LOADING

Type to search

في دمشقَ تطيرُ الحماماتُ مخذولةً وحزينة!

ثقافة وفنون موضوع العدد

في دمشقَ تطيرُ الحماماتُ مخذولةً وحزينة!

جواد ديوب
Share

ندوبٌ باقيةٌ على الأرواح والأذهان والأجساد كأنّ عذابات سنين الحرب العشر الماضية كانت تتشكّل أمامنا على هيئة حمامٍ معذّبٍ وأقفاص وبقايا شظايا ونُتف أحلام في المعرض الذي تمت تسميته بـ”كان يا ما كان..شبّاك”.. كما لو أن القصد هو نوع من عزاء أو محاولاتٍ لترميم النفوس المحزونة عِبرَ تحويل الألم إلى فنّ ومنحوتات وفيديو آرت وموسيقا نشاهدها معكوسة على جدران الأزقة أو ضمن غرف غاليري قزح (وهو بيت دمشقي عريق بنموذجه التقليدي).

“ثيمةُ” المعرض أو الحاملُ الرئيس فيه هو “الحمامة” كطائرٍ له دلالاته ورمزيات لونه الأبيض، حيث حوّل 16 فنانًا وفنانة شابّة مجسمات حمائم مصنّعة إلى مختبراتٍ فنية في الهواء الطلق جعلتنا رغم قتامة بعض الأفكار المنسوجة فيها نتنفّس هواءً مختلاً عما اعتدناه في المعارض الفنية والمختبرات التشكيلية، فالفكرة بدأت على ما يبدو، من أجل الناس بجميع طبقاتهم وأطيافهم، لكنها انتهت، على ما رأينا، من أجل بعض النخب من المهتمين!

إذ كانت فكرة الفنانة منسقة المشروع بثينة علي أن يقام المعرض عام 2011 عند أو تحت جسر الرئيس كمكان حيوي أو بحسب تعبيرها: “كمكان جميل يعكس روح المدينة بكل مفرداتها…مكانٌ هو المدينة…قلبُها”، ثم انتهى لأن يقام عام 2022 في غاليري قزح في الشام القديمة، وهو وإنْ كان حيّزاً دافئاً وحميماً ويحمل روح مدينة دمشق التاريخية إلا أنه بشكل ما شديد الخصوصية ولا يقصده إلا المهتمون من الصحافة أو الفنانون أو من سبق وعرف المكان/الغاليري أصلاً.

لكن الجراح عميقة في نفوس الشباب والشابات المشاركين لأن وجعاً كانَ يسيل من مفرداتهم وكلماتهم التي أرفقوها كتعريفٍ وشروحاتٍ لأعمالهم المبطنة برمزيتها وعوالمها الجوّانية. يقول “بيير حاماتي” في عمله “العشاء السرّي”: “سألتُ نفسي: ما الذي فقدت في سنوات الحرب؟ الحب؟ الرغبة؟ الإيمان؟ أم الأمان؟ جوابي كان غالباً: نعم. وماذا عن أسرار الحياة..أما زالت كما هي؟ (…) كالطيور تأتي وتأخذ طعامها وترحل.. أهكذا تذهب منّا أشياؤنا أم إنها تُسلَب؟ أدركت أن يسوع المسيح في عشائه الأخر علمنا قدسية الأشياء. طعامنا، حاجاتنا أحلامنا…وحقوقنا لم تعد بتلك القدسيّة”!

وفي عمل “جوان شعبو” الذي كتب إلى جواره “في العقد الماضي لم تعد المفاهيم في العقل الجمعي ثابتة…ولكن نراها أحياناً معكوسة”! في هذا العمل نرى أن كل الحماماتِ المعلقة على طول الزقاق بتماوجاتٍ تعلو وتهبط، نراها وقد التصقت ببطنها وأرجلها وبشكل مقلوب حماماتٌ سوداءُ كما لو أننا ندخل هنا في ثنائيات المفاهيم القديمة للّون الأبيض وصِنوه اللدود الأسود لكن ليس فقط بالأبعاد الجمالية التي يختزناها، إنما بوصفهما قُطبا كونٍ لونيٍّ تتماوج فيه نفوسنا وخيالاتنا وأطيافُنا، بل لأنهما لونان إشكاليان في دلالاتهما المعرفية فالمسألة تتجاوز إحساسَنا الأوليَّ السطحي، كأنّ كل لونٍ منهما هو مفهومٌ أو مصطلحٌ أكثر مما هو صفةٌ للشيء أو اسمٌ له، هكذا قد يصبح الأبيض أكثر من كونه لوناً لكفن الميت، وأبعدَ من كونه راية استسلامٍ في الحروب التي تأكل أبناءَها، وقد يصبح الأسود المذموم في العرف الشعبيّ لوناً للغموض اللذيذ ويجعلنا نعتاد ألّا نخافَ العتمة لمجرّد أنها تُخفي أكثر مما تُبدي، وتُبطِنُ أعمقَ مما تُظهِرُ.

وربما من زاوية النظر المختلفة هذه تحيلنا الفنانة الشابة “دانا سلامة” إلى أسئلة إشكالية ليس بقصد التشكيك السلبي، إنما في محاولة لقدح شرارة العقل المتفرّج حين يرى في الآخرين المختلفين ما لم يعتد أن يراه، ففي عملها وضمن غرفة مغطاة جدرانها بقماش أبيض يتدلّى رفّ الحمامات من السقف فيما نرى أسفلها غراباً أسودَ فَرَدَ جناحيه محلقاً وغيرَ مكترث…تقولُ سلامة: “نرى الحمامَ فنرى الحب، الأمان، السلام. نرى الغراب…ماذا نقول!؟ نُغلقُ عيوننا لا نريد أن نرى، لا نريد أن نسمع. أرواحٌ متشابهة…طرقٌ مختلفة… مَن أنا؟ مَن أنت؟ مَن نحن؟”.

ولعل أقسى ما كُتب هو كيف يتحوّل “البيت” كمفردة للهدوء والظلام الذي يُهدهدنا كي ننام، إلى مكانٍ يخنقنا ويسحقنا ويعذّبنا بالهدوء والظلام نفسهما.. كما عبّرت ليلاس الملّا التي جهّزت فكرتها ونفّذتها على شكل بيت/عشّ كبير متطاول من الأسلاك والعيدان والأغصان وحمائم تكاد تكون محشورة ضمنها بدل أن تكون راقدةً بطمأنينة وهناءة!

ويبدو العمل الأكثر إتقاناً ورمزيةً لجهة تموضعه في بداية الزقاق المؤدي إلى الغاليري، وهو بالتالي آخر عملٍ نراه حين الخروج من الزقاق ومغادرتنا للمعرض… إنه عمل بعنوان “رحيل” لـرنيم اللحام وحسن الماغوط: أقفاص معدنية متداخلة ومتشعبة ومتشابكة بداخلها حمامٌ يحاول الرحيل /التحليق/ الهجرة/التحرّر.. لكنه كلما فعل ذلك مُؤمِّلاً روحَه بالخلاص؛ اصطدمَ بأقفاص جانبية تمنعه من إكمال الرحلة/الحلم.

أمّا فسحة الضوء الحقيقية (رغم أن مجمل المشروع هو في الهواء الطلق وتحت ضوء النهار) كانت في عمل “جمانة مرتضى” بعنوان “أنا هنا” والتي صاغت عالمها بألواح بلاستيكية شفافة ملونة تتمازج وتتراقص معها الحمامات ببهجةٍ وفرح، ندخل إليه ضمن قوسٍ مقبّبٍ لغرفة حجرية فنشعر كما لو أننا تحوّلنا إلى أطفال يلعبون متحررين من الخوف ورماديات الأيام المشؤومة… تقول: “ألواني شفافة تعكس حقيقتي، سأنشرها في كل الزوايا، وطائري الأبيض هو لمسة ضوء في سمائي، إنها الآن تلامسني، إنها روحي، إنها لوحتي، وأنتَ الآنَ داخلها….أنا الآن أتنفّس”. 

هي إذاً محاولة قامت بها الأستاذة بثينة علي وغاليري قزح، بدعم ورعاية من سيرياتل، لاحتضان تجاربَ تتجاوز المألوف نحو فسحة تجريبٍ وحداثةٍ مبشرّة بالمميز.

بقية الفنانين المشاركين: آلاء حبوس، أنوار الأخضر، جلنار الصريخي، حمود رضوان، زينة تعتوع، زينة طيارة، كريم الخياط، مهند البيك، ومهند السريع.

Print Friendly, PDF & Email
Twitter0
Visit Us
YouTube
YouTube
LinkedIn
Instagram0

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Contact Us


Please verify.
Validation complete :)
Validation failed :(
 
Thank you! 👍 Your message was sent successfully! We will get back to you shortly.