LOADING

Type to search

مواجهة حاسمة بين دولة المال ودولة الشريعة

غير مصنف ملف فلسطين موضوع العدد

مواجهة حاسمة بين دولة المال ودولة الشريعة

أحمد أشقر
Share

يمكن القول إن رئيس وزراء العدو، “نتنياهو” الذي يُعدّ ربيب ورمز دولة المال وفسادها، لم يتوقع ردّ فعل الطغمة الماليّة وأصحاب الأموال اليهود على محاولة انقلاب “دولة اليهود” وحكومتها اليمينية المتطرفة على نظام الحكم القائم حالياً في الكيان. تغيرات كهذه يمكن أن تُفضي إلى انقلاب على السلطة القائمة ومراكز المال واتخاذ القرار والقيم التي أفرزتها، واستبدالها بنظام حكم جديد يضع الشريعة اليهودية فوق كل شيء، ولا يُدرك أهمية “البيئة الآمنة للاستثمار” وتراكم الرأسمال. وبالنتيجة من شأنه أن يعيق تدفق الاستثمارات إلى الكيان أو هروب بعضها إلى دول تنافس الكيان في استقطاب الاستثمار وجني الأرباح. استفادت هذه الفئة من “الثورة القضائية” التي قام بها (أهارون براك)، رئيس محكمة العدل العليا السابق، الذي عمل على إضعاف “الوضع الرسمي” الجامع للمجتمع مقابل الإعلاء من شأن القيم الفردية، وقد استفادت بشكل خاص من تشريعات تدعم الخصخصة والتكتلات الاقتصادية الكبرى والسوق على حساب الحقوق الاجتماعية للطبقات الشعبيّة. لذا رفضت تضمين الحقوق الاجتماعية في سجل قوانين وقيم حقوق الفرد.

في تقرير كل من “سوفي شولمان” و”مئير أورباخ” المنشور على موقع (كلكليست 23. 1. 2023) تحدث بعض الرأسماليين اليهود من منطلقات “وطنية” ورغبة في الاستثمار في الكيان، تدفعهم للدفاع عن الديموقراطية فيه، “ديموقراطيّة رأس المال” طبعاً. أي أننا أمام مواجهة بين دولة المال اليهودي القائمة، ودولة الشريعة اليهوديّة التي ستقوم ضمن تسوية ما.

في هذا السياق جاءت مشاركة بعض رجال الأعمال والمصرفيين اليهود في مظاهرة مساء خروج السبت في العشرين من شهر كانون الثاني الفائت، وبيانات بعضهم، واستقالة (موشِه حازَن)، رئيس اللجنة النقدية في بنك إسرائيل، وتحذير عميد بنك إسرائيل العائد من مؤتمر دافوس، أمير يرون، تفادياً للضرر الذي سيلحقه الانقلاب القضائي بالتصنيف الائتماني لإسرائيل. فيما سارع العديد من بيوتات المال العالمية الى التهديد بالتوقف أو سحب استثماراتها فعلاً إذا نجح الانقلاب.

لا بد للأحداث المتتالية المذكورة وغيرها أن تعيق أو توقف “نتنياهو”، رئيس حكومة دولة اليهود. فـ”نتنياهو” غَيَّر في الرأسمالية، وتم تجنيد الطبقة الوسطى لتمويل مصلحة مسيانية [خَلاصيّة] – كما يقول البروفيسور “أرييه كرامباف”، الأستاذ في كليّة تل أبيب – يافا والمتخصص في اقتصاد المؤسسات المالية والنقدية (سنعود إليه فيما بعد- https://newmedia.calcalist.co.il/magazine-24-11-22/m02.html).

جاء تحرك دولة الرأسمال بسرعة هائلة لأنها أدركت أن مصالحها في خطر، وهي التي استفادت كثيراً في الفترة ما بين الانتخابات الخمسة الأخيرة التي كانت بمثابة “شهر العسل للرأسمال والفاسدين الإسرائيليين الذين واصلوا مراكمة السيطرة الاقتصاديّة والماليّة في مفاصل حياة الكيان على حساب جودة المنتجات. (يرجى مراجعة مقال (الانتخابات في (إسرائيل): يهودية- يمينية- متطرفة مقابل يهودية- يمينية- ليبرالية، 2022)، صحيفة الإتحاد الحيفاوية، 9. 2. 2023).

كما يمكن القول إن “نتنياهو” فهم من اللقاء الذي عقده مع عميد بنك إسرائيل، العائد للتوّ من مؤتمر دافوس الاقتصادي، أن ما يقوم به غير مقبول لدى طغمة المال التي يمثلها منتدى دافوس، الذي يدعو إلى توثيق علاقات المال بالسلطة، وأن رفضه لخطته جدّي جدّاً ومن شأنه أن يطيح به وبحكومته. “نتنياهو” يفهم هذا جيّداً، ويستوعب معنى أن الطغمة المالية العالمية هي التي حرّضت على الإنقلاب على محمد مصدق في إيران سنة 1953، وسلفادور الليندي في تشيلي سنة 1973.. والقائمة طويلة.

