عقيدة الحياة الجديدة
د. تيسير كوى
واجه الانسان، كفرد وجماعة ويواجه منذ كان، مشاكل مادية وروحية “عقبات وصعوبات ومحبطات وأوجاع وتساؤلات وطموحات وكوارث طبيعية الخ..”. وازدادت هذه المشاكل وتشعبت وتشابكت وتنوعت، كما ازداد تنوع وتشابك وتعقد مواجهة الانسان لها مع مرور الزمن وتطور الأحوال والأوضاع والعلاقات البشرية. ووجد الانسان السّوي أن معالجة هذه المشاكل كلها، لاسيما إذا كانت منغّصة مؤلمة، تتطلب التفكير الهادئ والتأمل والتروي والتحليل والاستنباط والاستدلال والاستفادة من الخبرة المتراكمة أي تتطلب إبقاء الفكر و”العاطفة” ناشطًا فاعلًا مؤثرًا، أي أن المطلوب الدائم هو أفكار وتصورات وحلول وتخطيط، ثم وضع هذا كله في مبادئ أي قواعد أساسية “قل عقائد”، تكون صالحة لمعالجة المشاكل ولاستمرار الحياة والتكفل بانطلاق الفكر مع العمل دائمًا. تتبلور العقائد وتترسخ ويتبنى الانسان الصالح منها على أمل حل مشاكله كلها الروحية والمادية. والبديهي أنه كلما التصقت هذه العقائد بأسباب المشاكل وجذورها وبنجاعة ما توحي به من تدبر، ازداد تعلق الانسان بها وأهمل مالم يفد، وبقي عابرًا لقلة الحاجة أو لانعدامها اليه، ما يعني أن العقائد أو الحلول هي لحل المشاكل أو للتخفيف من وطأتها ولتكون منطلقًا ونبراسًا للسلوك الانساني وتنظيمًا لأحلامه وتطلعاته، وتسكينًا لاضطرابه وقلقه، وضمانًا لارتياحه وسعادته واكتفائه.
في ضوء هذا كله ما فعل أنطون سعاده، الذي رأى بعينه شعبه يعاني ويلاتٍ ما بعدها ويلات، لأسباب منها تسلط العثمانيين الأجانب وانعدام وجود مصلحين وقصور التدابير المتخذة، ما أوصل الشعب السوري إلى المجاعة والفقر والضعف وتخلي البعض عن الوطن. تساءل سعاده عن أسباب هذه الويلات، وتوصل الى نتائج، يجب على الانسان المفكر السوري في بلادنا أن يطّلع عليها بإمعان وتدقيق.
المؤسف أن البعض يقرأ إنتاج سعاده الفكري الغزير الموجه كما يقرأ القرآن الكريم والانجيل، أي يؤخذ بسحر الكلمة أو غموضها، ولا يكلف نفسه عناء التعمق في مغزاها ومراميها. والمحزن أن البعض لا يقرأ ليفهم، بل لمحاولة العثور على ما يمكن التهجم عليه وتسفيهه أو انتقاده. أحيل القارئ إلى كتاب نشره إياد موصلي تحت عنوان “أنطون سعاده ماذا فعلت” عام 2016.
كان شعار الثورة الفرنسية الشهيرة، حرية ومساواة وأخوة، وهو ما كان مناسبًا للشعب الفرنسي وقتها. أتى سعاده بشعار يتناسب مع أحوال السوريين فنادى بقيم الحرية والواجب والنظام والقوة.
كشف سعاده للسوريين عن هويتهم وهم سوريون، لأن أجيالهم المتعاقبة منذ ما قبل التاريخ الجلي تقيم في الأرض المقدسة التي اسمها سورية، فالأرض هي الأساس وهي المرجع وهي الملاذ وهي مفتاح الحياة والرزق والرخاء والاستمرار والبقاء.
نبه سعاده السوريين الى هويتهم التي لم تتبدل لأن سورية لم تتبدل، رغم تعاقب الأقوام أو العناصر البشرية المتنوعة والأديان واللغات عليها. وفي الحزب الذي أنشأه سعاده وسيلة لتحقيق مراميه وطموحاته، كان المحمدي الشيعي والسني والمسيحي والكردي والأرمني والشركسي والآشوري والسرياني والكلداني، ينطقون باللغة نفسها ويدينون بالولاء نفسه ويطمحون أن تكون سورية حرة متعافية تنعم بالرخاء الذي توفره لها موارد الأرض السورية السخية المتفاعلة مع النشاط الانساني السوري الفاعل والخلاق.
نادى سعاده بالحرية، أي حرية الجماعة، أي حرية السوريين التي هي شرط حرية الفرد السوري. وقال للذين تخلوا عن الأرض السورية لكي ينعموا بحريات أمم أخرى أنهم إذا لم يكونوا أحرارًا من أمةٍ حرة، فحريات الأمم عار عليهم. لأن الأمم الحرة في العالم لم تصبح كذلك إلا بعدما دفعت أثمانًا باهظة جدًا، ولم تبق هذه الأمم حرة إلا بفضل تضحية الفرد بنفسه إذا استدعى الأمر. لا يمكن أن يكون الانسان حرًا إذا كان مجتمعه مكبلًا ذليلًا خانعًا يفتقر إلى الحرية والإرادة غير المقيدة إلا بما هو في مصلحة سورية.
قال سعاده للسوريين: إن فيكم قوة لو فعلت لغيرت مجرى التاريخ. وهذا قول لا يتفوه به إلا إنسان يؤمن بشعبه وبمواهب هذا الشعب وامكانياته وقدرته على الارادة والتفكير والفعل وقهر المشاكل.
