جِنُّ” الانترنت وخوف الضحية على الجلاد ” نجيب نصير
أولا وقبل كل شيء، علينا الإشارة إلى مسألتين فيما نكتب عنه في هذا المقام. الأولى، هي أن المسلسل الدرامي “جن”، الذي تم تصويره في الأردن وباللهجة الأردنية، وتم عرضه عبر منصة “”نتفليكس” ولاقى ردود أفعال هائجة على ما قدمه من أطروحات فنية وفكرية أنتجت صدمة في صفوف السكان، هو ليس مسلسلاً درامياً تلفزيونياً، بل مسلسل درامي “إنترنيتي”. وعند هذه النقطة يجب التوقف والتأمل؛ فنحن على أعتاب عصر جديد لصناعة الصورة وبثها. وهذا العصر قادم لا محالة سواءً شتمناه وملأنا الدنيا ضجيجاً وشكوى، أم أمتدحناه وتلقينا منتجاته صاغرين. فالقدح والمديح هنا من خارج السؤال تمامًا، وقد جربنا ذلك سابقاً مع الحداثة، العولمة، العلمانية، والشرق الأوسط الجديد وغيرها. فالسؤال هنا عن التكيف والمشاركة المستقبلية. .
وتتوجب علينا الإجابة على هذا السؤال بالسرعة التي يفرضها العصر، فمنصة “نتفليكس” وغيرها ( حالياً يتم تأسيس العديد من المنصات) تبدو حرة أكثر من اللازم بما تقدمه. إنها لا تخضع للرقابة الإعلامية – الإعلانية للدول. وهذا بحد ذاته شكّل صدمة للسكان الذين لم يجبرهم أحد على متابعة هذا المسلسل بل دفعوا نقوداً لمشاهدته. الأمر هنا متعلق بفضاءات “الإنترنت” اللانهائية كواقع موجود وفعّال، ولا يمكن تجاهله أو حتى رفضه. ولن يغير في واقع الحال قيام أحد وزراء الإعلام أو الثقافة، أو حتى رئيس هذه المؤسسة الدينية أو تلك، بمنع هذا المسلسل الدرامي أو ذاك، مهما كان خارجاً عن المعتاد. إن التعاطي هنا ينحصر، شئنا أم أبينا، مع الأعمال الفنية بالنقد الفني والفكري فقط، وليس بالانتقاد الفضائحي الذي لن يفضي الى شيء. فمعايير المنصّات الباثّة مختلفة وربما معاكسة لمعايير الجمهور والسلطات وحتى الشبكات التلفزيونية. ولعل الصدمة التي شكلها عرض مسلسل “جن” واحد من الأسباب التجارية المشجعة على إعتماد هذا الطرح الفني في المستقبل. المهم هنا وعي الفارق البنيوي، بين الدراما التلفزيونية، والدراما “الإنترنيتية”.
المسألة الثانية، هي الإستقرار على مفردة “مجتمع” والتعامل معها كدليل على وجود مجتمع ووجود تفاعلات سليمة داخله. فـ “المجتمع” كمصطلح حداثي معرفي يجب إيجاده أولًا وتحقيقه يومياً بتنظيم المصالح الجامعة، عبر عقد إجتماعي واضح وعلني، يعتمد المساواة، وإلا سوف يكون الجمهور مجرد سكّانيات هائمة كما في عالمنا العربي. على هذا الأساس يمكننا النظر إلى ردة فعل الجمهور الأردني على مسلسل “جن”، مما يضع هذا الجمهور على طاولة البحث كمثال عن الجمهرات السكانية في البلدان العربية قاطبة.
ربما يمكننا وصف ردة الفعل هذه “بالاجتماعية” تجاوزاً، ولكنها ليست مجتمعية بأية حال، فأول الأوصاف التي نتداولها واقعياً عن هذه التجمهرات هي أنها مصابة بالفصام المعرفي Cognitive Schizophrenia. وعلى هذا التوصيف، يمكننا تكذيب ردود الأفعال هذه، وإعتبارها غير مجتمعية، ناهيك عن مواصفاتها الشعاراتية الأخرى المصابة بها كل “اجتمعايتنا” العربية وليس الأردن وحده. فعلى الرغم من أن المسلسل اتُهم بالأردنيّة بناء على اللهجة التي تكلمت بها شخصياته، فإنه لمن السهولة بمكان أن يكون المسلسل بأية لهجة من لهجات اللغات العربية دون أي تغيير في ردود الفعل.
هذا الفارق بين التجمع السكاني والمجتمع بمعناه المعاصر، يجعل من ردّات الفعل هذه عبارة عن فوضى معرفية تائهة في بحثها عن هوية لم تتحقق شروطها، وهي بالأساس غير ضرورية قبل حدوث المجتمع. وعلى هذا الأساس ظهرت صدمة الأردنيين (نخبًا وعامة) بأشكال هزلية، أولها، حكمهم واعتبارهم أن الأردنيين فقط هم المقصودون بالتشويه مع أن الواقع يقول عكس ذلك، على الرغم من تملص جماهير بلدان الاستعراب الأخرى الفاضح والمضحك. ثانيها، الشعور بفداحة المصاب الذي نال من السلطات الرقابية، التي تمثل السلطة السياسية بدقة. لقد بدا وكأن الغطاء الذي يدفىء الجمهور قد رُفع عنه حيث بدت هذه السلطات مقدسة عند جمهور يدعي أنه يرفضها، فقاده هذا إلى هوان كان يتجاهله حينا ويجمِّله نفاقًا أحيانا كثيرة أخرى. فأين سيكون موقع هذا الجمهور حين تستطيع مجرد منصة بث “انترنيتية” تكسير رأس السلطات الرقابية ولا تقيم لها إعتباراً؟ إنه ليبدو خائفًا على السلطة ومنها، وخائفًا أيضاً من هوان لا يعرفه، حيث لا تكتمل أية مبادرة “اجتماعية” للتغيّر والتغيير بغياب المجتمع الذي يحتاج الى تفكير تأسيسي وعلني. وهكذا تبقى الجماهير تعرف ما لا تريده، ولكنها بعيدة جداً عن معرفة ما تريد.
إن جل ّ ما نتمناه أن لا تلتحق ردود الأفعال على هذا المسلسل الدرامي “الإنترنيتي” بهمروجات النضال والجهاد والتحرر من ربقة المستعمر الأبدي.
قبل الإضاءة على مسلسل “جن”، نعرج قليلا على التلفزة الدرامية، أو الحكايات “السمعبصرية” التي دأبت المحطات التلفزيونية على صناعتها وبثها منذ بداية عصر التلفزة. هذه الصناعة التي بدأها الأميركيون بما يسمى الـ” تي في شو”، والذي كان أقرب الى المسرح المذاع، لحق به المسلسل التلفزيوني ذي الـ 13 حلقة كعرض أسبوعي. عن هذين الأنموذجين العموميين أخذت التلفزات العربية هذا الفن، خصوصاً أن جلّ هذه المحطات جلبت ماكينات تشغيلها من أمريكا. كذلك درّب الأمريكيون كوادرها الفنية والتقنية (أهدت حكومة الولايات المتحدة محطتي تلفزيون لعبد الناصر إبان الوحدة السورية المصرية ودربت كوادرهما في نيويورك) فتمت صناعة نسخ مقلدة فنياً عن تلك الدراما الأمريكية. ومع هذا كان للمواضيع المحليّة حيّز وحصة، واعتبر التلفزيون جهازاً تربوياً في عموم مقاصده (طبعاً الأولوية كانت لنشرات الأخبار وللطقوس والإحتفالات لزوم الدعاية السياسية.)
لقد تنكبت الحكاية السمعبصرية مهمة تثقيف الجمهور كمهمة خيريّة تفيد في تحسين الناس عبر ما تمّت تسميته “تنويراً”، معتمدةً نفسها كوسيلة إيضاح تقدم المعلومة الخيّرة بتبسيط الى هؤلاء “الأميين”. وهكذا، باختصار شديد، ولدت الدراما التلفزيونية في البلدان العربية تحت رعاية السلطات ورقابتها. ولما وصلت إلينا مرحلة البث الفضائي ازدادت الرقابة واشتدّ تعنّتها خصوصاً مع إدخال الرقابة “الاجتماعية” كمرجعية مضافة إلى غيرها من المرجعيات كالخصوصية والتقاليد والدين. لقد أضحت الرقابة مرجعية يمكن الإستناد إليها إستنسابياً في قرارات المنع والإزالة، خاصة حين يصبح توقع عدم الرضا الشعبي سلاحًا بيد الرقابة الرسمية مع أنه غير معترف به بتاتًا في مجالات أخرى كالحريات السياسية مثلا!
هذا ما أدى إلى ظهور مفارقة غريبة إذ تبدو الحكايات السمعبصرية المصنوعة قبل حلول التقنيات الجديدة تنويرية جداً بالمقارنة بما يصنع في عصر الفضائيات. وهذا يعني أن هناك مسيرة معكوسة باتجاه التنوير عموماً، وخصوصاً بعد عام 1979 حيث بدأت الصحوات الدينية بالسيطرة المطلقة على أدوات الفن والإعلام والإعلان، محولة الدراما الى توأم ملتصق Conjoined Twins، أحد شقيه الفن والثاني الإعلام بمعناه التربوي الإرشادي، الذي اشترط على الدراما التلفزيونية التركيز على قيم الفضيلة والاحتشام ورفض الغريب كقيم عليا ينافح عنها الجمهور المحافظ ويطلبها كمرجعية فنية ووثائقية من الواقع باعتباره مرجعاً نقدياً. ومع تطاول الوقت استطاعت هذه الدراما أن تبث ثقافة محافِظَة كمحرك لسلوك غيبي عدائي ومهلوع من كل جديد أو متغير، على ما يكتنف هذا الجمهور من إزدواجية في الرؤيا والقياس تصل الى حدود الفصام، وهذا ما ساهم بشدة في حضور “مجتمع” ما تحت الستار.
لايحتاج المرء أن يكون أديبًا أو مثقفًا أو عالم اجتماع أو نفس ليتمكن من إظهار فساد مرجعية الواقع المعتمدة. فمجرد العيش العادي في أي مكان مع مهارة إحصائية بسيطة يمكنّه من ذلك. إنها الحياة كما هي. فالجميع يخرج من منزله ليتعامل معها في الشوارع والمقاهي، في العمل والوظائف الحكومية والخاصة، ولربما يلاحظها من منزله، ليرى ويسمع عن سلسلة لا تنتهِ من الممارسات الفاضلة وغير الفاضلة، المحتشمة وغير المحتشمة سراً أو علانيةً. وجميعنا لاحظ وربما مارس ذلك أو تسقّط أخباره بحيث يمكننا سرد ملايين الأمثلة عن الممارسات الإنسانية في الحياة كشهود عيان. ولكن مع استخدامنا القليل من علم الإحصاء، نعرف أن خمسين “جريمة شرف” في السنة، في دولة ما، هو رقم ضخم لممارسات تخص هذا النوع من “الشرف”، يكمن وارئها كمية أكبر من هذه الممارسات ولم يتم عقابها كجريمة. كما تكمن وارئها كميات أكبر بكثير من هذه الممارسات التي ظلت سرية ولم تكتشف. هذا قد يعني أن “مجتمع” الفضيلة والحشمة هو مجرد وهم، ولو كان موجوداً فلا لزوم وقتها لا للفن ولا للدراما التلفزيونية. إذن تم إعتبار هذا الواقع الموهوم مرجعية وشرطا لكتابة وصنع الدرامات .
بالعودة الى المسلسل “الإنترنيتي”، “جن”، الذي قامت دنيا العامة عليه ولم تقعد في الأردن، نلحظ ممارستين ترقيان الى مستوى الفضيحة: الأولى، هي وقوف جل “التنويريين” من كتبجية وصحفجية ومفكرجية، ضد المسلسل، في تعبير مؤسف عن موقفهم المزدوج من قضية التنوير ذاتها فهي كما ظهرت في مواقفهم مشروطة بعدم التنوير!
الثانية: هي مطاردة جمهور العامة للممثلين وحدهم – وهم للمناسبة مجموعة من الشباب الهواة ولكنهم قدموا أداء يستحق الإشادة بالنسبة لخبراتهم. هذه المطاردة في كافة مستوياتها ووسائلها (طبعًا استخدمت وسائل التواصل الاجتماعي فيها تعبيراً عن حداثتها) تميزت بالهوان والخِسّة. فإحساس المطارِدين بالضِعة وعدم مقدرتهم على التحكم بــ”نتفليكس” أو محاسبتها، أو حتى مقاطعتها، جعلهم يصابون بسعار الاستقواء على الأفراد باستبدادية مفرطة، تداولو فيها أقذع الألفاظ والتوصيفات والشتائم رداً على بضع شتائم واقعية يتداولها ابطال المسلسل.
كان لا بد من ذكر هاتين الممارستين تجاه عمل فني درامي أقل ما يقال فيه أنه جيد وليس نسخة تقليد عن المسلسات الأمريكية آنفة الذكر. إنه مسلسل أصلي بما فيه وما عليه، حيث يستعرض قسما من شريحة اجتماعية موجودة في الأردن وغيره، والتي تتقاطع مع الممارسات الاجتماعية العامة للأردنيين بقليل أو بكثير، راصدًا الخير والشر في احتدامهما، عبر حكايات مجموعة من طلاب ثانوية عامة في مدرسة يرتادها الأغنياء، يقومون برحلة مدرسية إلى البتراء. هناك تتجلى ممارسات المراهقة المتطرفة، كالتدخين وشرب البيرة وتقبيل العشاق لبعضهم، والتشاتم بطريقة بذيئة، تبدو كلها طبيعية في هذا العمر وهي فوق ذلك ليست خطيرة وقابلة للمعالجة. إلا أن التنمُّر (قارن مع الاستبداد) وحده قادر على الأذى المحكم عبر تركه لاَثار في نفس المتنمَّر عليه (قارن مع ضحايا الاستبداد)، الذي يراكم ما يشبه طاقة من حنق الى حقد الى ضغينة الى تمني الموت.
إنها حكاية بسيطة واضحة وجميلة، مصنوعة بمهارات فنية معايرة وذات مستوى احترافي جيد، هذا ما اعترض عليه داعمو مرجعية الواقع وطاردوه دفاعاً عن شرف موهوم، في اجتماع سكاني لا يرقى في علاقاته الى مستوى المجتمع المعاصر أو حتى المدينة المعاصرة، في رفض عمومي مخجل لهذا المسلسل. فالمطالبة بمرجعية الواقع تحولت إلى إنكار واستنكار لهذا الواقع عند عرضه بوصفه تشجيعًا على الفاحشة أو بصفته تزويرًا للواقع المشتهى. حيث يظهر أن التنوير هو الضحية الكبرى، إن كان بممارسة المشاهدة أو ممارسة النقد. وهذا بنفسه هو أحد الدلائل الفاضحة عن فشل هذا النوع من الاجتماع البشري. ولكن من هذه الناحية فقد سبق السيف العذل، ولسوف تستمر منصات البث “الإنترنيتي” بصناعة هكذا نوعية من المسلسلات وما على المعترضين إلا اجترار هوانهم.
الدراما التلفزيونية العربية، تحديدا،ً وصلت الى نهاية مشوارها مسبقاً بسبب عدم صدقيتها على الأقل، والتي حولتها الى حكايات شفهية لا تصمد أمام أية منافسة أو مناقشة أو قياس مع بداية صراع الأجيال التكنولوجي الذي حُسم لصالح المنصات “الإنترنيتية” حالياً والتي تنتظر الأحدث كي ينافسها. وقد اعتبر صناع الدراما التلفزيونية العربية هذا العام، أنه قد نالهم شرف كبير بسبب عرض “نتفلكس” لبعض مسلسلاتهم عبر منصتها وهذا مؤشر لخضوع هؤلاء لشروط “نتفلكس” ومواصفاتها. أما الحكايات العنترية التي حولت الدراما التلفزيونية العربية، في لدنها الكاوبوي الأمريكي، الى أعرابي إرهابي وعنصري، فقد آن أوان غيابها.
.