LOADING

Type to search

النظام والثورة المسروقة!

الوطن السوري موضوع العدد

النظام والثورة المسروقة!

محمد الحصني
Share

علمتنا أساطير الشعوب ذات الحضارات الراقية مبدأين بسيطين يحكمان الحياة؛ الأول هو: يتغلب النظام على الفوضى دائماً. الثاني الحركة: إن السكون الأول هو فوضى بحد ذاتها. الحركة مستمرة والتغيير قادم حتمًا. بمقدار بساطة هذين المبدأين الممثلين لفكرة وديمومة، يكون الدخول في تفاصيلهما معقدًا، بسبب تنوع درجات الاحتمال والتقلب والمفاجأة، ولنتذكر أن الطبيعة، والتي تمقت الفوضى، هي الساخر الأكثر قسوةً وعنفًا عند استخفافنا بالمبدأين.

وحده الوقت، الذي لا قيمة له عند بعض السوريين الذين يخبروننا وبنبرة الضحية عن الثورة التي كانت ستنتصر! يؤكد أولئك بأن ثورتهم لم تفشل.. أبدًا ولم تهزم.. مطلقًا، لم تنته.. حاشا الله، لا بل سُرقت!

لنتذكر سوية الفترة المعتمة التي عاشتها الدول العربية (خاصة الأنظمة الجمهورية منها) من الخمسينيات إلى التسعينيات، وهي تفسر كل هزيمة أو إخفاق، بسرقة منجزات الثورة أو سرقة امتيازات الشعب. لم تملك تلك الأنظمة الشرف أو الشجاعة لتعترف أنها فشلت فقط لا أكثر ولا أقل! لأن الفشل قد يعني الاعتراف بأحقية البحث عن الحل. ولنتذكر اعتراف الأنظمة نفسها بأنها “خسرت المعركة ولم تخسر الحرب” كنوع من الأمل. إنه اعتراف لم يملك النزاهة من يعتبر نفسه ثائراً، كي يستخدمه كأسلوب وتبرير. فالثورة سُرقت وفقط! والحدث القائم (المسروق) يجب أن يستمر (بغض النظر عن كونه قد سرق) لأن النظام دموي وأمني فقط! فينسف كل منطق يقول إن من فشل أو “سرق”، ولم يعد يملك بديلاً ليصارع من أجله، يبقي النظام كبديل (واقعي) عن فناء مجتمعه يجب التمسك فيه كحل وحيد! وأن القادم المفروض في معادلات دولية لا يد لنا فيها جميعًا كسوريين (ما دامت ثورته قد سُرقت) لا يثير لديه أدنى قلق أو سؤال أو حس بالمسؤولية (باعتباره قد سرق) كأنها حالة من النكد تشبه ما معناه أنني مادمت فَشلت ولم أنجح، فسحقًا لمن لم أنتصر عليه وينسى أن هذه الـ سحقاً ستذهب بأبناء وطنه. وبالمناسبة، هذه الـ سحقًا مارستها الأنظمة أيضًا في المرحلة التي ذكرناها أعلاه ضد خصومها. هي سحقًا لم يصب الثائر الحظ كي يمارسها لأن ثورته “سُرقت”. ومن يعرف؟ هي سحقًا قد يمارسها في الأيام القادمة بخراب جديد.

الحقيقة والدولة

الدولة هي أحد أخطر أبعاد النظام، ويقدر من يشاء أن يراجع قرونًا من تاريخ البشرية التي تشرح هذا المفهوم وجبين االتاريخ يتفصد عرقًا ودمًا، وهو حديثٌ لن أزيد عليه إلا بمجموعة من الملاحظات: ابن خلدون في مقدمته قال: الدول لا تحصل إلا بالغلبة. وقال لينين في كتابه الثورة الكادحة “الدولة آلة لسحق طبقة بطبقة أخرى” أما في تجربة الدول الدينية حول العالم فالدولة هي آلة “لسحق مذهب أو دين الآخر” في التجربة البريطانية وربيبتها أمريكيا الدولة “آلة لحماية إله التجارة وسحق منتوجات أمة بأخرى” أما دول العالم الثالث المسحوق أو بوصف أكثر واقعية، الدول التي نالت استقلالها في المئة سنة الأخيرة، الدولة هي آلة نكاية بأي آخر وتكديس ثروة وسحق انقلاب بانقلاب وسحق ولاء بولاء وبضمان من تفاهمات دولية.  

تخبرنا التعريفات السابقة بواقعية أن الدولة تقوم بتجمعات متفقة، داخل المجتمع، وهذه التجمعات تمتلك فكرةً واضحةً عما تريد وتتكاتف مع بعضها بعضًا ضمن المجتمع الأكبر لتحقق مصالحها المتنوعة والمنسجمة، وتعطي بقية المجتمع ما يناسب بقاءه على رمق الحياة. هذا الوصف للدولة بالتحديد يصلح للدول العظمى؛ فنسب الفقر مثلاً في المجتمع البريطاني في الوقت الذي كانت فيه امبراطورية لا تغيب عنها الشمس مثيرة للعجب مقابل الأموال والخيرات التي تنهال عليها من كل حدب وصوب. هل القضية تنمية سيئة! أو فساد في مصروفات الخزينة! لا بد أن نكون ساذجين جدًا لنفكر في احتمالات كهذه، إنها الأقلية المتفقة. وبناءً على التعريفات أعلاه لم يجد البعض غضاضة في أن يعرف الثورة السوفيتية 1917 ودولتها مثلاً بأنها ثورة النخب اليهودية الاشتراكية داخل روسيا، ودولة هذه النخب بتعقيدات مصالحها، وهو فهم واقعي لحد ما ويناقش.

لا أقصد من الطرح السابق نفي فكرة الدولة أو التنظير لاعتبارها أكذوبة، فهي البناء الإنساني الأكثر روعة في العقود الأخيرة، عندما حلت العقيدة الوضعية السياسية محل العقيدة الدينية السياسية وتحولت العقيدة الوضعية بدورها إلى عقيدة دينية متحجرة، فأصبح الميعان هو العنوان الأبرز لمناقشة حقيقة وجودية خطيرة تهم كامل المجتمع تدعى الدولة التي هي التعبير الأكثر فصاحة عن حال أي مجتمع بكل وجوهه التاريخية والثقافية والاقتصادية وعاداته وتقاليده وسلوكياته الغيرية والأنانية أولاً، ثم الضغوط التي حصلت على هذا المجتمع لينتج دولته ثانيًا. الدولة ظاهرة ثقافية واجتماعية بامتياز.

البديل أو العقيدة.. الانتظام لقاح الفوضى

إن ضرورة التفكيك الخفيف السابق للدولة يريد القول: إن أي محاولة لإصلاح أو تغيير أو القيام بثورة ضد دولة أو نظام سياسي معين وبدون إشهار البديل، وبشكل واضح، عن النظام القائم لن يكون أكثر من تجمعات جديدة تريد قهر الدولة لصالح تجمع /أقلية جديدة تريد شركاء مهمشين ومغفلين.

بتعبير أكثر وضوحًا إن البديل المقدم هو العقيدة أو الأيديولوجيا (سمها ما شئت) لشكل الدولة الجديد. وللبديل مهام متنوعة، فهو يفضح فشل الدولة ببنائه النظري البديل حيث يقدم الحل لمعضلة “الدولة المشكلة” (بعد نفسي)، ويجعل الشركاء من ذوي المصلحة بزوال النظام، واسعين قدر الإمكان (بعد نفسي) ويحدد القيم أو الأخلاق التي سيسير عليها المؤمنون بهذا البديل لتحقيق النصر لهذه العقيدة (مادي ونفسي) وبالتالي ستكون الوسائل سلمًا او دمًا أو كليهما مبررة جدًا.

مهمة البديل الحقيقية هي تحويل الفوضى (التي يخلقها النظام أو التغيير أو الثورة أو جميعها) إلى انتظام يصارع نظامًا مقابلاً وقويًا لطالما مارس النفي لإمكانية توفر بديل عنه (حجة الأنظمة الدائمة أن لا بديل عنها إلا الفوضى) إن الانتظام في الحدث ومكاسبه هو الذي يبدأ بإحراج النظام والتجمعات التي تحميه والمجتمع المهمش الذي يعتقد بما يكرسه النظام أن لا بديل عنه سوى الفوضى، فيبدأ السؤال عن المحرم والمخيف يظهر إلى السطح. البديل هو الرؤية التي يجب أن تخترق روح وضمير المجتمع لتضعه أمام المأزق.

