طبول الحرب تقرع.. بالخليج وقائد أوركسترا مكسور اليدين – د هشام عوكل*
إن الوضع المتأزم والملتهب في الشرق الأوسط على غير عادته السابقة، ومحاولة الولايات المتحدة الأمريكية السيطرة على العالم، هو وضع جديد جاء مع صفقة القرن لفرضها وتطبيقها بأي طريقة كانت. وللمرة الأولى منذ انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، قررت واشنطن قلب الطاولة بوجه طهران، وغادرت المساحة الرمادية التي استخدمتها لربط النزاع معها والتي نجحت عبرها في الحفاظ على علاقة مريبة بين البلدين على مدى 40 سنة. لقد استطاع الطرفان خلال هذه الفترة تجاوز الأزمات وتجنب المواجهة المباشرة، بعدما تمسكا بما يمكن تسميته “شعرة معاوية̔” والتي، على ما يبدو، لم تعد إدارة البيت الأبيض متمسكة بها، وحذّرت طهران من أن خياراتها الاستراتيجية تبدلت.
في لقائه مع الصحفيين في البيت الأبيض قال ترامب: “سترى الولايات المتحدة ما الذي ستحاول فعله إيران بعد أن أرسلت واشنطن حاملة طائرات ونشرت مزيدا من المقاتلات في المنطقة”. وتزامنت تصريحات ترامب مع تطورات ميدانية في الخليج، حيث ذكرت القيادة الأميركية الوسطى أن قاذفات “بي 52” التي أُرسلت إلى منطقة الخليج قبل أيام تحسبا لأي هجوم إيراني ضد المصالح الأميركية، نفذت أولى طلعاتها الجوية انطلاقا من قاعدة العديد في قطر. وعلاوة عن ارتباك وغموض بشأن هجمات الفجيرة التي تعرضت لها أربع سفن متعددة الجنسيات بالمياه الاقتصادية الإماراتية المقابلة لإيران، ما زال الغموض يكبر والأسئلة تزداد حول طبيعة الهجمات التي تعرضت لها السفن، والجهة التي تقف خلفها، والأهداف والرسائل التي أرادت إيصالها من خلال تلك الهجمات.
ومن المفارقات الغريبة أن غموض الفعل وخفاء الفاعلين جاء وسط حالة غير مسبوقة على الأقل في السنوات الأخيرة من التحشيد والتوتر والاستنفار في المياه الخليجية، وهو ما أثار أسئلة أخرى حول هوية ودوافع الضالعين في هذه الهجمات. سيناريوهات متوقعة وتساؤلات حول الخيارات المطروحة أمام إيران في مواجهة الولايات المتحدة وسط تحذيرات من اندلاع صراع عسكري بين الدولتين.
كيف تصنع إيران أدوات مواجهتها مع الولايات المتحدة؟ من يوجد على حافة الهاوية: إيران ام الخليج؟
تُعمِّق التهديدات الإيرانية مؤخراً بإغلاق مضيق هرمز، ووقف تعهداتها في اتفاقها النووي مع المجتمع الدولي، وسجالها مع الدول الأوروبية الكبرى حول هذا الانسحاب، تعمِّق حالة التخوف من إقدام طهران على أي عمل يمكن أن يتسبب في إشعال المنطقة، وهو ما لن تسمح به أمريكا ولا أوروبا. فالمجتمع الدولي ضاق ذرعاً بالسياسات العشوائية، وتحديدا الاتحاد الأوروبي المحاصر بين طرفي كماشة أي بين إرضاء أمريكا والحفاظ على الاتفاق النووي الإيراني. كما يخشى الأوروبيون التصعيد العسكري بين الطرفين الشيء الذي ينعكس سلبا على المنظومة الاقتصادية والأمنية بالقارة الأوروبية. على الرغم من علو سقف الخطابات الإيرانية، إلا أن الضغوطات الأمريكية آتت أكلها، وذلك عبر التضخم الاقتصادي الذي تشهده إيران، فضلاً عن الغلاء الفاحش الذي طال بعض السلع ولا يزال يدنو من البعض الآخر”.
بالنسبة لطهران، دخلت المواجهة مرحلة عض الأصابع وهي مرحلة اللاسلم واللاحرب. إنها الأخطر على الوضع الداخلي في ظل تشديد العقوبات المفروضة عليها. وبما الهدف العلني للرئيس الأميركي دونالد ترامب هو تغيير سلوك النظام وليس تغيير النظام نفسه، فقد استفاد من الأيام الماضية لإرسال رسائل واضحة للقيادة الإيرانية، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام التقليدي، بأن هذه المرحلة مفتوحة أيضا على التفاوض المباشر معه.
ترامب، الذي يصعّد ضد إيران، يزودها برقم هاتفه لتتصل به عندما ترغب بذلك، ويعزز بالتوازي حضور بلاده العسكري على امتداد المنطقة ويعد بالمزيد. فهو كمن يمارس سياسة العصا والجزرة مع طهران، التي بدورها تسعى للتأكيد على أن المواجهة معها لن تكون سهلة. وقد يتحول الحشد العسكري الأميركي في منطقة الخليج في لحظة ما إلى قوات جاهزة للقتال، ويهدد بأن تتدحرج لعبة حافة الهاوية وتنزلق إلى حرب غير معلومة النهاية.
