سورية… تطويق الأزمة عسكرياً – مازن بلال
تتلخص إشكالية الاتفاق الروسي – الأميركي بشأن جنوب غربي سورية بأنه تجربة لاحتواء الأدوار الإقليمية. وعلى عكس مناطق خفض التصعيد الأربع الموقعة في أستانه التي خلفت فوضى عسكرية بين المجموعات المسلحة، وفراغاً سياسياً يحتاج إلى تفاهمات متعددة بين الدول الموقعة على الاتفاق، فإن التفاهم بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب يشكل محاولة ترتيب مختلفة مرتبطة بشكل رئيس بالعلاقة ما بين سورية ومحيطها الإقليمي، وعلى الأخص الأردن الذي لعب دوراً في ترتيب معظم التحالفات خلال الحرب على سورية
وبالتأكيد فإن وقف إطلاق النار في منطقة حوران والجولان لم يترافق مع صراعات عنيفة حتى الآن بين الفصائل، وبقيت تفاصيله مفتوحة على التطورات التي يمكن أن تحدث لاحقاً في باقي الجبهات السورية، وفي قدرة الولايات المتحدة أيضاً على التعامل مع حلفائها بمن فيهم “إسرائيل” لضمان التوصل إلى حل نهائي من بوابة الجنوب السوري، حيث تتعامل روسيا والولايات المتحدة مع معطيين أساسيين:
- الواقع المختلف للمجموعات المسلحة في الجنوب السوري عن نظيراتها في الشمال، وفي محافظة إدلب تحديداً. فـ”جبهة فتح الشام” أو “النصرة” ليست الفصيل الرئيس رغم تواجدها الكثيف وعلى الأخص باتجاه الغرب ومنطقة الجولان. ومع أن معظم الفصائل المتواجدة في حوران تملك عقيدة جهادية، لكنها تتحصن بمسميات تبعدها عن كل ما يتعلق بتنظيم القاعدة ويضمن لها حرية التحرك باتجاه الأردن.
عملياً فإن مصادر المعارضة تتحدث عن 30000 مقاتل في مناطق حوران والجولان، وهو رقم كبير يحتاج لمساحة تحرك وقواعد خلفية قام الأردن بتأمينها خلال السنوات الماضية. ولكن في المقابل فإن هذه الفصائل لم تعد قادرة على التعامل مع أهداف إستراتيجية، فحملاتها الأساسية انتهت قبل عامين تقريباً مع فشلها في الوصول إلى مناطق الغوطة الغربية، وعدم قدرتها على قطع الطريق بين دمشق ودرعا. وباستثناء المحاولات المتكررة للسيطرة على بعض الأبنية في درعا، فإن فعلها العسكري أصبح يتلخص في فرض أمر واقع استخدمته واشنطن في اتفاقها الأخير مع موسكو. ولكن هذه المجموعات لا تملك خيارات كثيرة لأن عليها الدخول في مساومة لحل نفسها مقابل إغلاق الطريق على الفصائل المدعومة إيرانياً، وإبعادها عن هذه الجبهة.
- واقع مخيمات اللاجئين في الأردن الذي يعتبر العامل المرجح في التفاصيل التي لم تبحث بعد بين الجانبين الروسي والأميركي. فاللاجئون ليسوا خزاناً بشرياً للمجموعات المسلحة ولكنهم امتداد سكاني للأردن داخل السورية. فعدا عن علاقات القُربى، فقد أصبحوا بشكل أو بآخر جزءاً من أدوات الأجهزة الأردنية الأمنية والمدنية.
يعول الأردن على دوره في ضبط الحدود مع الجارة سورية، وفي تشكيل خزان معلومات موجه ضد إيران بالدرجة الأولى. وهو ما يجعل التزام الفصائل المسلحة أمراً أساسياً في تحقيق أهداف الاتفاق ككل وليس فقط أهداف الأردن. ويبدو أن ثمن الالتزام ليس عسكرياً، فالمراقبون في تلك المنطقة هم من الشرطة العسكرية الروسية، ومن المستبعد دخول عناصر أخرى، بينما يحوي الاتفاق في البنود الأساسية إبعاد الفصائل الموالية للجيش السوري؛ ما يعني في النهاية تفكيك الواقع العسكري وإيجاد حالة مدنية مختلفة.