أما حديث هذه النخب التي تدعي النضال للحفاظ على الديموقراطية فهو ليس أكثر من تخاريف. فلم نسمع منها ولو كلمة واحدة ضد إعدام الفلسطينيين، وهدم بيوتهم، ومصادرة أراضيهم وإهدار كرامتهم،  رغم أن هذه الممارسات تُنافض شرائع حقوق الإنسان وتُعدّ جرائم حرب. فهدفها الوحيد هو الحفاظ على نظام الحكم والسلطة في أياديها وترفض المساس به أو مشاركته مع آخرين، إلا إذا اضطرت لذلك نتيجة لعدم قدرتها الفوز بالغلّة كلها. (هامش: نشأ أهارون براك الذي يدافع المتظاهرون عن ثورته في الشوارع كربيب لمناحيم بيجن في جهاز القضاء، ورسول الطغمة المالية التي حاربت دولة الرفاه التي أقامتها “الحركة العمالية الصهيونية” في الكيان).

*    *    *    *

جاءت محاولة الإنقلاب على نظام الحكم والسلطة في الكيان خلال فترة صعبة لدولة المال لعدة أسباب، كانت بدايتها قيام الصين منذ سنة 2019 بتجميد استثماراتها في الكيان، وتدخل الأمريكان الذين حظروا على الكيان السماح للصين بالاستثمار في بنيته التحتيّة؛ إضافة إلى انخفاض الاستثمارات الروسية والأوروبية منذ بدء الحرب في أوكرانيا (كانت روسيا مستثمراً هاماً)؛ ووصول إسرائيل إلى قمة قدرتها في جذب الاستثمارات في المعلوماتية التي تعتبر عصب اقتصادها للتصدير. قبل أكثر من سنة، صرح رئيس الحكومة السابق، “نفتالي بينيت”، وهو أحد العاملين والمستثمرين في هذا القطاع قائلاً إن إسرائيل بحاجة إلى 15% من الرياضيين الموهوبين والعباقرة العاملين في هذا القطاع كي يصبح قطاعاً منافساً على مستوى العالم- في المقابل يوجد فيها 9% من الرياضيين الموهوبين والعباقرة الآن. يتضافر انخفاض الاستثمار في إسرائيل مع أزمة عالمية تتجلى بفصل مئات آلاف العاملين في قطاع المعلوماتية، وكان بعض المفصولين يتقاضون مليون دولار كراتب شهريّ. وهناك قطاعات أخرى كالغذاء تعاني من حالة ركود أيضاً. هذا عمليّا هو الذي دفع بالطغمة الماليّة، “دولة رأس المال”، إلى التحرك بسرعة وكأنها كانت مستعدة لذلك فتوجهت إلى وسائل الإعلام التي تعتبرها صنيعتها ومنصتها المركزية، لتتحدث وتدافع عن مصالح هذه الطغمة فقط، بينما أهملت وسائل الاعلام الأخرى التي بدت كبهاليل وبهلوانات السيرك.

*    *    *    *

يدّعي “كرامباف” أن “نتنياهو”، منذ بداية الألفية الحالية وخلال حكومات اليمين الستّ التي شكلّها منذ سنة 1996، عمل على بناء نموذج من الرأسمالية الفائقة. فقد صمم هذا النموذج وجسدّه من أجل تقليل اعتماد اقتصاد كيانه على الغرب – وبالتالي تحسين قدرته على تحمل الضغوط السياسية الدولية وعدم قبول أيّة تسوية سياسيّة ولو شكليّة يقبل بها العرب. أما الآن وأمام محاولته الإنقلاب على نظام الحكم والجهاز القضائي المُتبّعيّْن في الكيان فمن شأنه أن “يكسر” النموذج الاقتصادي الذي بناه بيده، ليتبنى ويبني نموذجا من منطلقات يهودية متطرفة للغاية وسوبر رأسمالية، وتؤمن بأرض إسرائيل الكبرى.

