هبّة 2021، فلسطين تتوحد
عرضتُ في مقال سابق لي “الغرب الأوروبي ـ الأميركي تحت عباءة إسرائيل” لثلاث مسائل أعتقد بأنها تستدعي النقاش والمتابعة بعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في الأراضي الفلسطينية. فما تم التوصل إليه، بفعل الضغط الدولي، بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الصهيوني هو عبارة عن هدنة مؤقتة، أو الأصح “إستراحة المحارب” بانتظار جولات جديدة لأن الصراع مع المشروع الصهيوني هو صراع قومي وجودي بالنسبة إلينا على الأقل.
وفي هذا المقال لن أكرر ما أوردته سابقاً، وإنما أريد البحث في مسألة رابعة برزت في جولة الاشتباكات الأخيرة، ألا وهي “هبّة” الفلسطينيين في “الداخل”، والتي فاجأت الصديق قبل العدو. فهذا العامل أسقط منطقاً كان سائداً عندنا وعند الصهاينة منذ قيام الدولة العبرية، ما يعني أن المعادلات المنتشرة تداعت أسسها وباتت آيلة للإنهيار. وقبل التوسع في هذه الناحية، أود لفت النظر إلى أنني مضطر لاستعمال بعض المفردات التي قد تخدش حساسية بعض الأصوليين المتمسكين بحرفية النص السياسي الفكري. فإذا كنت أيها القارئ العزيز تعاني من عوارض هذه الحساسية المفرطة، فأنا أرى أن توقفك عن القراءة الآن سيكون أكثر فائدة لك… ولي!!
هناك أسماء عدة تُطلق على أبناء شعبنا الذين لم يغادروا أرضهم بعد قيام الدولة العبرية: “عرب إسرائيل”، “فلسطينيو الداخل”، “عرب الـ 48″، “فلسطينيو الـ 48″…أما التصنيف الصهيوني فيحرص على نفي “الهوية الفلسطينية” لصالح هويات مذهبية وعرقية مختلفة. وبغض النظر عن تلك التصنيفات، فإن الواقع يشير إلى أن مئات الألوف من الفلسطينيين رفضوا الانضمام إلى قوافل المهجرين، وأصروا على البقاء متحملين تبعات الممارسات الإرهابية الصهيونية المتواصلة.
نحن نتكلم هنا عن جيل فلسطيني ثالث أو رابع، لم يعايش قرار التقسيم ولا ظروف النكبة (1948 ـ 1949)، بل ربما لم يعانِ مباشرة من آثار “نكسة” حزيران 1967. فإذا كان جيل الـ 48 خضع لهواجس القلق من الطرد إلى الشتات على أيدي العصابات الصهيونية، فإن أجيال اليوم لا تشعر بذلك الهاجس، أو الأرجح أنها لا تخشاه. وهناك أسباب عديدة اجتماعية وسياسية واقتصادية أوصلت أبناء شعبنا الفلسطيني إلى “الهبّة” التي مزقت صورة “الانسجام الداخلي” كما حاولت “إسرائيل” تسويقها حول العالم. ولست هنا في معرض تحليل تلك الأسباب، فهذا يتطلب جهود اختصاصيين في علم الاجتماع… وأغلب الظن أننا سنقرأ تحليلات كثيرة في غضون الأيام القليلة المقبلة.
لم تكن “هبّة 2021” حالة استثنائية يقوم بها “فلسطينيو الداخل” أزاء سياسة التمييز العنصري التي تمارس ضدهم. فعلى سبيل المثال، إستشهد ستة مواطنين سنة 1976 برصاص “الشرطة الإسرائيلية” التي أطلقت النار على تظاهرة شعبية احتجاجاً على خطط لمصادرة الأراضي في محيط مدينة الناصرة. وبعد تلك الجريمة تقرر أن يكون الثلاثون من آذار مناسبة سنوية للاحتفال بـ”يوم الأرض الفلسطينية”. أما في تشرين الأول سنة 2000، فقد استشهد 12 فلسطينياً في سياق التضامن الواسع مع الانتفاضة الثانية في الضفة الغربية.
صحيح أن “هبّة 2021” تشبه في بعض عناصرها الانتفاضات والتحركات السابقة في فلسطين الـ 48. إلا أنها تتميز بخصائص جديدة زرعت القلق في نفوس الطبقة السياسية الحاكمة في “إسرائيل” كونها تشكل تهديداً لـ”الجبهة الداخلية” ذات التوازن الحساس للغاية. ولا توجد عندي ذرة من الشك في أن “المؤسسة الصهيونية” قد بدأت على الفور عملية بحث ودراسة وتحليل لفهم طبيعة “الهبّة” وخلفياتها، تمهيداً لوضع الخطط المناسبة لمواجهتها والحد من مخاطرها المستقبلية على الدولة العبرية. وهنا بالضبط تكمن المهمة العاجلة التي تتطلب فتح قنوات التواصل مع “الداخل”، وتوفير أكبر وسائل الدعم الضرورية لتحقيق الأمور التالية:
ـ الانتقال من حالة “الهبّة” كرد فعل على ما جرى في القدس وغزة، إلى حالة “التنظيم” ذي الأهداف المرحلية الآنية أو على المدى البعيد.
ـ السعي إلى توافق عام على برامج عمل متدرجة تشارك فيها كل القوى المعنية، بغض النظر عن خلفياتها الفكرية والسياسية.
ـ تحديد أولويات العمل من خلال البناء على الجوانب الإيجابية التي ظهرت خلال الأسبوعين الماضيين، والاستفادة من دروس الحراك الشعبي (سلباً وإيجاباً) في الخطوات اللاحقة.
ـ الاستعداد لمواجهة الإجراءات الصهيونية القادمة حتماً، وذلك عن طريق تفعيل المنظمات الحقوقية الدولية، وفضح سياسات التمييز العنصري في “إسرائيل” أمام الرأي العام العالمي.
المشكلة انهم مواطنون في اسرائيل ويحملون الجنسية الاسرائيلية منذ سبعين سنة. لا يمكن تجاهل هذه الحقائق وافتراض انهم سينضمون الى معسكر اعداء اسرائيل. ليس لهم مصلحة في ذلك.