ماذا جرى حقًا في سوريا؟

ليست القضية أن فكرة الدولة الموعودة (البديل) لم تكن حاضرة منذ الأيام الأولى للمظاهرات وحتى لحظة كتابة المقال فقط! بل القضية أن المجتمع، وقبل بداية المظاهرات بأعوام، كان خامل الحس وخامد الاحزاب وخاليًا من أي تصور سياسي أو اقتصادي لمستقبل الوطن خاصة بعد حقبة انهيار الاتحاد السوفييتي.

إذا كانت المظاهرات قد انطلقت عفويًا، كما يحب أن يصفها البعض، وأن المثقفين لحقوا بها فيما بعد! فما هو عذر المعارضة بكل أصنافها، وفيها من رجال القانون والاقتصاد والاجتماع، حول عدم كتابة رؤية للدولة المقبلة بمؤسساتها وعلاقتها بالمجتمع. حقيقة لا يوجد أي عذر. لا بل إن هذا التقصير يفسر الكثير من سياق الأزمة وتطورها في سوريا. فالشعارات الكثيرة التي أطلقت والبيانات التي كتبت أو بثت عبر وسائط الإعلام وورشات العمل التي عقدت حول أفكار معينة، جميعها ليست مشروعًا، وجميعها إن دلت على أمر فهو الخلو من الرؤية والبديل والتخبط في سياق الحدث اللحظي.

إن هذا الواقع ليس خطأ ارتُكب سهوًا! بل كان مقصودًا باعتباره نهجًا، ويفسر ذلك، الصورة التي جرت عليها الأحداث في سوريا برمتها ومنذ الأيام الاولى وحتى اليوم. فكان البديل الواقعي عن الرؤية أو العقيدة أو الأيديولوجيا (سمها ما شئت) هو الاعتماد على التجييش العاطفي المستمر والدوس على كل المعقولات من إنسانية وطائفية وتاريخية في سبيل دوام استمراره وتصاعده. إننا أمام حالة نفسية، اعتقدت وما زالت تعتقد أن سقوط النظام أو الدولة قضية تحصيل حاصل وأمرٌ مفروغ منه ولا يستحق عناءً فكريًا، فما جرى في تونس ومصر لا بد أن يجري في سوريا كنتيجة طبيعية. وليس أدل على هذا الخواء؛ من التخبط الذي تسمعه في محاولة فهم فشل “الثورة” فتسمع مثلاً تعليلات طائفية متنوعة منها وأكثرها تهذيبًا: أن سوريا بتنوعها الطائفي ليست كمصر أو تونس! بينما الحقيقة أن خلو أي حركة أو ثورة اجتماعية من رؤية تجمع شتات الناس محكومٌ عليها بالفشل حتمًا! والأسلوب الذي نجح في مكانٍ ما (إذا كان ثمة من نجاح في مصر أو تونس تحقق!) له ملابساته التي لا تتعلق بهوية المجتمع الطائفية!

الثقة الفارغة بالنصر

مثلان على هذه الغرور الفارغ للنصر المحقق، أحدهما لمن اعتبر حليفًا للثورة وآخر لشخوص المعارضة ومنهجها. الأول جملة القرضاوي الشهيرة “وما لو” وبغض النظر عن شخصية القائل وأسلوبه ومشاعره، ألم يجد طريقة أفضل من هذا التعبير؟ بالتأكيد الدبلوماسية والبلاغة المطبوعة في كتب القرضاوي تدل على تمكنه من تقديم جمل مترابطة وبليغة الصياغة تدل أن الثورة تعني الدماء ببساطة. لا تفسير لهذه الطريقة المستخفة في التعليق على الحدث ولا لاسترخاء المؤيدين لها إلا الإحساس المتضخم بالنصر القادم بسهولة.

المثال الثاني؛ عندما دعت الدولة السورية في بداية الأزمة إلى حوار بدون سقف مع من يريد. كان التعليق من جهة المعارضة التي كانت ذلك الوقت منعقدة بشكل شبه يومي، أن لا حوار مع الدولة بدون سحب الجيش من الشارع. كان تحول هذا الشرط إلى شعار أمرًا متوقعًا من مراهق لم يتم تعليمه الثانوي ولكن عندما تتفوه به شخصيات تحمل درجات علمية عالية بعلم الاجتماع والسياسة والتاريخ، وهم العارفون بدقة أنه لم يسبق لنظام في العالم القديم أو الحديث أن تفاوض بعد سحب جيشه من الشارع. هل قبض جميع هؤلاء أموالا من الخليج؟ بالتأكيد ليس جميعهم. هل كان السر في مسايرتهم للشارع؟ بالتأكيد لا، لأن مسايرة التيار العام المتظاهر في نقطة مستحيلة كانت منطقيًا تعني خسارة الفرصة في تعرية الدولة وإحراجها في حوار مفتوح. إذا يبقى التفسير الحقيقي لهذا الموقف هو الإحساس المغرور بالنصر، أو بصيغة أدق لا توجد كارثة قادمة على الطريق يتحملون مسؤوليتها، والنصر أكيد.