قضى سعاده على عقيدة “بعد حماري ما ينبت حشيش”، فصار همّ القومي الاجتماعي أن يفعل ما يستطيع لكي يحمي سورية والسوريين ويدفع عنها وعنهم الأذى والاعتداء.
وقضى سعاده على القبلية والطبقية، فصار القومي الاجتماعي لا يكنّ ولاءً فئويًا أو قبليًا أو عائليًا، أو أي جهة أخرى، إلا لسورية وللسوريين، أي للأرض السورية المقدسة وللسوريين وتاريخهم.
إذا نظر المرء بتجرد الى هذا كله، أدرك أن سعاده أتى بمعجزة بكل معنى الكلمة، لا سيما بعدما شهدته الساحة السورية في الجمهورية اللبنانية وفي أماكن أخرى من سورية الطبيعية، من تشرذم وولاءات غريبة عجيبة وتذابح. لم يطالب سعاده تلامذته الا بما أقدم عليه هو نفسه، فكان أنه قبْل الموت، شكر جلاديه السوريين لأنهم أزالوا ما كان يؤلم ركبته، فيما كان يواجه اثنتي عشرة رصاصة فصلت ذراعه عن جسمه أطلقها سوريون ملأ الحكام الأغبياء العبيد قلوبهم وعقولهم بالحقد على سعاده وحزبه. سورية بحاجة ماسة في الوقت الراهن الى أمثال سعاده. في الوقت الراهن لدينا أبطال ولدينا مفكرون وفاعلون، لكن سعاده، كان سيتفوق على الجميع لو أنهم دعوه يكمل رسالته. من هم هؤلاء الذين قتلوا سعاده؟ أحيلكم الى كتاب الراحل أنطوان بطرس عن “قصة محاكمة أنطون سعاده وإعدامه” الصادر عام 2002.
لقد تعاقبت على هذه الأرض المقدسة، سورية، أقوام كان منها الخبيث الهدام، ومنها البنّاء الذي ساهم في إغناء حضارتها وترسيخ هذه الحضارة وقوّى روحيتها ودفعها قدمًا الى الأمام.
ومن جهة أخرى، إذا درس المرء المنصف، تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، لاكتشف أن القوميين الاجتماعيين ضحوا وفعلوا الكثير في سبيل عقيدتهم وتعبيرًا عن ولائهم لسورية الأرض وللسوريين ولسعاده الرمز. لقد تحمل القوميون الاجتماعيون الاذلال المتعمد والأسر والتهجير والافقار والتعذيب.
يقول شاهد أنه رأى بعينه، عملاء سلطة في دولة سورية يطلق الرصاص انتقامًا على تركتور يملكه قومي اجتماعي مسؤول عن أسرة كبيرة وذلك لكي يمنعونه من الاعتناء بأرضه وإعالة أسرته. القوميون الاجتماعيون لم يتعاملوا مع عقيدتهم كما يتلهى البعض بسبحته، (أي طقطقة مسابح).
تساءل سعاده عما أنزل الويلات والمصائب بشعبه السوري. أما السوري المعاصر فيتوجب عليه، لا الاكتفاء بطرح السؤال نفسه على نفسه وضميره، بل عليه أن يتساءل عن الأسباب التي تجعل الغربي، لا سيما الأميركي والبريطاني واليهودي والتركي وبعض العربي، يمعن في التطاول والتواقح على هذه الأمة التاريخية العريقة، التي أعطت الانسانية أكثر بكثير مما أخذت منها ولا تزال، أعني الأمة السورية.
فلو لم يخض السوريون حربًا قاسية على أمثال “داعش”، لعمّ الظلام الكرة الأرضية وانتهى هناء الأمم ورخاؤها. داعش سمّ عقلي وجسدي، فالقضاء عليه وعلى من صنعه واجب على الانسانية المدينة لسورية المعاصرة بالقضاء عليه وعلى أمثاله، ريثما يتسنى لها أن تهذب أولئك الذين خلقوا داعش وسلحوه ومولوه وبالغوا في إفساد أخلاقه التي كانت فاسدة على كل حال.
كلمة عن سم “المساعدات الانسانية”: تهدف هذه المساعدات الى تدمير الانسان موضوع المساعدة، فالذي يقدم المساعدات يبدأ عادة بمحاربة موضوع المساعدة ثم تهجيره وحرمانه من أرضه وخيراتها، أي يجعله يعتمد على غيره لكي يتجنب الجوع. في الأحوال العادية يعمل الانسان لكي يطعم نفسه وعياله لكنه متى أصبح مهجرًا لاجئًا، صار العمل شبه مستحيل، أي بدأ الاعتماد على الغير والحسنات والصدقات التي تصبح الطريق الى البقاء.
انظروا ما حل بالفلسطيني بعدما هجروه ومارسوا عليه شتى صنوف الإرهاب، ثم قدموا له “الأونروا”، التي صار الفلسطيني هو وعياله “عبدًا” لهذه الهيئة الدولية التي صار يخشى انقطاع “الرزق” منها. غاية المساعدات “الانسانية”، هي في الأخير، تعويد الانسان على العجز.
في علم النفس الحديث يطلقون تعبير العجز المكتسب (Learnt helplessness)، أي تعلم العجز وانعدام الحيلة والتدبر. لا يريد الذين شنوا الحرب على الجمهورية العربية السورية وجمهورية لبنان، وقبل ذلك العراق، أن يعود السوريون الى بلدهم، لكي يكملوا تعليمهم التسول والاعتماد على الغير أي تعليمهم العجز وضيق الأفق وانعدام الحيلة. هذا هو التدمير الاجتماعي وهذا ما تبغيه الولايات المتحدة الأميركية وأدواتها من أمثال الاسرائيليين والأتراك وبعض العرب ومن لاذ بحظيرتهم.