الاتحاد الأوروبي على شفير الهاوية-صوفي نادر

image_pdfimage_print

 

 

إذا كان موضوع تفكيك الاتحاد الأوروبي قد بدأ منذ فترة، أي منذ استلام ترامب سدة الرئاسة الأمريكية، فإن المرحلة الحالية ستكون بداية النهاية إذا لم يهب المواطن الأوروبي لنجدة ما شرع فيه منذ عقود، بغض النظر عما إذا كانت فكرة الاتحاد الأوروبي، كتجمع، سليمة اجتماعيا واقتصاديا وتاريخيا.

كل فكرة أو مبادرة تهدف إلى قيام تجمعات أو معاهدات أو اتفاقيات تقلق نزيل البيت الأبيض، وتحرك عنده عوارض مرض أصبح واضحا لكل متابع لتصريحاته وتعليقاته. فتاريخه، منذ توليه منصبه، حافل بانسحاب من اتفاقية، إلى نقض لأخرى أو تهديد لما تبقى منها. وتهديده للاتحاد الأوروبي، وإن لم يكن بعبارات واضحة، يعتبر من أصعب التهديدات، لأن هذا الأخير ما زال يصارع للبقاء والاستمرار.

كانت وما زالت آمال المحبذين لبقاء الاتحاد الأوروبي معلقة على الخطة التي اضطلع بها الرئيس الفرنسي ماكرون والمستشارة الألمانية ميركل، والتي قامت على سياسة اقتصادية ليبرالية محضة، ووافقت عليها كافة الدول الأوروبية الأعضاء، إضافة إلى العمل على استقلالية دفاعية عسكرية. لقد كان لهذه السياسة أن تسير في الوجهة المرجوة لولا عدد من المسائل التي أتت لتعرقل سيرها واندرجت كلها في الإطار الاقتصادي والمصالح القومية لكل دولة عضو. فالخطة الليبرالية المنفتحة، التي تقوم على تأمين مصالح الشركات والمؤسسات الكبيرة الدولية والتي بفضلها تأمل الدول الأعضاء جني أرباح طائلة على حساب المواطن العادي، كانت، من جهة، سببا في اطلاق سباق بين الدول الأعضاء للحصول على أكبر ربح ممكن، ومن جهة أخرى، أساسا لتحرك شعبي يطالب بالقليل من حقه في كرامة العيش.

 من نتائج السابق بين الدول الأعضاء نرى تزايد نفوذ اليمين على حساب الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية التي خسرت في العديد من الانتخابات الوطنية، ونلحظ  تزايد التحركات الشعبوية للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، كان أولها وأهمها انفصال المملكة المتحدة التي تحلم وتتوق إلى ربح أكبر يتناسب وحجمها وحجم « نفوذها ».  نتيجة لهذه التحولات السياسية، أصبح المواطن يربط كل توجه سياسي أوروبي بانهيار مستواه المعيشي، مثل عدم توزيع الثروات، وعدم فعالية الضمان الصحي وضمان الشيخوخة، واتهام الأجنبي المقيم بسلب قوته، وأخيراً السياسة الأوروبية تجاه المهجرين الوافدين إلى أوروبا. إن الحالة الاقتصادية التي تنذر بالتفاقم جعلت المواطن الأوروبي ينتفض على حكوماته مدعوما من أحزاب يمينية استغلت هذا الحالة لتستقطب العديد من المستائين.

لكن من الذي يمول الحركات اليمينة؟

تقضي الخطة الأميركية في سياسات تدخلاتها في الدول الأخرى الاستناد إلى حالة موجودة تستفيد منها وتجير نفعها للصالح الأميركي الخاص. حتى الآن، ليس هناك أي دليل يثبت أن ما يحصل في فرنسا وبلجيكا وألمانيا والمظاهرات التي تقوم بها حركة السترات الصفراء له أياد أميركية خفية، إنما كان لا بد من الاعتقاد أن ما يعمل عليه ستيف بانون، المستشار السابق لترامب، منذ أن استقر في بلجيكا بدأ يعطي ثماره وبشكل ممتاز. أنظر تقرير ستيف بانون وحقن تخدير أوروبا،

قامت أول مظاهرة في فرنسا على أيدي مجموعة من المواطنين المعترضين على زيادة الضريبة على الوقود. كان أول محركيها محصورين في فئة صغيرة من الشعب الفرنسي كالمتقاعدين الذي يتقاضون راتبا شهريا زهيدا. نما التحرك لتنضم إليه فئات أخرى من المواطنين الفرنسيين إضافة إلى تضامن العمال البلجيكيين في القطاع الوالوني الناطق بالفرنسية. ومن ثم لحق به عمال في ألمانيا إنما تحت شعار محاربة المهجرين وإسقاط الحكومة الألمانية برئاسة أنجيلا ميركل.