لجأ “نتنياهو” إلى نموذجه المذكور بمبادرة ومساعدة منظري اليمين اليهودي والأمريكي على خلفيّة “الإنتفاضة الثانية” وتزايد الضغوط على كيانه للقبول بتسوية ما، إلا أنه أتبع التسويف والمماطلة إلى أن أعلن في خطابة الشهير في جامعة (بار- إيلان) سنة 2009 تخليه عن فكرة التسوية بالمطلق. كنت قد حللت هذا الخطاب بمقال يلخص موقف “نتنياهو” من الصراع اليهودي – العربي بقول “نتنياهو” المشهور للعرب: حربُنا ضدّكم أبديّة!” (المقال منشور في كتابي، التهجير… والإبادة (الفقه المعاصر تجاه العرب)، ص 199- 207، الصادر عن دار بيسان، بيروت، سنة 2018) وهذا ما يحصل طوال فترة حكومات “نتنياهو” والحكومات التي تم تشكيلها من قبل آخرين مثل “أولمرت” الذي يعتقد البعض أن محاكمته وسجنة كانا بسبب عرضه تسوية على عرفات “أكثر كرماً” من جميع رؤساء حكومات الكيان. فنموذجه في هذه الخطة هو بقاء واستمرار الاحتلال منفصلاً عن الإدارة الاقتصادية والماليّة لكيانه.

عمل “نتنياهو” على الفصل ما بين المنعة الاقتصادية وثراء كيانه – ودولة الرفاه الاجتماعي منذ تأسيس الكيان حتى تسعينيات القرن الماضي، حين توقفت الدولة عن الاعتناء برفاهيّة مواطنيها وجعلت رفاهيتهم من مسؤوليتهم الشخصيّة. خلال هذه الفترة أزال “نتنياهو” العوائق والحواجز أمام طغمة المال متبنياً مبدأ إضعاف لجان ونقابات العمال وتسهيل التشريعات الاستثماريّة. تؤكد على هذا قضايا الفساد المالي والإداري التي تجري محاكمته عليها. يمكن التخمين والشكّ أن القضايا التي يُحاكم عليها “نتنياهو” لا تشكل إلا القليل مما اقترفت يداه ولم تجرؤ مؤسسات الدولة المعنية على كشفه لأنه محميّ من أمريكا، وإن كان من المحتمل فتح هذا الباب، ولو بعد حين.

*    *    *    *

كان “نتنياهو” ومعه أركان سلطته من أشكنازيين، وشرقيين، ومتدينين وحريديم يدركون أن نجاح هذا النموذج بحاجة إلى تفويض من ناخبين ومصوتين يمينيين – عقائديين، فوجدوا في اليهود الشرقيين و(الحريديم) الحامل الانتخابي الأمين لهذا النموذج. يقول (داني جوطوين)، وهو مؤرخ اقتصادي واجتماعي، إن سياسة الإفقار أدت إلى إنتاج التصويت الطبقي عند المتديّنين وأبناء الطوائف الشرقيّة. ثم يشرح ذلك بالقول: “في ظل نظام الخصخصة الإسرائيليّ، أعطى اليمين لمصطلح “يهوديّ” مضمونًا اقتصاديًا توزيعيًا. أي أن “اليهوديّة” استخدمت كمعيار للفوائد الاقتصاديّة. هذا هو التفسير الذي يجعل الطبقات الدنيا التي تصوت لليمين أكثر “يهوديّة”، في حين أن الطبقات القائمة التي تصوت لليسار هي “ليبرالية” أكثر” (/danigutwein.wordpress.com/2017/11/30).   

بكلمات أخرى عملت هذه السلطة على توزيع الأموال على هذه الجماعات بواسطة المؤسسات التعليمية الدينية اليهودية والجمعيات الأخرى التي تعنى بشؤونها. وتقدّر بعض التقارير الاقتصادية أن ثمن اتفاقيات ائتلاف الحكومة الحالية، السابعة والثلاثون، حوالي 20 مليار دولار من ميزانية الدولة، لكن وزارة الماليّة ستدفع 5 – 6 مليار دولار فقط ليتمتع بها أتباع هذه الجماعات دون غيرهم (https://www.calcalist.co.il/local_news/article/sjdpzj73j). لتعمل بذلك على تقوية الهوية والإنتماء اليهودي وتوزيع كوبونات غذائية على فقرائهم بحوالي مليار شيكل (= 300 مليون دولار)، إضافة إلى هذه المناعم و’الرشاوي’، تشكل المستعمرات اليهودية في الضفة الغربيّة سوقاً رخيصاً لاستئجار وشراء المساكن من قبل هذه المجموعات التي لم تكن قادرة على السكن أو شرائها في الأرض المحتلة سنة 1948. هكذا يتم تعزيز الإستيطان، وتقوية اليمين الصهيوني والمتدينين والحرديم، وتعزيز الهوية اليهوديّة. وإذا ما تحدثنا عن الخلافات الجوهرية بين دولة رأس المال ودولة الشريعة لقلنا ما يلي: تريد دولة الشريعة القضاء على القيم التي أرستها ثورة “أهارون براك” – واستبدالها بمصالح قطاعات مصلحيّة منافسة. كما أن هذه الدولة – دولة الشريعة – تريد زيادة الإنفاق الحكومي على القطاعات غير المنتجة للأموال، بدليل كلفة الاتفاقيات الإئتلافية البالغة على الورق 20 مليار دولار لقطاعاتها هي. في المقابل بدأت هجومها على بعض مخصصات كبار السن لتمويل قطاعات أخرى استحدثتها هي،  فهي تحاول الآن اقتطاع 500 شاقل من خدمات الشيخوخة المقدمة إليهم. وفي حين تريد دولة رأس المال تخفيض هذا الإنفاق، تريد دولة الشريعة تصعيداً عسكرياً، وأمنياً، وسياسياً في المنطقة بدليل العدوان على مصنع للصواريخ في أصفهان بإيران والتخلي عن شعار حلّ الدولتين. أما دولة رأس المال فترغب في المحافظة على الوضع القائم. والدولتان تتفقان على اعتبار عرب فلسطين سكاناً/ جوييم وليس مواطنين كما جاء في قانون القومية الذي اتفق عليه (الكنيست) والجهاز القضائي.