في الإنزالات الكبرى بين الدول، هناك أمم تعرف قدرها ومكانتها وحجم تأثيرها، وهنالك أخرى لا تعترف إلا بطموحها الزائف. لا شك بأن خيارات إيران الحالية صعبة، وهي التي تقف مجبرة هذه المرة على حافة الهاوية. فإما أن تعاند وتستمر في الرفض، على أمل أن تغير واشنطن من موقفها أو تتغير إدارة ترامب، الأمر الذي يتطلب منها الانتظار عاماً ونصف العام ستواجه بسببه خطرا من الداخل. أو أن تفاوض وتتنازل أمر تعلن أنه ضد مبادئها وكبريائها، وضد مشروعها النووي. أو أن تزج في معركة عسكرية تعتقد أنها ستكسبها وتجبر المعسكر الأمريكي على التنازل لها”. ليس في صالح إيران إطلاقا الدخول في حرب مع الولايات المتحدة الأمريكية”، حتى حينما كانت إيران في أفضل حالاتها عسكرياً واقتصادياً، فإن أي حرب مع الولايات المتحدة الأمريكية هي بكل تأكيد مدمرة بالنسبة إلى إيران، ومنطقة الخليج.
الرضوخ أو الانتحار بخلط كل ملفات المنطقة.
تدرك إيران جيداً أن أميركا سترد بشكل رادع على أي اعتداء عليها أو على حلفائها في المنطقة، وتعلم أيضاً أنه لا الاتحاد الأوروبي ولا الصين ولا روسيا على استعداد لدعمها في مواجهة واشنطن. واستدراكا تسعى إيران على “شد العصب الداخلي في وجه الإدارة الأمريكية. لكن هناك شك بقدرتها على ضبط نقمة شعبية متفاعلة منذ نهاية عام 2017. ولا يستبعد أن يقود الضغط الأقصى أصحاب القرار في طهران إلى اتخاذ خيارات شائكة وصعبة لاعتبارات أيديولوجية وذاتية تتصل بتوازن القوى داخل الدائرة الأولى للحكم. وفي مواجهة إدارة دونالد ترامب سيوجد كل الإقليم على صفيح ساخن على وقع تطورات الملف الإيراني”. الإيرانيون لن يقبلوا “حالة القتل البطيء التي انزلها عليهم الأمريكيون، او سيجلسون متفرجين على انهيار نظامهم من الداخل، بما يلبي المخطط الأمريكي. لا يمكن أن يقبلوا تجرع السم ببطء ليموتوا تدريجياً. إن نهج إيران هو ضبط النفس، حتى تنأى بنفسها عن أي اتهامات ممكن أن تتعرض لها في المستقبل. لقد قامت بتحدي أمريكا واستمرت في تصدير النفط كما كان في السابق. فتارة تحاول أن تجد طريقة أخرى لتوريد النفط خارج إيران، وتارة أخرى تتحدى الولايات المتحدة الأمريكية وتبعث برسائل عسكرية بأن صواريخها تصل إلى كل مكان أقربه مضيق هرمز، وهي ذات مدى أبعد من ذلك؛ وتارة تقول للعالم إنها جاهزة للتفاوض من أجل البرنامج النووي. فهذه المراوغة تُبِدع بها إيران وتُتقنها منذ سنوات.
وفي نفس الوقت تحاول إسرائيل الزج بأمريكا في حرب على إيران من اجل إضعاف إيران وعدم قدرتها على دعم حماس وحزب الله في حال نشبت حرب بين إسرائيل والمقاومة سواء اللبنانية أو الفلسطينية.
رُبما لن تحقق أمريكا أية أهداف سواء كانت في الخليج أو غيره. ويعتبر الكثير من دول العالم أن الوجود الأمريكي في الخليج هو استعراض للعضلات ليس إلا، لأن إيران أعلنت منذ سنوات أنها تملك قوة عسكرية لا يجب الاستهانة بها وقادرة على إيذاء الطرف المعادي كائناً من كان.
أمريكا تنظر إلى هذا الوضع وتدعي أنها تقوم بضبط النفس في منطقة مضيق هرمز تحديداً، بينما الظاهر هو العكس تماماً حيث تقوم بإرسال بوارج عسكرية إلى مضيق هرمز، لعرض عضلاتها أمام القوة الإيرانية الموازية لها، وتقوم بجولات في العالم شملت العراق مثلاً من اجل الضغط على إيران وإضعافها ومنعها من تصدير النفط خارج إيران.
وأخيرا في مجمل القضايا الساخنة التي توتر الشرق الأوسط “الكبير” تختلط المواقف وتتشابك، تدَّعي البحث عن حلول ولا تنتج سوى مزيد من التعقيد. وتسود مظاهر القوة وكأنها متساوية في النتيجة مع مظاهر الضعف، فلا هذه ولا تلك قادرة على إحداث التغيير المرتجى. لذلك يسيطر الجمود والمراوحة في المكان. ونرى الحروب تدور في مجال السياسة، ومشاهدها الأخيرة فقط هي التي تنتقل إلى ميادين القتال
أستاذ إدارة العلاقات الدولية وإدارة الازمات*.
مقال جيد