نظام عالمي جديد بمقاييس غربية

image_pdfimage_print

احمد اصفهاني

 

في خضم الحملة الإعلامية والسياسية الشرسة التي شنها الغرب الأميركي ـ الأوروبي على روسيا، ترددت على ألسنة المسؤولين الغربيين عبارة كانت بمثابة مفتاح لفهم الأبعاد الحقيقية التي تنطلق منها المواقف السلبية تجاه روسيا في ما يتعلق بكل الملفات الراهنة، من جورجيا إلى أوكرانيا إلى سوريا إلى الهجمات الإلكترونية إلى التأثير في الانتخابات والاستفتاءات في هذه الدولة أو تلك، وصولاً إلى تهمة استخدام غاز الأعصاب في إحدى المدن البريطانية

.

العبارة تقول بشكل مباشر إن روسيا[1] (وغيرها من الدول غير المنضوية تحت التأثير الغربي) لا تلتزم بالمعايير المتعارف عليها للتعامل الدولي. وهذا يعني، ضمناً، أن هناك معايير سائدة في العالم، وأن على جميع الدول الالتزام الحرفي بها. أما الدول التي تخرق تلك المعايير، فستتعرض للعزل كحدٍ أدنى وللعقوبات الاقتصادية كحدٍ أوسط وللعمليات العسكرية كحدٍ أقصى. وتتماثل أمام أعيننا نماذج فاقعة لعدد من الدول التي واجهت هكذا عقوبات: روسيا، إيران، العراق، سوريا، كوريا الشمالية، ليبيا، فنزويلا… والحبل على الجرار!

إن “المعايير المتعارف عليها للتعامل الدولي” تتطلب وجود “نظام عالمي” يكون نتاج توازن مقبول في موازين القوى العالمية. فقبل اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914، شكلت المركزية الأوروبية أساس “النظام العالمي” الذي راعى المصالح الاستعمارية لدول أوروبا، صغيرها وكبيرها، على حساب شعوب العالم قاطبة. وانسحبت هذه “المركزية الأوروبية” على مجمل القضايا السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية. غير أنها سرعان ما انفجرت في حربين “عالميتين” مدمرتين، هما في الواقع “حربان أوروبيتان” كان العالم مسرحاً دموياً لهما.

وكان من الطبيعي أن ينشأ “نظام عالمي” جديد بعد انتهاء الحرب سنة 1945، هو بالفعل نتاج “المركزية الأوروبية” المنقسمة إلى معسكرين شرقي وغربي تحكمهما إيديولوجيتان مختلفتان رأسمالية واشتراكية. وعلى الرغم من الحرب الباردة التي نجمت عن تنافس المعسكرين، إلا أن أوروبا لم تسقط في حرب جديدة. وأقصى ما عانته في خضم المواجهة كان أزمات عُولجت بشكل أو بآخر مثل الجسر الجوي لمدينة برلين، والتدخل السوفياتي في تشيكوسلوفاكيا والمجر. وفي جميع الأحوال، خصوصاً بعد أن أصبحت الولايات المتحدة الأميركية اللاعب الأبرز على الساحة العالمية، ظل المعسكران الغربي والشرقي ملتزمين بـ “النظام العالمي” المتوازن… في حين كانت الحروب الفعلية تقع في أنحاء أخرى من العالم.

جاءت “هزيمة” المعسكر الأوروبي الشرقي وسقوط الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينات القرن الماضي لتعطي الغرب الأميركي ـ الأوروبي مجالاً واسعاً لإعادة صياغة “النظام العالمي الجديد” على أسس “المركزية الأوروبية” المطلقة التي سادت العالم لأكثر من قرنين كاملين. فما يراه الغرب حقاً هو الحق، وما يراه عدلاً هو العدل. وكل ممارسة تؤمّن مصلحة الغرب تصبح مشروعة، وكل ما يهدد تلك المصالح يستدعي التصدي له بكل الوسائل المتاحة. “النظام العالمي” بالنسبة إلى الغرب يقوم على مرجعية وحيدة هي “القيم الأوروبية” كما طبقت على أرض الواقع خلال مراحل الاستعمار والهيمنة العسكرية والاقتصادية على العالم.

إن الغرب الأميركي ـ الأوروبي المنتشي بـ “انتصاره” على المعسكر الشرقي، والذي إنتهز لحظة الفراغ التاريخية آنذاك كي يعيد صياغة مناطق النفوذ العالمية وفق مصالحه الاستراتيجية… هذا الغرب يجد صعوبة بالغة في تقبل ممارسات قد تشكل تحدياً لـ “المعايير المتعارف عليها للتعامل الدولي” كما يراها هو بالذات، خصوصاً إذا أتت من قوى عظمى مثل روسيا والصين. فالقلق هنا ليس على هذه المعايير بالذات، بل على “المركزية الأوروبية” إذا ما وُضعت قيمها الراسخة تحت مجهر المساءلة والمحاسبة.

[1] الرسم بريشة إيورش عن “ما وراء روسيا”

في هذا العدد<< الإلغاء المتوقّع والتداعيات “المخيفة- صوفي نادر”أوروبا: الرّهان الخاسر- صوفي نادر >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments