت العلم الفرنسي لاستعادة “أورشليم” القدس.
وتابعت هذه المسيحية طريقها في المجال السياسي لتضمن استمراريتها واستمرار نهجها، فنراها في عصرنا الحديث تخوض المعترك السياسي لتساند المرشحين للرئاسة الأميركية، خاصة الأخير منهم، فتحصل مقابل هذه المساندة على دعم سياسي دولي لتحقيق مآربها في مبتغاها الأساسي أي تحضير الأرضية الصالحة لعودة المسيح . وقد كانت المسيحية الصهيونية سابقة للصهيونية اليهودية في تحركها السياسي. فبينما عملت الأولى، على عودة اليهود إلى “إسرائيل” واعتناقهم للديانة المسيحية تحضيرا لعودة المسيح، عملت الثانية على إنشاء دولة يهودية في فلسطين. واستعان التياران ببعضهما البعض إثر الحرب العالمية الثانية، كل حسب سياسته وإيمانه، لضخ المزيد من الشفقة على “الإبادة اليهودية” والمطالبة بتصحيح الأعمال المشينة عبر المساعدة على تحقيق الهدف المنشود.
لا يمكن تحقيق هدف المسيحية الصهيونية كما هو محدد في توجهاتها إلا إذا استطاعت تجيير كافة التوجهات الإقليمية لصالحها أو أجبرت، بشكل أو بآخر، الأطراف المعنية القبول بالعمل من ضمن مخططها. فمن الطبيعي أن يتبادر إلى ذهننا تداعيات الأزمة السورية. إنها، كأزمة، “الطرف الأول المعني” في تسهيل تنفيذ مآرب المسيحية الصهيونية. ونرى في هذا الإطار أن كافة التوجهات الإقليمية، بغض النظر عن محركها الظاهر أو المخفي، وبغض النظر عن المصالح الظاهرة التي تعمل عليها أو تلك المخفية منها، تتجه كلها نحو انجاح الخطة الصهيونية، مسيحية كانت أم يهودية.
العامل الديني الإسلامي في أزمة أمتنا كان ولا زال دون أدنى شك طرفا من أطراف النزاع. وإذا كانت المصالح الوطنية والقومية للأطراف الأخرى قد استقر قرارها وأصبح الحل في اتجاه واضح المعالم، بقي أن يسير هذا العامل الديني، كطرف، في نفس الاتجاه فتختم الحلقة وتنتهي دورتها.
من هذا المنطلق، نرى أن تكثيف العلاقات بين تيارات المسيحية الصهيونية والدول الخليجية أمر في غاية الأهمية والخطورة. إنه يأتي أولا ليكرس ما بدأه الرئيس الأميركي في علاقاته المشينة مع العديد من هذه الدول واستغلاله لثرواتها، وثانيا للعمل على تغيير الرأي العام الخليجي الذي ما زال حتى اليوم “يعاني” من إيمان كبير بدينه الإسلامي إن لم يكن أحيانا “تزمتا”.
أن يثني الإنجيليون مثلا على الجهد الإماراتي في إقامة السلام وممارسة التسامح أمر فيه من الغبار ما يعمي البصيرة. وأن تتوصل “كنيسة المسيح” إلى فتح مكتب تمثيلي لها وليس مقر عبادة في نفس الدولة أمر يدعو إلى التساؤل. كذلك حصلت نفس الكنيسة على موافقة من الكويت في هذا العام وكانت الكنيسة الإنجيلية قد حصلت على الموافقة عام 2016 وأنشأت ديوانية تعنى بمناقشة آخر التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وتم تقديم طلب رسمي إلى حكومة سلطنة عمان لفتح مكتب تمثيلي لكنيسة المسيح علما أن الكنيسة الإنجيلية فاعلة في السلطنة وهناك العديد من العمانيين الذين اعتنقوا الانجيلية. وكان ليكون عددهم أكبر لولا قانون العقاب المطبق في السلطنة على الذين يبدلون دينهم الإسلامي
لو اقتصر عمل التيارات الدينية على الدين فقط، أي على ممارسة العبادة والإيمان بالله، لما دُق ناقوس الخطر. إنما العمل على استبدال الإسلام السياسي بالمسيحية السياسية أمر في غاية الخطورة، بدأ منذ سنوات لا بأس بها ويتابع طريقه حتى يؤمن الجميع أن إسرائيل واقع ضروري وحتمي الوجود.
في كل مرة نحاول فيها تحليل أمر أو ظاهرة جديدة أو التنبيه من مغبة توجه معين، نرى أن التشعبات كثيرة تطال حتى الحالة النفسية العامة لشعب ما. وهذه الحالة النفسية معدية فتاكة لا يفلت منها إلا القليل الذي استطاع التفرقة بين الفكر والعمل على تطبيقه من جهة، وبين عملية محو الفكر وتثبيت تطبيقات عملية جديدة من جهة أخرى. لقد أصبحت العوالم العربية مهيأة حاليا لقبول أي فكر جديد والصراع من أجله.
أما أمتنا، فحدث ولا حرج. لقد سئمت الصراعات الدينية بسبب ما عانت منه، وتأمل التغيير علها تنجو. حتى المتشددين منهم، مسيحيين أو مسلمين أصبحوا يرون في هذه التيارات نجاة لحاضرهم المرير. وأصبح الأمر لا يتعلق بالإله بقدر ما يتعلق بالدين كمؤسسة تعنى بتنظيم حياة المؤمنين. وهنا وددت أن أقوم بمقارنة بسيطة علني أستطيع إيصال اقتناعي لهؤلاء الذين يتمسكون بالأديان وينسون الله. والمقارنة تقوم بين الفكر والممارسة.
إن أول ما بشر به الأنبياء والرسل كان الإيمان بالله، فأتى الدين لاحقا لينظم هذه الإيمان ويطبقه في حياة البشر اليومية. إذا ليس الدين فكرا، بل هو تنظيم. إن الله فقط هو الفكر. كما الأحزاب التي تنشأ للعمل على تطبيق الفكر الذي يحركها.
العملية التي تمارسها التيارات الدينية من أجل إقناع المواطن أن “تنظيمها” هو الأفضل والأصح هي نفس العملية التي يمارسها حزبان ديمقراطيان مختلفان في إقناع المواطن بأفضلية كل واحد من الآخر. فالجدال لا يدور حول الديمقراطية ولا يدور كذلك حول الله. بل يدور حول المصالح التي يؤمنها هذا أو ذاك التيار الديني، هذا أو ذاك الحزب.
مستقبلا، سينسى المواطن أن الله هو أساس إيمانه تماما كما نسي فكرة الانتماء الوطني. وسيعمل على نصرة دين خال من ربه تماما كما يعمل على نصرة حزب خال من عقيدته. وما دام هذا المواطن مستمر في تجاهله للفكر أيا كان، سيبقى الإيمان يتنقل من تنظيم إلى آخر أو من دين إلى آخر دون جدوى.