الملف للانتباه أن الأحزاب السياسية التي تضامنت مع تحرك السترات الصفراء اختلفت عائلاتها من دولة لأخرى. ففي فرنسا تحاول الأحزاب على اختلافها تبنّي التحرك الشعبي، كل حسب مآربه،  بينما يلاقي تضامنا يساريا في المملكة البلجيكية وتضامنا يمينيا متطرفا في ألمانيا مما يجعلنا نقارب هذا التحرك من منظار آخر ألا وهو محاولة زعزعة الاستقرار الظاهري للاتحاد الأوروبي خاصة لدوله الكبرى.

تزامَن هذا الحراك الشعبي الذي يتوقع أن يتوسع في الأيام القليلة المقبلة – تقرر إقامة مظاهرة شعبية تاريخ 8 كانون الأول لإخضاع الحكومة الفرنسية للمطالب الشعبية – بتحرك آخر يتعلق بالاتفاق العالمي للهجرة والذي من المفترض أن يتم التوقيع عليه تاريخ 11 كانون الأول في مراكش. هذا الاتفاق يرفضه اليمين الألماني، ويصر على رفضه اليمين البلجيكي مهددا الحكومة بالسقوط وحجب الثقة عنها، إلى أن وصل الأمر برئيس الوزراء البلجيكي شارل ميشال تفويض البرلمان بالبت بالموضوع تفاديا لأزمة جديدة. (سيتم بحث الحالة البلجيكية في مقال منفصل لما لها من تداعيات خطيرة على الوحدة الأوروبية). كما تزامن هذا الحراك الشعبي مع تهديد الرئيس الأميركي بالانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى إذا لم تلتزم روسيا ببنودها.

إن كان هناك شيء يمكن أن يُشهد له للسياسة الأميركية هو “استطاعتها احكام قبضتها من كل الجوانب وبنفس الشراسة”. فكيف يمكن لأوروبا أن تتحرك وهي مكبلة اجتماعيا بحراك شعبي في نمو خطر، مكبلة باتفاق نووي إيراني مجمد أملت منه انتعاشا اقتصاديا لا يستهان به، مكبلة إداريا بانفصال بريطاني لم يصل حتى الآن إلى مرحلة التنفيذ بانتظار موافقة البرلمان البريطاني على الاتفاق الذي وقعته تيريزا ماي مع المجلس الأوروبي الشهر الماضي، وأخيرا مكبلة عسكريا بسبب التهديد الأخير الذي وجهه ترامب لروسيا للالتزام ببنود معاهدة الصواريخ النووية بالرغم من أنه يبدو وكأنه لا يعني أوروبا على الإطلاق. لكن التهديد أتى في إطار الاجتماع الأخير لوزراء خارجية حلف شمال الأطلسي الذين هم في غالبيتهم وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي والذي حصل خلاله لقاء جانبي بين نتينياهو ووزير الخارجية الأميركي. لقد قدم وزير الخارجية الإسرائيلي خصيصا إلى العاصمة الأوروبية للوقوف على آخر تطورات الشأن النووي.(سيتم بحثه في مقال منفصل لأنه يدخل أيضا في إطار العلاقات الأميركية الإيرانية(.

لكافة القيود التي يعاني منها الاتحاد الأوروبي طابع مشترك ألا وهو الطابع الاقتصادي. إنه المجال الوحيد القادر على كسر القوى العظمى وتغيير مسارها القومي والدولي. الحراك الشعبي المستمر في الدول الثلاث، فرنسا وبلجيكا وألمانيا، قادر على الامتداد إلى العديد من الدول الأوروبية الأخرى إذا لم يتم العمل على خنقه في مهده وذلك لصالح الطرفين: الحكومة والشعب. لصالح الحكومات لتفادي سقوطها، ولصالح الشعب لأنه سيكون ضحية مؤامرات لن تأخذ يأسه بعين الاعتبار لا بل ستزيد من فقره وعدمه. فبالرغم من أحقية مطالب الشعب وبالرغم من السياسة الفاسدة التي تمارسها الحكومات ضمن إطار النظام الليبرالي، فإن أميركا بالمرصاد للانقضاض على كل ما سيمنعها للوصول إلى مبتغاها. إلا إذا سقط ترامب قبل…

في هذا العدد<< طبائع التسلطدراسة حالة >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments