LOADING

Type to search

اعترافات مؤرخ إلى الأغيار.. من هم المؤرخون؟

رأي موضوع العدد

اعترافات مؤرخ إلى الأغيار.. من هم المؤرخون؟

محمد الحصني
Share

يدفعني إلى كتابة هذا البوح، حبي العميق للصراحة والانفتاح على الآخرين، حتى لو كان هذا يتضمن بعض المجازفة لمؤرخ مبتدئ مثلي. فأنا، لا أرى مانعًا من معرفتكم بالحقيقة المبتذلة للمؤرخين وأسرار المهنة التي تظهرنا بهيئة الوقار والهيبة. تلك الصورة لرجل صامتٍ مبتسم، ويعرف الإجابات لكل سؤال والحلول للمعضلة الإنسانية، أرجوكم مزقوا هذه الصورة من ذاكرتكم.

المظاهر الكاذبة

عندما ترون مؤرخاً يصمت بعد سماعه سؤالك ويجيب بما تراه حكيماً ومقنعاً، فغالباً ما يتذكر المؤرخ خصومه بالمنهج الفكري الذين قد يراهم إما تافهين أو أصحاب رأي. بغض النظر عن مشاعر المؤرخ تجاه منهج زملائه فهو بالتأكيد لن يصرح لك برأيهم، فهو يعتقد أنه سيغسل دماغك أو يكسبك مؤيداً ساذجاً لمدرسته من دون أن تعرف أن لك خصماً فكرياً يستحق التقدير. وهذا ما يجري غالباً عندما يتمسك أحد العوام بعناد (يستخدم المؤرخون هذه الكلمة للحديث عمّن لم يدرس التاريخ) بفهم محدد لحدث تاريخي، بينما يقف مؤرخٌ آخر حائراً على من يوجه إحدى لعنات حمورابي.

تنبع الابتسامة على وجه المؤرخ عند سماع استفسارٍ من أحد العوام غالباً من طبيعة السؤال. فهناك نوع من الأسئلة لا إجابة عليها لأنها مركبةٌ بلغة ركيكةٍ غير منطقية. هذا النمط من الأسئلة في حاجة إلى أن يعرف صاحبه الكثير مما لا علاقة له بموضوع السؤال قبل أن يحق له حتى التفكير بتركيب سؤالٍ عن الموضوع الذي يسأل عنه.

سر الابتسام هنا، أن المؤرخ ليكون صادقاً معك، عليه أن يقدم (ما تظنه محاضرة بلا قيمة) شرحاً سيقاطع بإحدى الجمل التي ستكون محبطة لأن المؤرخ يتوقعها، فهي إما ذات خلفية دينية (لا يناقشها المؤرخ حفاظاً على رأسه) أو ذات خلفية أصيبت بالملل وتريد أن تفتح موضوعاً جديداً لا علاقة له بالموضوع المطروح، ولن يكون المؤرخ غبياً ليظهر بمظهر محب الكلام فيحطم بروتكولات العوام الاجتماعية.

لبوس الحكمة التي تشاهدونها على المؤرخين صحيحة في مظهرها، عندما تنتفخ أوداج أحد المؤرخين ويبدأ بلمس ذقنه أو لحيته بهدوء ويشرد نظره بعيداً. بينما باطن مظهر الحكمة هذا، أن من يوجه له سؤالاً معيناً (وقد يكون السؤال صحيحاً فالحمد لك يا نيسابا) يملك ما يظنه جواباً مضاداً، وهو ينتظر أن يصرح المؤرخ بجوابه ليطلق هو حكمه الرهيب.. رويدك أيها العامي المتهور إن حقيقة المظهر الحكيم للمؤرخ هو أنه يبحث عن الطريق الأقصر الذي يكفل له أقل مظهرٍ غبي يمكن أن ترسمه له أمام أخوتك العوام.

يعيد المؤرخون المعمرون تكرار السؤال ذاته على السائل فيعطونه نصراً سهلاً، وهذه حكمتهم القديمة، بينما يفضل الأغرار من أمثالي اللعب بأعصاب السائل ليدفع الثمن كما يجب قبل تقديم خيط له ليبسط رأيه على بساط (غصباً عنك).

ثمة سرٌ خطيرٌ أقوله همساً إلى الآلاف من القراء عن المؤرخين، إنهم مدرستان سريتان، الوثنيون والموحدون، تتصارعان في صمت بعيداً عن عيون السلطة والمؤسسات وبالتحديد العوام الذين تتفق كلتا المدرستين بالابتعاد عنهم، وأن معظم أعضاء مدرسة المؤرخين الموحدين أطلقوا لعنات وثنية كثيرةً ولم تتحقق، فتركوا مدرسة المؤرخين الوثنيين و(ضعفاء الإيمان) ما يطلقونه عليهم في المدرسة الوثنية.  

