على طبق من دماء
على طبق ملوث بدماء الصحفي جمال الخاشقجي قدمت المملكة العربية السعودية لأصدقائها قبل خصومها أفضل ذريعة لابتزازها على أوسع نطاق. فأحد أسباب الاهتمام الكبير الذي حظي به الخاشقجي بعد عملية اغتياله الوحشية، هو كون عائلة بلاده الحاكمة متورطة في اغتياله، ما يجعل من عملية طي الجريمة “سوق حراج” لا يمكن تفويته.
تبدو الإدارة السعودية كمن يلحق سوق البورصة متأخرا خطوة عن السعر المتصاعد، فيما تبدو الإدارة الأميركية كقط يلهو بفأر صغير قبل افتراسه. فالرئيس ترامب متذبذب، يوما مع، ويوما ضد. إنه يلقن السعوديين ما يقولونه، فمتى قالوه ينكره عليهم. لقد أوحى لهم بكلمة “القتلة المارقون“، Rogue killers، فلما استخدمها السعوديون، قال ترامب إن في قصة السعودية “الكثير من الخداع” وأن “تغطيتهم” بائسة. أما الجمهوريون، أمثال لندسي غراهام، وسواه، فإنهم يرفعون الصوت لا محبة بالخاشقجي ولا انتصارا للعدالة، بل لمزيد من الابتزاز. فلكل تراجعٍ ثمنٌ. ولكن الظاهر هو أنه كلما تراجعت السعودية عن رواية من رواياتها تحت الضغط ، يزداد التشكيك بها. ولن ينتهي الامر قبل ان تدفع المملكة ثمنا باهظا جدا من أموالها ومن رصيدها السياسي. وما ينطبق على الأمريكان ينطبق على الاتراك أيضا، وعلى الأوروبيين، فلكل مطالبه، والمملكة “دفّيعة”.
ولا حاجة للدخول في سوق الشماتة، خاصة العربية. فالعالم العربي إجمالا مقسوم بين من يقبض من وهابيي السعودية او من إخوان قطر وتركيا، وهذا ما يقدم مادة للتحدي والترفيه والنكات السمجة التي تضج بها سماء العالم العربي الإعلامية. ولكن لعل أبشع ما نتج عن قتل الخاشقجي كان إعطاء الفرصة لرئيس تركيا أردوغان لكي يروج لنفسه بصفته “ضمير العالم”، غير عابئ بمصير عشرات الصحفيين الذين يقبعون في سجونه منذ سنوات.
طبعا، كل هذا، فوق دماء صحافي قتل عمدا وبطريقة وحشية لا تجوز، حتى وإن كان خصما سياسيا، وإن كانت كلماته ملوثة بدماء السوريين الذين حرّض ضدهم، وغطى على همجية التكفيريين الذين فتكوا بهم.
ولكن لماذا يعنينا هذا الامر؟ إنه يعنينا لأننا من الذين يقولون بضرورة قيام “جبهة من أمم العالم العربي تكون سداً ضد المطامع الأجنبية الاستعمارية وقوة يكون لها وزن كبير في إقرار المسائل السياسية الكبرى”. ولأننا لا نفرح إذ نرى إحدى أمم العالم العربي تتعرض لخسارة مئات مليارات الدولارات التي كان يمكن توظيفها في ترقية الحياة في العالم العربي نفسه، والتصدي لأعدائه، عوضا من هدرها في سبيل إرضاء غرور كتلة من الهرمونات الذكورية الهوجاء. نحن لا نشمت ولا نفرح، إننا نتأسف.
وبعد. المملكة دفعت وستدفع. ستدفع الكثير من مستقبل بنيها وآمالهم. القتلة سيقتلون. ليس لأنهم قتلوا، ولكن لأنهم “قصّروا”، كما ورد على لسان الملك العجوز سلمان. لقد قصرّوا في مهمتهم فكشفوا المستور ويجب معاقبتهم. أما الغرب وتركيا والولايات المتحدة الأميركية، فسوق يقبضون ويقبضون. ألم نقل إنه سوق حراج.
أما الدلالة الكبرى على العصر الذي نعيشه فهو ان أحدا من كتاب الرأي في صحيفة الحياة حيث عمل الخاشقجي، من الذين ملؤا الدنيا وعظا وإرشادا وحكما على مر السنين، أحدا واحدا منهم لم يكتب أية كلمة رثاء في زميلهم المغدور.
هذا هو عصر الخوف، عصر الدماء الرخيصة.
تراذل الخاشقجي في حياته
وظن أن كتابته في صحيفة أمريكية ستحميه
يبدو أنه لا يعرف السعودييين .
مقال ممتاز شكراً حضرة الرفيق أسامة
ن . م