أين المعارضة اليوم؟

المعارضة والمعارضون في خارج سوريا، وإذا تحدثوا بدون احتقار عن المعارضة داخل سوريا، فبالنسبة إليهم المعارضة في السجون وتحت سطوة التهديد الأمني. أما المعارضة في سوريا فلفة صغيرة على وسائل التواصل الاجتماعي والمقالات والمنشورات التي تكتب وتنسخ وتكرر ليست أكثر من انتقادات متذاكية لطبيعة حال السوريين من بطاقة ذكية ومحروقات وكهرباء أو اتهامات وتشهير وسخرية بحق رئيس الجمهورية والوزراء لاعتبارهم فاشلين على كل الاصعدة. وثمة قلة تكتب مقالات عن شؤون السياسة الخارجية وتعقيداتها، وقلة صامتة لا تتحدث، وكأنه يحق لها أن تصمت!

إن السخرية والانتقاد ليست سلوكًا معارضًا، ولكن الذي يبدو لي، أن اتفاقًا مبهمًا وقع حديثًا ولم أدعَ إليه شخصيًا، حذف الشرط الأهم للسخرية وهو أن تكون مضحكة. فالجميع امتلك الحق في المضاحكة، وثمة جمهور متعطش للاستضحاك من المغتربين والمواطنين المقيمين على معاناة الناس اليومية!

إن أسلوب السخرية سلاح المعارض ولكن ليس السلاح الوحيد، فيشترط أن يمتلك مما يسخر منه وصفة الحل. وهنا ندخل في أشكال النهج المتبع الذي سبق واعتبرته خطأ مقصودًا، من تبسيط القضايا المعقدة؛ فسوريا لا تعاني من حصار لأنه برأيهم بلا قيمة! بل تعاني من فساد داخلي فقط، وسوريا حقيقة تعاني من الأمرين سوية مضاف إليهما نتائج الحرب.  

إن السلاح الأكثر إثارة والذي أثبت مقدرته التدميرية ويستخدم حتى اللحظة في لسان حال المعارضة هو “من ليس معي فهو ضدي” لم أعرف في حياتي جمهورًا شديد الحساسية للسؤال ليستحضر تهمة جاهزة فورًا بدءًا من شبيح إلى طبل أو قطيع، مثل المعارضين السوريين. بالمختصر، المعارضة في سوريا وخارجها تملك كل شيء إلا البديل أو النظرية أو دليل العمل! فتراها تستخدم أساليب لتسخيف وتهييج أي قضية على الأرض، فالنزاهة في العمل والتي يفترض ان تتبدى في البديل، قد تم دفنها في ليلة محاق.

عندما كنت شابًا صغير السن، استفزني روجيه غارودي في جملة يقول فيها: إن الثورة مستحيلة والوضع في العالم لا يمكن السكوت عليه. فالقسم الثاني من المعضلة واضحٌ جدًا، لكن الأول قاهر ويستدعي آلاف الاسئلة. تعلمت فيما بعد حل المعضلة التي اختصرها انطون سعاده بقوله “حاربوا الفوضى بالنظام وحاربوا النظام بنظام أفعل منه” لقد حسب انطون سعاده الفوضى نظامًا، فإذا عدنا لفكرة مقدمة المقال بانتصار النظام على الفوضى ونفي السكون والثبات، يتضح لنا أن قضية انتصار الفكرة أو البديل هي قضية معرفية واجتماعية، ولا عبرة للبربوغندا والحروب النفسية وتجييش النفوس إلا في خدمة أغراض انتصار البديل القادم أو القضية المعرفية أو الأيديولوجية.

إن الفوضى التي وصفتها بالنهج المقصود، وبخلوها من أي رؤية أو دليل عمل يحدد معالم ما تطمح إليه، وصلت حقًا إلى طريقها الذي قُصد لها منذ بداية تحركها؛ وهي رقع شطرنج صغيرة يتقاسم فيها سوريا أمراء دم يتبعون لدول متعددة، فضيلتهم الوحيدة الممكنة والنهائية توقيع ما يشبه اتفاق الطائف اللبناني لخلق تعاون ما بين هذه الكيانات، وهو ما وصلنا لمقدماته فعلاً! وبالتأكيد، كانت ستلعب اسرائيل وتركيا ودول الخليج دورًا في إدارة هذه الكيانات، وسيأتي الوقت الذي سنعرف فيه أن دورًا ما لإيران قد طرح لها على الطاولة لتكون جزءًا من الصورة ولكنها رفضت.

لقد كانت هذه الصورة هي طبيعة النظام القادم لسوريا المترتب على ما أطلقت عليه اسم الاخطاء المقصودة. وما جرى هو سخرية الطبيعة عندما ظهر نمط جديد من السلوكيات الدولية لقوى عظمى جديدة قالت ببساطة: لا، ولديها أسبابها، ليتجه النظام المراد له أن ينجح في سوريا إلى الفشل وتغيير الصورة لمصلحة انتصار الدولة.

كان هذا الواقع المتوخى أقصى طموح هذا النهج المقصود، وهو ليس بقضية جديدة على سوريا التي عرفت في فترة الصراع الحثي المصري عليها إمارات من هذا النوع، كما كانت صورة سوريا بهذا الشكل أيام السلاجقة حيث تربع كل أتابك على عرش مدينة وريفها، كما أن الرغبة الفرنسية كانت قد قسمت سوريا إلى دول حلب ودمشق واللاذقية.

لم يكن ثمة من ثورة لتسرق، كان هناك فوضى وارتجال يريدان أن يقايضا ما نملك بأي شيء كان، وبأي طريقة كانت، وبأي ثمن سيدفع. إن الاستمرار على هذا النهج من عدم التفكير بالقيمة أفقد حتى التجييش قيمته العاطفية، ولكنه لم يفقد الحدث قيمته المدمرة القادمة.

ما جرى في سورية، ليس عصيًا على التعريف والوصف ليستحضر دهشات مبهمة ومصطنعة تسرق إنسانيتنا الحالمة! ما جرى هو ثورة برتقالية قامت على اكتاف أنتلجنسيا سورية رضيت أن تتجمهر بأي شكل، وعاشت حالتها الخاصة من الانفصال عن أي واقع مقابل الارتماء بأي واقع وبأي ثمن. ما جرى ثورة برتقالية متدرجة بعنفها ضمن خطة منظمة، ولا فرق عند محركها أو ممولها أو داعمها طبيعة الصورة التي سوف تشكل سورية المعاصرة، ولا فرق عند محركها علمت هذه الانتلجنسيا ببقية الخطة أم لم تعلم، فهناك دائمًا من هو مستعد ليمشي مع الحدث قليلاً إلى الأمام مقابل القليل من المال.

إن الولايات المتحدة الأمريكية التي دمرت العراق بكمية من اليورانيوم المنضب الموجود في أسلحتها (وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تستخدم اليورانيوم المنضب في الصناعات العسكرية التقليدية لكل ما هو متفجر) وحرثت تراب الفلوجة رأسًا على عقب، وكانت تبكي منذ بداية الأحداث على سنة سوريا تارة في حمص وتارة تعزي في درعا وحماه والجزيرة السورية، ترعى حاليًا مع السلطة القائمة في تركيا البقايا الأخيرة من المشهد واستمرار استثماراته في سيناريوهات مدروسة ومدمرة. وهما أصحاب المصلحة في حصول حدث مدمر يشبه حلبجة العراقية في إدلب، أو تطهير دموي أو ناعم في الجزيرة السورية ينهي شكل سوريا التاريخية الذي عرفناه كما انتهى شكل العراق التاريخي بعد 2003م .. إن القادم أكثر تعقيدًا وظلامًا ويتطلب من سوريا بشعبها وقيادتها وحلفائها وعيًا وتنسيقًا وصبرًا للخروج من نتيجة كهذه، وهي نتيجة لا مصلحة فيها لأي إنسانية، إلا الإنسانية المجرمة والقاتلة والساقطة من عالم الأخلاق الأدبي.

Print Friendly, PDF & Email
Twitter0
Visit Us
YouTube
YouTube
LinkedIn
Instagram0

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Contact Us


Please verify.
Validation complete :)
Validation failed :(
 
Thank you! 👍 Your message was sent successfully! We will get back to you shortly.