حتى اللحظة هناك عناصر مجهولة في المسار الذي سيسير فيه التفاهم، فمن الناحية السياسية يبدو فيه استبعاد للدورين السعودي والقطري. ولا يستطيع الأردن دفع التكاليف العسكرية لأي انهيار في هذا الاتفاق، في وقت أوقف فيه ترامب برنامج دعم المعارضة السورية. فالاتفاق يملك بيئة النجاح سياسياً بينما لا يمكن ضبط الاحتمالات العسكرية، وعلى الأخص لعناصر “جبهة النصرة” المنتشرين في تلك المنطقة. كما أن تفكيك جهاز عسكري بهذا الحجم، حسب ادعاءات بعض أطراف المعارضة السورية، يحتاج لاتفاق سياسي صلب، وهو أمر لم يتوافر حتى اللحظة نتيجة وجود بعض الجبهات المفتوحة في مناطق سورية مختلفة. ولكن يمكن فهم عدم رغبة الولايات المتحدة في العودة إلى معادلة الصراع الطويل في تلك المنطقة عبر نشرها لقوات في مواقع إستراتيجية على الحدود السورية الأردنية، فهي وضعت من “الردع” ما يكفي لتمرير اتفاق سياسي يضمن إبعاد إيران عن تلك المنطقة. في المقابل وجه الجيش السوري رسائل قوية قبل سريان وقف إطلاق النار عبر قصفه للقوات المتواجدة على معبر نصيب الحدودي.
لا يتضارب السيناريو الروسي بالمطلق مع ما تريد الولايات المتحدة، وتبدو المؤشرات في هذا الموضوع من خلال إعطاء أدوار جديدة لفصائل حزب الله في جرود عرسال على سبيل المثال، وفي دفع الجيش السوري لاستعادة البادية بكل ما تحويه من ثروات نفطية أو غازية. فالفصائل المسلحة هي الحلقة الأضعف في التطورات الحالية، وتبدو ملامح أدوارها المستقبلية تسير في ثلاثة اتجاهات: الأول هو التعامل مع مسار جنيف حيث سيكون بعضهم ضمن إطار الحل النهائي، وهو أمر مطلوب روسياً على الأقل لإضعاف الدورين التركي والسعودي في المفاوضات السياسية. والاتجاه الثاني يرتبط بنوعية إعادة الإعمار الذي يحتاج إلى إدارة جديدة بالنسبة إلى جميع المناطق بما فيها الجولان وحوران، فاللامركزية الإدارية ستأخذ شكلاً سياسياً أيضاً يتيح لعناصر التشكيلات المسلحة إيجاد أدوار على المستوى المحلي، والاستفادة من عمليات التنمية التي دخل الروس فيها بقوة من خلال الزيارات المتكررة لرجال أعمال روس إلى سورية.
الاتجاه الثالث ينتقل بنا إلى مراكز القرار السوري، حيث من المستبعد أن تقوم روسيا بالضغط على دمشق لتغيير بنية الجيش. لكنها قادرة على إيجاد تفاهم يضمن قوة نسبية لبعض الأشخاص الذين لعبوا أدواراً في العلاقة مع الأردن تحديداً. فنحن أمام محاولة لإيجاد نخبة سياسية جديدة تنافس النخبة القديمة في منطقة حوران التي كانت بمعظمها بعثية.
كل التطورات التي يمكن أن تحدث تصب في النهاية باتجاه تحديد دوري الأردن و”إسرائيل”. فالفصائل المسلحة ستكون جسر العبور نحو واقع تريده الولايات المتحدة فصلاً جديداً لعدم عودة سورية إلى جبهة المواجهة، أو على الأقل عدم السماح لإيران بالتواجد في هذه الجبهة. ولكن المسألة السورية ربما لن تقف عند هذا الحد، فالأزمة التي عاشها السوريون ستحمل احتمالات كثيرة. وبالتأكيد ستبقى الجبهة مع “إسرائيل” الأكثر تعقيداً في أي حل نهائي.