الأقوال المأثورة

إن رد فعل المؤرخ الداخلي غالباً ما يكون كارثياً عندما يفوه أحد العوام في مقدمة حديثه أو في عرضه أو ختامه بقولٍ مأثورٍ أو بيتٍ من الشعر معتقداً أن هذا القول كرس ما يريد قوله أو كان لفتةً تدل على سعة الاطلاع. الرجاء الإقلاع عن هذه العادة لأنها تسحب المؤرخ إلى عوالم من التداعيات العقلية تضر بصحة المؤرخ النفسية وسلامته العقلية، في حال لم نتحدث مثلاً عن إحدى اللعنات التي ستوجه حتماً. خذوا مثلاً عندما يقول أحد الحمقى خلال سياق قد يحمل قيمة ما: إنه يقول رأيه ومستعد ليُقتل أو يموت (إحدى البلايا) لتقول رأيك!

بغض النظر عن أنك تستطيع قول رأيك إذا ألتزم بآداب الحديث أو تخلى عن المنبر أو أنصت لك، وهذا أقصى ما يخطر في ذهن القارئ، أما المؤرخ فغالباً ما تكون الصورة أكثر سوداوية، لأن المؤرخ يعرف أن هذا القول لم يكن يعني شيئاً سوى المرة الأولى التي قيل فيها والموقف الذي ذكر فيه، نعم كان هذا القول مدوياً، أما قبل مقول هذا القول وبعده، فالتاريخ يثبت أن ما جرى كان على العكس تماماً، هناك رأي واحد يقال وهو حكماً رأي المنتصر القوي، والمؤرخ يعرف بدقة أنه غالباً ما يكون الرأي الأكثر غباءً! وكأن هناك تلازماً معيناً غامضاً يفرض أن ترتبط القوة مع الغباء. ويعرف المؤرخ أيضاً، أنه لفترة معينة في تاريخ الإنسانية ترافقت القوة مع البدائية، لكن انتهت هذه المرحلة لصالح القوة والغباء معاً! لماذا يا ترى؟ المنتصر هو الذي يكتب التاريخ باختصار. أما الضعيف فيصرخ بالحق والإرث والتراث إلى أن يشبع ويبدأ يفكر بالشيء الصحيح، لماذا أصيب بهذا الويل؟ ثم، متى قتل أحدهم ليقول شخصٌ ما رأيه! بصراحة لم يحدث هذا ولن يحدث أبداً، بل على العكس تماماً هناك حسّ إنساني (كلمة يمقتها المؤرخون) لقتل كل من يجب أن نستمع إليهم، اوركاجينا والمسيح وعمر بن الخطاب وعلي بن أي طالب والحسين والحلاج وغاندي وانطون سعاده.

ولأنني مارست قسوة واضحة بالاعتراف، اسمحوا لي أن أسجل هنا وبوضوح: ستون أو سبعون أو ثمانون عاماً هي لا شيء في تقدير المؤرخ ولا حتى مرحلة انتقالية في حياة الأمم، وبوضوح أكبر لأصحاب القشرة الدماغية الملساء أقول: مدة عمركم الافتراضية في الحياة مهما بلغت مدتها ليس من الضروري، إذا لم نقل بالتأكيد، سيصاحبها تغير ملموس من أي واقع تتذمرون منه وتتفاصحون بالحلول من أجله، وهي حلول يعلم المؤرخ مقدار ضحالتها. بالمناسبة! هل تعرفون أي الحلول يفضل المؤرخون؟

يفضلون الحلول الفردية الصامتة المتراكمة بهدوء لتتجمع وتبني أوفياء لهذه الحلول، يرثونها بدورهم ويبنون فوقها أفكاراً أخرى ويخلقون توجهات اجتماعية صارمة عند ورثة جدد ليتابع هؤلاء بدورهم خلقاً فكرياً مكرساً للحلول التي تتحول إلى مشكلة قصوى حتى أمام العوام الذين يبدأ انحيازهم مع أو ضدّ فتسفك قليلٌ من الدماء من الطرفين، ويختار الطرف الأكثر قوة (غباءً) أن يكرر أكثر حركات التاريخ قرفاً عندما يقتل أقوى الأقطاب في الطرف الذي يبدو أكثر ضعفاً (ذكاءً) هنا فقط أمام التاريخ تظهر لحظتان تتيحان للطرفين فرصة نصره، هنا يظهر في الحياة قمم في التضحية والفداء والسفاهة والعمالة والصغر.

الآن هل تعلمون كم يتطلب هذا من الوقت؟ لذلك يظهر المؤرخ أحياناً رجل كسول بليد بمشاعر جامدة لا تحركه الفورات والصوت المرتفع والانفعالات.

التاريخ كلو كذب

آها هذه يعتبرها المؤرخ بوكس تحت الحزام. تقال هذه العبارة بعد أن يطرح المؤرخ حقيقة حدث ما بشكل يتنافى مع ما ورثه هذا العامي من مرويات الأجداد (الآباء بالتحديد) لما جرى، فيكون كلام المؤرخ الدقيق والموثق بمثابة هجوم عنيف على خط الدفاع الأول والأخير عند هذا العامي، إنها القلعة الحصينة الوحيدة التي بنيت في حياته البائسة، فالعامي، سيشعر بأنه خدع أو غدر به، وهي لحظة إنسانية قاسية، لن يذهب المؤرخ الجاد ليحطم هذه القلعة الغبية، بل على العكس غالباً ما يقوم المؤرخ بالدور الذي لم يقم به أبو هذا المسكين، رغم أن أهل هذا المسكين كان لديهم الوقت الكامل للتناسل وزيارة الأقارب وحضور الأفراح والمشاركة في الأتراح، إلا أنهم ومن وقت إلى آخر كانوا يزودون هذا البائس ببضع جمل مشوهة عن الحياة وحقيقتها (كلنا بعنا فلسطين، السياسة وجع راس، شو بدك بالأحزاب، هلأ أنت بدك تصلح، الله أكيد موجود) فتتشكل هذه القلعة الحصينة في عقل هذا الدرويش، وهي خليط من قشور الدين والقيل والقال واليهوديات والخرافات والوجدان الممزق، وهي قلعة يرثها الأهل عن الأهل. لم يسبق لهذا الدرويش ومنذ قرون أن سمع الجواب الأكثر حكمة في تاريخ الإنسانية (لا أعرف يا بني، عليك أن تبحث عن الإجابة بنفسك) للأسف إن الجميع يعرف والجميع يملك إجابات نهائية.

يقوم هذا المؤرخ وبكل أبوية حنونة مثلاً بتقديم كتاب يشرح حقيقة ما جرى، فيفتح أمام هذا المسكين آفاقاً أغلقتها عقلية تدفع النسل إلى الأمام فقط، وتتعوذ من دفعه إلى الأعلى.

أما بالنسبة إلى المتثاقفين القائلين: (التاريخ كلو كذب) أصحاب الجمل الجاهزة، المنادين بالرأي والرأي الآخر، الذين يقرؤون كتابين أو ثلاثة في العام، المتابعين الممتازين للبرامج الوثائقية كمصدر للمعرفة، المداومين على قراءة جريدة يومية أو أسبوعية ثقافية، النوع المطالب بحياة مسرحية، المؤمنون بالإنترنيت للجميع، الذين يسخرون منك إذا اشتريت كتاباً لأنه متوفر مجاناً على أحد المواقع، الذين يحدثونك بسخط عن فراغ المراكز الثقافية من الجمهور، ذلك النوع الذين تقف أمام مكتبتهم الخاصة فلا تعرف إلى أي ثقافة ينتمون، هذا النوع من الناس إذا تلفظ أمام مؤرخ بجملة (التاريخ كلو كذب) فالمؤرخ يعلم أن هذا المتحذلق صادف وقرأ كتاباً ما عن حدث تاريخي، فشعر بالدوار وأن الحقيقة تقتضي ذلك الفعل الذي يسمى “قراءة كتب إضافية” عن الموضوع، لتكوين ذلك الأمر الذي يدعى “الإحاطة بجوانب الحدث” وهما فعلان يقتضيان ذلك الشيء المنسي الذي يدعى “فضول المعرفة أو حب المعرفة” وهذه أمور صعبة تتطلب تضحيات من نوع الصمت والعزلة والاعتكاف على مشروع معرفي مما يتطلب ربما سنين من حياتهم، بينما يتناسل الآخرون بمتعة، نعم المتعة، وهنا بيت القصيد عند نموذجٍ من هذا النوع، لأن القلاع التي تتكون في أولادهم تكون من النوع صعب التحطيم من النوع الممزوج بالأمل العصابي والإحباط الحيادي المتلون في حدود دفاعه عن أفكاره، نسل هؤلاء منفلت من كل قضية أو مبدأ أو تضحية وهو بحاجة إلى نوع خاص من المؤرخين ذوي المهارة في علاج حالات الكبرياء الفارغة، لإخراجهم من الدولاب الكريه الذي وضعهم أبوهم فيه، وفي حال انتبه أحدهم إلى أن الحديث بمعظمه موجه إلى الآباء فهذا صحيح لأن الأمهات ببساطة ضحايا المتعة.

المؤرخ ممل

إذا أراد المؤرخ أن يحيا قناعاته الحياتية يغدو شخصاً مملاً للغاية، وشعور العوام تجاه بعض المؤرخين أنهم مملون وسقيمون ولا يملكون حس الدعابة هو شعور واقعي وحقيقي، لأن المؤرخ الفهيم بصراحة شخص مصاب بالقرف لا يفاجأ بأي حدث أو سلوك تقريباً، ولابد أن تعرفوا أن المؤرخ المفاجأ مؤرخ نصف مهزوم، فكل السلوك الاجتماعي والأحداث الحاصلة على أرض الواقع والأمنيات الخاصة والعامة، حتى أحلام ورغبات ومنطق الناس، كلها مكررة لدرجة الملل في ذاكرة المؤرخ وسبق له أن عرف شيئاً شبيهاً لها في ثنايا كتب التاريخ، وهنا يكمن أحد جذور انقسام مدرسة التاريخ المعاصر إلى وثنيين وموحدين. الوثنيون لأنهم يقرون بتكرار الحدث التاريخي يرون أن إحياء الوثنية يرجع للحياة قليلاً من بهجتها، فما ليس وثنيا تأتى من طقوس ومنطق وفكر وسلوك وثني مهما تغطى وتلون بمظاهر غير وثنية، من عيد الميلاد إلى عيد الأضحى إلى أي مناسبة أو طقس تريدون (المؤرخون الوثنيون يملكون حس الفكاهة)، بالمقابل الموحدون من المؤرخين فلأنهم يقرون بتكرار الحدث التاريخي يرون أن لا فائدة من تغيير مرجعية الشكل حتى لو كان الأمر من باب الترفيه عن النفس، فالتكرار حاصل حكماً، ولا يهم لونه ونكهته (المؤرخون الموحدون جماعة نكد ومقت) لا نريد هنا عرض أسباب الانقسام اللاهوتي الحاصل عند المؤرخين وهي كثيرة. المهم معرفة ما الذي اتفق عليه مؤرخو المدرستين؟ وماذا يخططون؟

إليكم السر الخطير الذي تعرفه أوساط محدودة. يجهز المؤرخون مشروع قرار يفرض بطريقة ذكية ولبقة على الحكومات (من أدرى من المؤرخين بكيفية دحش تفصيل تاريخي تافه ضمن السياق العام لأحداث الحياة) لتعويض المؤرخين مالياً عن تحملهم الوجداني ومعرفتهم لتاريخ كوارث الفعل الإنساني، والسياق الممل والمكرر لتلك الكوارث، وعن صمتهم عن كل كذبة وضعت برسم الصحافة والإعلام لتُفتق وتُنسخ حتى تتحول إلى أغنية عند شعب جاهل بحقيقة الأغاني ومؤلفيها، عن تغاضيهم عن تسفيه الحقيقة في كل مرة يشار إليها بالبنان وتكريس الزعبرات التاريخية للحفاظ على شخصيات ومؤسسات منقرضة بحجة الخصوصية والتراث، مقابل سكوتهم على من يستحق حكم الإعدام وهو حي يمشي بين الناس يفاخر بجريمته بحق وطنه وأبناء أمته، فلا يفضحون ويصمتون، لعجزهم عن إيقاف سلخ أحلام الشعوب والأحفاد على مذبح الأوهام التاريخية المصنعة، مقابل طغيان الشعور بالهزيمة لمؤرخ يرى وسائل والنصر حاضرة لكن لا أحد يأخذ بها بل هناك من المؤرخين من دفع سمعته وكرامته وربما حياته ثمن التصريح بها بينما يختال مسبب الهزيمة بإلقاء اللوم على ما لا يلام لتخدير الناس وتحضيرهم لهزيمة جديدة، مقابل عجزي الآن عن التصريح بكامل مبررات المؤرخين للتحرك بمشروع قانون كهذا خوفاً من قوى لا يمكنني التدليل عليها، لكل هذا يتحرك المؤرخون بفكرة كهذه.

قد تكون هذه المقالة الفاضحة جزء من التحرك! من يعلم؟ كونوا حذرين، المؤرخون ذوو نفس عميقة جداً، بعمق مأساتكم الأزلية.

Print Friendly, PDF & Email
Twitter0
Visit Us
YouTube
YouTube
LinkedIn
Instagram0

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Contact Us


Please verify.
Validation complete :)
Validation failed :(
 
Thank you! 👍 Your message was sent successfully! We will get back to you shortly.