القرار السوري… أولاً!
تؤكد التسريبات الأمنية أن الطائرات الإسرائيلية نفذت ما لا يقل عن 100 غارة على مواقع عسكرية في الشام تحت ذريعة أنها قواعد تابعة لـ”حزب الله” أو لـ”الحرس الثوري الإيراني”، إضافة طبعاً إلى قواعد للجيش الشامي النظامي خصوصاً في مناطق التماس الجنوبية حيث تتواجد جماعات مسلحة تحتمي بالكنف الإسرائيلي أو بالكنف الأردني
إذن لماذا تلك الضجة الإعلامية والديبلوماسية التي رافقت التصعيد الأخير، عندما طالت عشرات الصواريخ عدداً من المواقع العسكرية الإسرائيلية في هضبة الجولان المحتلة؟ ولماذا ارتفعت في هذا التوقيت بالذات وتيرة التهديدات الإسرائيلية والأميركية ضد “الوجود الإيراني” في الشام؟
قبل محاولة الإجابة على هذين السؤالين، نقترح إلقاء نظرة متمعنة على مسار الوضع الأمني في الشام بعد تمكن القوات الحكومية وحلفائها من القضاء على آخر البؤر المسلحة قرب دمشق، ثم
إحكام السيطرة على أنحاء شاسعة بين حمص وحماه كانت ما تزال تحت هيمنة الجماعات المسلحة. وقد كان واضحاً أن الخطوة التالية هي طرد المسلحين من المناطق الحدودية، وبالتحديد في الجنوب، حتى لا ينشأ “حزام أمني” ترعاه إسرائيل ويقوده مرتبطون بالمشروع الإسرائيلي على غرار “جيش لبنان الجنوبي” السيء الذكر في ثمانينات القرن الماضي.
في مقال سابق تحت عنوان “المرحلة الإقليمية في الأزمة السورية” نشرناه الشهر الماضي، قلنا إن مسار الحل السياسي سيطغى في الفترة المقبلة على المسار الميداني لأن معظم المناطق التي ما تزال خارجة عن سلطة الدولة إنما هي في “عهدة” قوى خارجية لها مشاريع مختلفة على الساحة الشامية. وهذا يعني أن القضاء على هذه الجيوب الحدودية يتطلب قبل كل شيء تفاهمات إقليمية ودولية، سواء عبر الاتصالات الثنائية أو من خلال مرجعيات الأستانة وجنيف وسوتشي. علماً بأن الدول الأوروبية الفاعلة ومعها الولايات المتحدة الأميركية تفضل مرجعية جنيف كونها تتم تحت رعاية الأمم المتحدة وليس روسيا لوحدها.
وهنا يكمن الخلل بالنسبة إلى مصالح الدولة الإسرائيلية. فهي طرف غير مرحّب به في المرجعيات الثلاث المشار إليها أعلاه، ولا يمكن تصور مشاركتها بأي شكل من الأشكال في صياغة الحل السياسي المتوقع للأزمة السورية. بل أن “التنسيق” القائم بينها وبين روسيا لا يتعدى، على الأقل في العلن، السعي إلى ضبط إيقاع العمليات العسكرية كي لا تحدث مواجهات غير محسوبة في الساحة الشامية.
لكن الخطر الذي تستشعره إسرائيل يتمثل في الجانب العسكري تحديداً. ذلك أن القضاء على آخر جيوب المسلحين في الداخل الشامي سيحرر قدرات الجيش الشامي النظامي وحلفائه، وسيتيح لهم المجال لإعادة إعمار البنية التحتية العسكرية، وتدعيم الخطوط الدفاعية، وتعزيز الطاقات الهجومية بالأسلحة الحديثة. وإذا أضفنا هذه الاعتبارات إلى الخبرات القتالية التي راكمها الجيش وحلفاؤه، وإلى التنسيق الإلزامي العابر لحدود سايكس ـ بيكو، سنجد أن إسرائيل باتت بالفعل أمام مشهد سوري جديد شبيه إلى حد بعيد بالمشهد اللبناني المقاوم بعد الغزو الإسرائيلي سنة 1982.
تدرك إسرائيل أنها أصبحت أزاء واقع سوري جديد، وأمام احتمالات مختلفة للمواجهة السورية ـ الإسرائيلية في كل المناطق السورية المحتلة. لذلك يكرر مسؤولوها وإعلاميوها التلويح بورقة “الوجود الإيراني” في سورية كذريعة تهدف إلى أمرين: الضغط على القيادتين الشامية والروسية لـ”تحجيم” ذلك الوجود، ثم محاولة التأثير على المسار السياسي كي يأخذ في الاعتبار “المصالح الإسرائيلية”. وهنا نجد الجواب على سؤال: “لماذا ارتفعت في هذا التوقيت بالذات وتيرة التهديدات الإسرائيلية والأميركية ضد “الوجود الإيراني” في الشام؟” فالأمر مرتبط بمسيرة التسوية السياسية المتوقعة.
أما سؤال: “لماذا تلك الضجة الإعلامية والديبلوماسية التي رافقت التصعيد الأخير، عندما طالت عشرات الصواريخ عدداً من المواقع العسكرية الإسرائيلية في هضبة الجولان المحتلة؟” فالجواب يكمن في الصواريخ الخمسة والخمسين التي أوصلت رسالة إلى إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية مفادها أن هناك توازناً جديداً نشأ على الساحة الشامية يعكس هزيمة المشروع الإقليمي الدولي الذي حاول على مدى سبع سنوات تدمير الدولة وشرذمة البنية الاجتماعية في الشام.
الشام الآن أمام تحديات جديدة عنوانها “الحل السياسي” وفق مرجعية جنيف. وهذا يتطلب أدوات عمل تختلف عمّا عهدناه خلال سنوات المواجهة الميدانية. ولا شك في أن دمشق تشعر بالامتنان الكبير لكل الحلفاء الذين وقفوا معها وقت الحاجة، ولن تنسى دورهم الحيوي على الإطلاق. لكن صياغة مستقبل سورية مسألة تخص الشعب السوري أولاً وأخيراً. ومن حق سورية على أصدقائها الأوفياء أن يحترموا إرادتها المستقلة. فالثمن الباهظ الذي دفعه الشعب السوري من دمه وعرقه ودموعه يتطلب قراراً قومياً سورياً لا يحابي ولا يساوم
!
.
مقال مفيد
ألف شكر حضرة الرفيق أحمد
ممتاز