من مسافة صفر، مسافة بين اليقين والوهم، بين الحقيقة والذهان، بين الفناء والخلود، وبمسافة حددتها يد لم تعهد الخوف، هُدم ذلك الجدار، وكان المسدس أقوى من بندقية القنص، وكانت الكف أصلب من مخرز الدهر.
من هذه المسافة تبدأ الحديث منذ غدٍ عن انهيار الضباب، ليس لأنها الأولى كمسافة صفر، بل لأنها الصورة الأكثر وضوحاً لمعنى المعقول الواقع، والسردية الكبرى لأزل هذه الأمة، وبشخصيتها المناورة للبقاء والقدرة على النجاة، على أنها لا تخادع الموت بل تحتفي به، ولا تلبس له لبوس اليأس، كي يكون بذرة في حقل تاريخها المجيد.
من هذه المسافة وللمرة الأولى يكون التصعيد في ذكرى أليمة مضت، وكأنك تقف على جرد حساب، دفتر يُفتح كي يحاسب عمّا مضى، لا ليصرخ بالألم، بل ليدق ناقوس انتهاء فصل مجالس التعزية والتورية ما ظهر منها وما بطن، ويكون للدم معنى الدَين الثقيل، وأشهى ميراث يسترد.
ليست مسألة عاطفية، بل مسألة وقت، وقت ينتهزه العدو كي يبقى، ونتسلى به كي يمضي. نعم.. نحن سادة التسلية الآن، برغم كل مظاهر التشتت هنا وهناك، لكننا نبرع في هذه التسلية، حَجلة، طاق طاق طاقية، ضامة، نرد، لعبة شدة، أو شد حبل زمانهم، ليسقط جسداً خائراً ويغيب في ظل الهزيمة.
فلتكبّروا المسافة، ولتكن قدس أقداسكم، فلم تعد الأطراف المبتورة قياس ما تدفعون، ولا معارك ضبط أنفاسهم حدودكم الدنيا، ولا اشتباك لحظي كي تحكموا الجغرافيا من على مسافة مقاومة، بل مسافة صفر للحساب ولكنس أدران التاريخ عن أرضكم، هم وعوائهم، وأدوات حياتهم التي ارتدت ثيابنا، وتتذلل بهيئتنا، وتضرب الأرض طلباً لبيعنا، فلهم اندثارهم، ولنا صفر مسافة.
Subscribe
0 تعليقات