ما ذُكر أعلاه من معطيات وتحليلات يُفسر لنا سبب أو أسباب الانسجام التام بين مكونات السلطة الحالية تحديداً “نتنياهو” والجماعات الدينية اليمينية المتطرفة. فـ “نتنياهو” الذي أنتج هذا الوضع لم يتوقع شدّة الخلافات – ولا نقول التناقض – الدائر الآن بين حلفائه من دولة المال ودولة الشريعة.

*    *    *    *

يختلف كل من أتباع دولة المال ودولة الشريعة على تعريف ما يجري بينهما. فأتباع دولة المال يرونه خلافاً (وإن كان حاداً) بدليل قيام مندوبين عنهم بالحديث عن ضرورة إيجاد تسوية ما بين الطرفين؛ أقصد رئيس الكيان، هيرتسوغ، “بيني جانتس”، و”ئير لبيد” وغيرهم طبعاً ممن يتحدثون سرّاً – لا نقول يتفاوضون- عن ضرورة إيجاد تسوية. بينما يرى أصحاب دولة الشريعة أن ما يجري بينهم هو صراع (من صرَع يصرعُ) وعليه يجب تتويج انقلاب سنة 1977 بالإستئثار بكامل السلطة اليوم. ينبع هذا الموقف كونهم متدينين يؤمنون بأنهم رُسل “ربّ الجنود”، لذا يكثرون الحديث عن القيم الدينية – من جهة، ومن جهة أخرى – يهتدون بنصائح اليمين الشعبوي الأمريكي كما يتم التعبير عنه في موقع (كوهيلت) اليميني، (https://kohelet.org.il/) المستقى اسمه من أهم أسفار الحكمة في (التناخ)، سفر الجامعة.

سيتم حلّ الخلافات المذكورة ضمن تسوية تضمن بالأساس ثبات أسس وتشريعات الإستثمار وتراكم رأس المال، وستتم التضحية بما عداها من تشريعات وضمان “حقوق الأقليات”، والحفاظ على الوضع السياسي القائم بدليل وصول وزير الخارجية الأمريكي (أنتوني بلينكين) بعد يوم واحد من العدوان على إيران، أما خطابه عن الديموقراطية فكان كسحابة في آب. فدولة رأس المال يهمها ارتفاع أو انخفاض مؤشرات البورصة أكثر مما يهمها ضمان حقوق كل الأقليات بمن فيها المثليين، والمعروفون بجماعة (دافيد) ابن رئيس الكيان. وسيصبح الكيان عندها ذا رأسين منسجمين، رأس المال ورأس الشريعة، أكثر شراسة على السكان الجوييم/ العرب. هذا التحول هو الحالة الثابتة لإسرائيل اليهودية الاستعماريّة وسيزداد شراسة مع الوقت.

ملاحظة اعتراضية: يعتقد البعض أن هدف “نتنياهو” هو التهرب من محاكمته وإمكانية إدانته. هنا نقول ما يلي: طالما يشكل أسياده الأمريكان غطاءً لسياساته لن تتم محاكمته. ولو أراد الأمريكان والدولة لفصّلوا قميصاً على شاكلة القمصان التي فصلوها لكل من “يتسحاك مرخاي”، الذي كان وزيرا للدفاع، و”موشِه كتساف”، كان رئيساً للدولة، و”سيلفان شالوم”، كان وزيرا للمالية والخارجية.. تم أبعادهم عن المنافسة السياسية للنتنياهو في الليكود على خلفيات تحرش واغتصاب.وما أسهلها!


Print Friendly, PDF & Email
Twitter0
Visit Us
YouTube
YouTube
LinkedIn
Instagram0

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Contact Us


Please verify.
Validation complete :)
Validation failed :(
 
Thank you! 👍 Your message was sent successfully! We will get back to you shortly.