ملف الندوة: بدايةُ الحِكْمة-د. عادل بشارة

image_pdfimage_print

نص الكلمة التي ألقاها الرفيق الدكتور عادل بشارة في الندوة التي عقدت في طرابلس، لمناقشة كتاب شحادي الغاوي: “الأسباب والعوامل الحزبية الداخلية في تاريخ استشهاد سعاده…”

ماذا يمكنُ أنْ نقولَ عن كتاب شحادي؟ ألم يتم القول عنه بما يكفي؟

أقلُّ ما يمكنُنا قولُه هو أنَّه استقصاءٌ عميقٌ ومدروسٌ لتاريخٍ قاتمٍ ومُبهَمٍ جدًا. إنه أشبهُ بخشبِ الماهوغني؛ غنيٌّ وأنيقٌ، ولكنّه يُشعرُك بالارتياحِ واليَقَظةِ عندَ قراءتِه، وأنتَ تحاولُ استيعابَ صِدْقَه الصادمَ. تكمُنُ أصالةُ هذا الكتابِ في التزامِه الاقترابَ منَ الحقيقةِ بأكبرِ قَدْرٍ ممكنٍ، حتّى لو فعلَ هذا عَبْرَ طَرْحِ أسئلةٍ مؤلمةٍ، والاستقصاءِ عن حقائقَ صادمةٍ، والتشكيكِ في الرواياتِ السائدةِ. لن تُدركَ مدى احتياجِنا إلى كتابٍ من هذا النوعِ، في هذا الوقتِ تحديدًا، إلاّ بعدَ أن تبدأَ بقراءتِه.

يختصرُ عنوانُ الكتابِ الفكرةَ العامَّةَ لمضمونِه، وهي عَرْضٌ “للعواملِ والأسبابِ الحزبيةِ الداخليةِ التي ساعدَتْ وسهَّلَتْ لأعداءِ سعادة الخارجيّينَ تنفيذَ قرارِ اغتيالِه. إنَّ قرارَ التخلُّصِ من سعادةَ وقتلِه ما كانَ لينجَحَ تنفيذُه لو عرَفَ أعوانُ سعادة وأركانُ حزبِهِ كيف يَحمونَه ويُحافظونَ عليه.” أيْ أنَّ الكتابَ يخرُجُ عنِ التفسيراتِ المألوفَةِ التي تَعْزُو حدثَ استشهادِه إلى أَيادٍ خارجيةٍ، مُتجاهِلَةً التقصيرَ المتعمَّدَ وغيرَ المتعمَّدِ، الذي أظهرَه أركانُ الحزبِ آنذاكَ، في توفيرِ المساعَدةِ، والدِّقَّةِ في المعلوماتِ.

الكتابُ ليسَ منَ الكُتبِ الَّتي في إمكانِ القارئِ أن يقرأَها على عَجَلٍ. إنَّه كتابٌ يَجمَعُ الجُرأةَ على الطَّرْحِ، والبَساطَةَ في الأسلوبِ، ولكنْ ضِمنَ إطارٍ يطرَحُ فيهِ الكاتبُ قضايا شائكةً، ومتعلِّقةً بجُملَةِ أحداثٍ لنْ تَتِمَّ معالجتُها بشكلِ مَنهَجِيٍّ، وخارجَ الخِطابِ الحِزْبيِّ التقليديِّ المعتمَدِ منذُ عامِ 1949. جَرَتْ عدةُ مُحاولاتٍ فرديةٍ، قبلَ صدورِ الكتابِ، للكَشْفِ عنْ حيثياتِ تلك الحادِثَةِ، لكنَّها لمْ تَصِلْ إلى مُستوى كتابِ شحادي وعُمقِه، لأنَّها ركَّزَتْ في عواملَ من دونِ الأُخرى، أو لأنها لمْ تَجرُؤْ على طَرْحِ الأسئلَةِ المَطلوبَةِ كَيْ لا تُحرِجَ أحدًا. ونَجِدُ في كتابِ شحادي، في المُقابِلِ، مُحاوَلةً، رُبَّما هِيَ الأُولى من نوعِها، لفَهْمِ ما حدَثَ، منْ خلالِ النَّظَرِ إلى المَسألَةِ منْ داخلِها إلى خارجِها، منْ دونِ إهمالِ أيٍّ منَ العوامِلِ الخارجيةِ. وهذه المقارَبَةُ ليسَتْ سَهلَةً، نظرًا إلى الفَترَةِ الزَّمنيةِ التي تفصِلُنا عن أحداثِ تلكَ الحِقْبَةِ، وغيابِ الشُّهودِ الأساسيِّينَ، ونتيجةَ العَواملِ النفسيةِ التي لا تَقتصِرُ على الأفرادِ فقطْ، وإنّما تَنسَحِبُ أيضًا على المؤسَّسةِ الحزبيةِ كُلِّهاAperçu (ouvre un nouvel onglet).

عندما يظهَرُ كتابٌ بهذا الحَجْمِ وهذه الجَوْدَةِ، لا بُدَّ من أن يُؤدّي، بطبيعةِ الحالِ، إلى بُروزِ ردودِ فِعْلٍ إيجابيةٍ وسلبيةٍ، على حَدٍّ سَواء. مَدَحَ البعضُ أصالتَهُ غيرَ المَسبوقَةِ، والأَدِلَّةَ المُقْنِعَةَ التي يُقدِّمُها، بينَما انتقدَهُ الآخَرونَ لأنه انحرافٌ عمّا هوَ تقليدِيٌّ، وغيرُ مُتوافِقٍ مَعَ قناعاتِهِمُ الشَّخْصِيةِ والتَّفسيراتِ التي اعْتادوها. لمْ يَكُنْ كُلُّ المَديحِ بَنَّاءً، ولمْ تَكُنْ كلُّ الانتقاداتِ غيرَ بَنّاءةٍ. لكنْ يوجَدُ تعليقٌ واحِدٌ أدهشَني أكثرَ من أيِّ ردِّ فِعْلٍ آخَرَ، وهوَ: “هذا الكتابُ ما هوَ إلاَّ مجرَّدُ محاولَةٍ لإثارَةِ أزْمةٍ داخلَ الحزبِ بالتشكيكِ بمصداقيةِ قياداتِه التاريخيةِ، وبالتالي لا يخدُمُ أحدًا إلاّ أعداءَ الحزب.” بَلْ إنَّ هذا الرَّفيقَ، استعانَ خلالَ إبداءِ رأيِهِ، بعبارةٍ غالبًا ما تُستخدَمُ في الغَربِ، منْ أجْلِ التَّعبيرِ عن قَلَقِه، وهي “هذا الكتابُ من شأنِهِ أنْ يَفتَحَ عُلبَةً منَ الدِّيدانِ لا يَنبَغي فَتْحُها في الوَقتِ الحاليِّ.” لا شَكَّ في أنَّ هذا الرَّفيقَ نَطَقَ وقَلبُه على الحِزبِ، لكنْ من بابِ الوِجْدانيةِ العاطفيةِ، لا منْ مَنطِقِ العقلِ السليمِ. فلمْ يخطُرْ في بالِهِ، ولَوْ لحظةً واحدةً، على الرَّغمِ من سَذاجَةِ هذا الرأيِ وضَحالتِهِ، فإنه يعكِسُ فعلاً فكرةً مضلِّلةً ومُنتشرةً داخلَ حزبِنا، وهيَ أنَّ التقدُّمَ يستلزِمُ منّا نِسيانَ أيِّ شيءٍ جاءَ قبلَنا، وأنَّ ما حدَثَ في الماضي يجبُ أن يبقى في الماضي. وهي فكرةٌ فَحْواها أنَّ في إمكانِنا أنْ نَصنَعَ منَ الصِّفْرِ شيئًا أفضَلَ ممّا جاءَ في الماضي. ولكنَّ هذا مجرَّدُ خَيَالٍ غيرِ واقِعيٍّ. فكلُّ شيءٍ نعيشُه اليومَ هوَ نتيجةٌ لِما حدَثَ في الماضي، ولا يُمكِنُ أنْ نتقدَّمَ في الحياةِ قبلَ أنْ نتصارَحَ معَ هذا الماضي ونتصالَحَ معَه، وإلاّ أصبَحَ التاريخُ مجرَّدَ حكايةٍ لا عَلاقَةَ لها، البَتَّةَ، بقضايا الواقعِ الجديدِ. يُؤلمُني هذا التفكيرُ لأنَّهُ يَدُلُّ على جَهْلٍ خطيرٍ للمَكانَةِ التي خصَّصَها سعادة لفلسفةِ التاريخِ في بِناءِ الوَعيِ القوميِّ. فهوَ يَرى أنَّه يَجِبُ أن نمتلِكَ نَظْرةً فلسفيةً تُمكِّنُنا مِنَ الإمساكِ برُوحِ هذا التاريخِ، منْ أجْلِ فَهْمِ مَجراهُ، وهَدَفِهِ، وجَوهرِهِ، ولا يَجوزُ الاكتفاءُ باعتبارِهِ مجرَّدَ أحداثٍ. فما تحمِلُهُ الفلسفةُ للتاريخُ هو مَفهومُ العقلِ، أو حقيقةُ أنَّ العقلَ جوهرُ كلِّ واقعٍ. إنَّهُ مَبدَأُ التاريخِ ذاتِه.

أقولُ لهذا الرَّفيقِ، ولكُلِّ مَنْ يفكِّرُ مِثلَهُ:

لوْ واصَلْنا تَجاهُلَ ماضينا بسببِ الخَوفِ أوِ الشُّعورِ بعَدَمِ الأمانِ، فسنواجِهُ أزَماتٍ أشَدَّ وأقوى كثيرًا؛ أيْ أنَّ عُلبَةَ الدِّيدانِ ستتحوَّلُ إلى بِرميلٍ منَ الثَّعابينِ. (ومَنْ يَعْلَمُ، فربَّما تحوَّلَتْ!).

نعمْ، يُثيرُ هذا الكتابُ القَلقَ والارتباكَ، ولكنْ فقطْ في عقولِ أولئكَ الذينَ لا يَفهَمونَ قيمةَ الماضي، ويجهَلونَ فكرةَ التاريخَ، وأهميةَ دراسةِ الأحداثِ ومجرياتِ الأمورِ، بمنطِقٍ وفلسفةٍ.

نعمْ، يُعزِّزُ هذا الكتابُ الشَّكَّ والرِّيْبَةَ، ولكنْ فقطْ في عقولِ أولئكَ الذينَ لا يَملِكونَ الإيمانَ ولا المعرِفةَ، والذينَ لا يَفهَمونَ القِيمَةَ العَمليةَ للشَّكِّ في التَّاريخِ.

ثَمَّةَ رَأيٌ ثانٍ مُشابِهٌ يقولُ: “ليسَ منْ حَقِّ الرَّفيقِ شحادي أوْ أيِّ رَفيقٍ آخَرَ، أنْ يُشكِّكَ في نَزاهَةِ ـ أو صِدْقِيَّةِ ـ مُذَكَّراتِ ورِواياتِ الذينَ عاصَروا سعادة أوِ استلَموا زِمامَ الأمورِ في الحزبِ بعدَ استشهادِه.”

لأصحابِ هذا الرأيِ، أقولُ:

لو كانَ هناك سِمَةٌ مُتفرِّدَةٌ ومُميَّزَةٌ في كتابِ شحادَه، فهيَ التطبيقُ البارِعُ لمبدأِ “الشَّكِّ”. فالمؤلِّفُ لا يُبالي بهذا الأمرِ، ولكنَّه يَحرِصُ دائمًا على وَضعِهِ في سياقِه. فهوَ لا يُشكِّكُ كَرمَى خاطِرِ الشَّكِّ، في حَدِّ ذاتِهِ، ولا يُشكِّكُ من بابِ العِداءِ أوِ الاحتقارِ، ولا من أجْلِ تَفضيلِ نفسِهِ على الآخرينَ. إنَّه يُشكِّكُ لأنَّ لَديهِ سببًا إيجابيًّا في شَكِّهِ، وهذا مبدَأٌ أساسيٌّ في علمِ التاريخِ، بحيثُ يَجبُ أن يستنِدَ الشَّكُّ إلى “سَببٍ إيجابيٍّ” إذا كانَ الهدَفُ تحقيقَ نتائجَ مفيدةٍ؛ أيْ أنَّه يجِبُ أنْ يكونَ المُحقِّقُ قادرًا على تبريرِ تحقيقِهِ منْ خلالِ توضيحِ الأسبابِ الَّتي أدَّتْ إلى اعتقادِهِ أنَّ التَّفسيراتِ والرِّواياتِ القائمةَ غيرُ كافيةٍ أوْ غيرُ مُتوازِنَةٍ. فعِلمُ التاريخِ يُوَضِّحُ لنا أنَّ الشَّكَّ يبرِّرُ الاستفسارَ، لأنَّ الشكَّ هوَ وعيُ عَدَمِ التَّوافُقِ بينَ الرواياتِ المُعتمَدَةِ، وبالتَّالي، يُمكِنُ للباحثِ الإشارةُ إلى الرِّواياتِ المُتناقضةِ في النِّظامِ المَعْرِفيِّ عندَما يُطلَبُ منه تبريرُ الاستقصاءِ. لكنْ، إنْ لمْ يَنطلِقِ الباحثُ من شكٍّ حقيقيٍّ، يُعتَبَرْ عملُه منْ دُون جَدْوًى، ويَكُنْ قد أضاعَ وقتَه في دراسةِ اعتقادٍ لم يكُنْ لَديه أيُّ مبرِّرٍ منطقيٍّ لاعتبارِهِ غيرَ كافٍ. يَتطلَّبُ التفكيرُ المنطقيُّ، باختصار، ألا نُجْريَ أيَّ استقصاءٍ، على نحوٍ عابرٍ أو عفويٍّ، وإنما يجبُ أنْ يكونَ هناكَ سببٌ للاستقصاءِ، ويجبُ تقديمُ هذا السببِ على نحوٍ مُتناقضٍ مَعَ الهَيكَلِ المَعرفيِّ. وهذا الأمرُ لا يَتِمُّ إلاّ عَبْرَ الشكِّ والتشكيكِ فيما هوَ قائمٌ.

تَكمُنُ قوَّةُ كتابِ شحادي في هذه النُّقطةِ: ليسَ في ثروةِ الموادِّ الجديدةِ التي يقدِّمُها، ولا في الأصالةِ المعقَّدةِ التي يتضمَّنُها، والمتعلِّقةِ بفترةٍ متوتِّرةٍ جدًّا وممتلئةٍ بالأحداثِ فحَسْب، ولا حتّى في نَمَطِ الكتابةِ المُفعَمةِ بالأناقةِ وسهولةِ القراءةِ، وإنّما، أيضًا، في جُرأتِه، وقدرتِه على “التشكيكِ” في الآراءِ والرواياتِ المُسَلَّمِ بها، بصورةٍ عامَّةٍ. قَدْ يجدُ البعضُ أنَّ هذا الشكَّ ضالٌّ وعديمُ المَنطِقِ، وصعبُ الهَضْمِ والاستيعابِ، وربَّما لا يتحمَّلُه البعضُ الآخَرُ. هذه مُشكلتُهم. نحنُ لا نَشُكُّ إرضاءً لأيِّ شخصٍ، أوِ استرضاءً لبعضِ المشاعرِ، أوْ منْ أجْلِ إثارةِ حساسيّاتٍ معيَّنةٍ، وإنَّما نشُكُّ لأنَّ الشكَّ يؤدّي إلى طَرْحِ الأسئلةِ، والأسئلةَ تولِّدُ إجاباتٍ، أوْ تؤدّي على الأقّلِّ إلى البحثِ عنها. إنَّ طَرْحَ الأسئلةِ معناهُ التفكيرُ والتأمُّلُ، وتذكيرُ النَّفْسِ بأنَّ لها غايةً. الشكُّ وظيفةُ العقلِ، والعقلُ هو الشَّرْعُ الأعْلى في قاموسِنا القوميِّ. وهذا الأمرُ يذكِّرُنا بقولٍ مأثور لدى المؤرِّخينَ الألمانِ، مُلخَّصُه “أنَّ الغَرَضَ من عقلِ الإنسانِ هوَ السؤالُ والتشكيكُ. فاسمَحْ لعقلِكَ بالقيامِ بوظيفتِه”.

وكتبَ أيضًا الفيلسوفُ الفرنسيُّ الشهيرُ، بيير أبيلارد (Pierre Abelard)، الذي يعودُ إليهِ الفَضْلُ في تأسيسِ جامعةِ باريسَ، منذُ ألفِ سنةٍ تقريبًا:

تكمُنُ بدايةُ الحِكْمةِ في الشكِّ،

فالشكُّ يَدفعُنا إلى السؤالِ

والبحثِ عن إجاباتٍ.

وبالسعيِ قَدْ نَهتدِي إلى الحقيقةِ.

 يشجِّعُنا الشكُّ على إبقاءِ أذهانِنا مُنفَتحةً، ومواصلةِ تقويمِ الأدلَّةِ الداعمةِ لمعتقداتِنا، أوِ المضادَّةِ لها. وهذا أمرٌ مهمٌّ جدًّا في التفكيرِ النَّقْديِّ، ويحفِّزُ على الاستكشافِ. فَلْنَسألْ: كيفَ بدأَ “سعادة”؟ ألمْ يبدأْ بالشكِّ في العالَمِ منْ حولِه، والتساؤلِ عنهُ؟ ألمْ يكُنْ بالتشكيكِ في صِدْقيةِ القراراتِ الأجنبيةِ التي مزَّقَتْ أُمَّتَه أَشْلاءَ؟ ألمْ يكُنْ بالتشكيكِ في احتماليةِ التغييرِ والتقدُّمِ عَبْرَ النظامِ القائم وأصحابِ السياساتِ التَّقْليديةِ؟ للشكِّ والتساؤلِ دورٌ رئيسيٌّ في صياغةِ التاريخِ وكتابتِهِ، شَرْطَ أنْ يكونَ هَدَفُ الصياغةِ تقديمَ إجاباتٍ وحُلولٍ وتفسيراتٍ جديدةٍ، وليسَ إلقاءَ اللَّومِ فحَسْب.

استطاعَ شحادي استغلالَ فكرةِ التشكيكِ منْ أجْلِ الوصولِ بالكتابةِ عن ماضي الحزبِ إلى مُستوًى جديدٍ. لقدْ نجحَ فيما فَشِلَ فيه الآخَرونَ، وابتعَدَ عن التَّكْرارِ الروتينيِّ للمعلوماتِ القديمةِ، وركَّزَ في إخضاعِ السَّرْدِياتِ المتنوِّعةِ لفحصٍ وتقويمٍ دقيقَينِ. والنتيجةُ هي دراسةٌ لا تثير شكوكًا جديدةً في دقَّةِ ما سبَقَ، وفي صِدْقيَّتِة، فَحَسْب، بلْ تقدِّمُ أيضًا حَوافزَ قويةً لتوجيهِ مزيدٍ منَ الانتباهِ إلى ماضينا، وطَرْحِ أسئلةٍ أعمقَ وأشدَّ تعقيدًا، والتفكيرِ خارجَ المألوفِ.

لا يَعْني هذا الأمرُ أن الكاتِبَ تلاعَبَ بالمادَّةِ لمجرَّدِ إثارةِ الشَّكِّ. هدفُهُ ليسَ التقويضَ، بلْ تعزيزُ الفَهْم؛ وليسَ الإدانةَ، بلْ تحدّي ذكائِنا؛ وليسَ التَّكْرارَ، بلِ الوصولُ إلى رُؤْيةٍ جديدةٍ. هذا واضحٌ منَ الطريقةِ الموضوعيةِ والتحليليةِ السائدةِ في الكتابِ. ونرتَكِبُ خطأً فادحًا إنْ ظَنَنّا أنَّ الكاتبَ هَدَفَ إلى نَزْعِ صِدْقِيَّةِ المذكَّراتِ أو مَحْوِها منَ الوُجود. فكتابُه يعتمِدُ على هذهِ المذكَّراتِ، على نحْوٍ شِبْهِ كامِلٍ تقريبًا، وهذا أمرٌ يعزِّزُ قيمتَيْها المعنويةَ والتاريخيةَ، على حَدٍّ سواء. كلُّ ما فعلَهُ الكاتبُ هوَ أنَّه أضافَ عاملاً جديدًا هوَ: ضرورةُ قراءتِها بعينٍ نقديةٍ، ووَضْعُ سياقاتٍ تاريخيةٍ متعدِّدةٍ في أذهانِنا بدلاً منْ قبولِها على ظاهرِها فَحَسْب.

ثمَّة انتقادٌ/اتِّهامٌ ثالثٌ يقولُ إنَّ الكاتبَ مَنَحَ القِوى الأجنبيةَ صَكَّ براءةٍ في جريمةِ اغتيالِ سعادة، من خلالِ تسليطِهِ الأضواءَ على العواملِ الداخليةِ للاغتيالِ. هذا الكَلامُ يَنقُصُهُ كثيرٌ منَ الدِّقَّةِ والحكمةِ. لا يوجَدُ في الكتابِ أيُّ إشارةٍ تُبَرِّئُ هذه القِوى الأجنبيةَ، أوْ تَنتقِصُ من دورِها، بَلْ يَتضمَّنُ نُصوصًا متعدِّدةً وكثيرةً تتحدَّثُ عن قِوًى مَحَلِّيةٍ، ويُسلِّطُ الضوءَ على عَلاقاتِها المُلتَبِسَةِ بقِوًى أجنبيةٍ. ويشيرُ، في أماكنَ كثيرةٍ، إلى دورِ هذه القِوى الأجنبيةِ في تخطيطِ المُؤمراتِ في المِنْطَقةِ، وتدبيرِها ورعايَتِها. وإنْ تَمَعَّنّا في الكتابِ أكثرَ، يُمْكِنْ لنا أنْ نَستنتِجَ أنَّ القِوى الأجنبيةَ كانَ لها الدورُ الأساسيُّ فيما حَلَّ بسعادة وحزبِه، ولكنَّ هذا الدورَ ما كانَ لِيُكتَبَ له النَّجاحُ من دونِ الدَّورِ المُكَمِّلِ لقوًى مَحَلَّيةٍ، كانَتْ لها مَصْلحَةٌ راسخةٌ في التَّخلُّصِ منهُ. وهذا أمرٌ مفروغٌ منه، حتّى في الكتابِ. والسؤالُ الأهمُّ، والذي سعى الكاتبُ للإجابةِ عنهُ، هوَ: ماذا فعلَ أركانُ الحزبِ لتَفادي الكارثةِ؟ إنَّه سؤالٌ مشروعٌ، وكانتْ معالجتُه واجبةً وضروريّةً منذ فَترةٍ طويلةٍ، بغضِّ النَّظَرِ عن دورِ القوى الأجنبيةِ والمحليةِ في المُؤامَرة على سعادة. وتساعدُ الإجابةُ عنه، ليسَ فقطْ على التخلُّصِ من عباءَةِ الخِداعِ والذرائعِ، بلْ أيضًا على إنصافِ كلِّ مَن ظُلِمَ في حَقٍّ من حقوقِه.

لا. لَمْ، ولنْ يكونَ هدفُ الكاتبِ تبرئةَ القِوى الأجنبيةِ. كلُّ ما في الأمرِ أنّه أرادَ أن يَصِلَ إلى الحقيقةِ، أوْ أنْ يمهِّدَ لها، من خلالِ دراسةِ الحَدَثِ منْ زَوايا مُتعدِّدةٍ، ووَضْعِ كلِّ شخصٍ، أدّى دورًا محوريًّا فيه، تَحتَ المِجْهَرِ، ودراسةِ كلٍّ منْ مواقفِهِ وتاريخِه وسلوكِه وإنجازاتٍه، بموضوعيةٍ وحياديةٍ وتجرُّدٍ. هذا هوَ الأسلوبُ السليمُ والأسلَمُ للوصولِ إلى حقيقةِ الأمورِ. إنَّه الأسلوبُ المُفضَّلُ لدى الدُّولِ المُتمَدِّنةِ من أجْلِ تَقَصِّي الحقائقِ، لأنَّه يَقطَعُ الطريقَ على التَّأويلاتِ العَشوائيةِ في تفسيرِ النتائجِ. مِنَ السَّهْلِ أنْ نُلقِيَ اللَّوْمَ على القِوى الأجنبيةِ – وهيَ نَغْمَةٌ نَسمَعُها بعدَ كلِّ إخفاقٍ – ولكنَّ هذا الأمرَ لا يَكْفي، ولا يُمْكِنُ وَضْعُه إلاّ في خانَةِ العَجْزِ. إنَّه مُجرَّدُ هروبٍ منَ الواقعِ، وهوَ حالَةٌ نَفْسِيَّةٌ تُبرِّرُ الفَشَلَ، ويَلجَأُ إليها العقلُ حينَ لا يستطيعُ أنْ يقومَ بدورِه الطَّليعي.

بَعْدَ هذا العَرْضِ السَّريعِ لبعضِ الانتقاداتِ للكتابِ، أقولُ للكاتب:

لا تَجْعَلْ بِضْعَ تُفّاحاتٍ عَطِنَةٍ تُفْسِدُ تَجْرِبَتَك، أوْ تُضْعِفُ عزيمتَك. وأؤكِّدُ لك، ككاتبٍ زميلٍ، أنَّ ردودَ الفعلِ السلبيةَ ذاتُ قيمةٍ دِعائيةٍ أيضًا، بلْ إنَّ قيمتَها قدْ تَتجاوَزُ، في بعضِ الأحيانِ، قيمةَ الاستجابةِ الإيجابيةِ، أوِ المديحِ. لمْ يَكُنْ كتابُ سلمانْ رُشدي، “آياتٌ شَيْطانيةٌ”، لِيبيعَ أكثرَ منْ بضعةِ آلافٍ منَ النُّسَخِ لَوْ لَمْ يُواجِهْ رُدودَ الفعلِ السلبيةَ والحادَّةَ، والَّتي أثارَها بينَ دوائرَ دينيةٍ معيَّنةٍ، وأدَّتْ إلى بَيْعِهِ مَلايينَ النُّسَخِ بَدَلاً منْ ذلك. اِطْمئنَّ، يا عزيزي، فحتّى لوْ تمكَّنْتَ منْ تأليفِ أفضلِ كتابٍ على سَطْحِ الكَوْكَبِ، فستتعرَّضُ للانتقادِ من شخصٍ ما، في مكانٍ ما. لكنَّ المُهمَّ أنْ يكونَ الانتقادُ بَنّاءً، وأنْ تكونَ أنتَ على استعدادٍ لأنْ تُرحِّبَ به، كَما تُرحِّبُ تمامًا بالرُّدودِ الإيجابيةِ.

لا تُقلِّلُ من قيمةِ هذا الكتابِ الانتقاداتُ التي تمَّ استعراضُها في هذه العُجَالَةِ، ولا تُقَلِّلُ أيضًا منْ حَجمِ الجُهودِ التي بَذَلْتَها في سبيلِ إخراجِه إلى النُّور. فكتابُكَ، يا رَفيقي، يَضمُّ، بينَ دَفَّتَيْه، عددًا منَ السِّماتِ المُمَيَّزَةِ؛ فنِطاقُه واسِعٌ، وسَرْديَّتُهُ جديدةٌ، وحَبْكَةُ ما يقدِّمُه واقعيةٌ، في أقلِّ تقديرٍ. وعلى الرَّغْمِ من أنَّ القِصَّةَ معقَّدةٌ، في ظلِّ وجودِ كثيرٍ منَ الأجزاءِ والشخصياتِ المُتداخِلةِ، فإنّكَ استطعتَ، من خلالِ المُقارَبَةِ التي اعتمدتَها، أنْ ترتقيَ ببراعةٍ إلى هذا التَّحَدِّي الصَّعْبِ، وأنْ تلتقِطَ المُناخَ بشكلٍ ممتازٍ، وتَتناولَ القضايا بوضوحِ التَّعبيرِ والحِكْمَةِ. لكنَّ القيمةَ الحقيقيةَ للكتابِ، بالنِّسْبةِ إليَّ، هيَ أنَّه وّجَّهَ الأنظارَ إلى موضوعٍ تمَّ تجاهُلُه طويلاً، وهوَ: ضَرورةُ تأمُّلِ تاريخِ حزبٍ، ووُجوبُ دراستِه، وَفْقَ مَنْهَجٍ تحليليٍّ وعِلْميٍّ، بعيدًا عنِ الشَّخْصانيَّةِ والخِفَّةِ والسَّذاجةِ، الّتي ﺗَﺠﺎﻭَﺯَﻫﺎ ﺍﻟﺰَّﻣَﻦُ.

فهنيئا لك، وهنيئا للنهضة هذا الانجاز الكبير على امل ان يكون فاتحة خير لإنجازات متتالية.

 

في هذا العدد<< ملف الندوة: خير جليس – سليم سعدو سالمانظروا اليه هو >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments