محاولة للطيران
Share

ها أنا أطير يا أبي..
أتذكر كم قلت لك “أريد أن أطير”؟
لا أعرف كيف وصلت هنا.. لكنني حقّاً أطير.
كنت أمشي بينك وبين أمّي يوماً ما.. أشد على أيديكما وأترك لرجلي حرية التحليق. أقفز للأعلى وأتأرجح بينكما، ثابتاً سعيداً.. لا تستطيع جاذبية أن تشدني للأرض وأنا متمسّك بين أيديكما.. وأصرخ قائلاً “أريد أن أطير”.
لكنني فقدتكما منذ فترة.. فبعد أن بدأت الحرب قبل حوالي عام ونصف، لم أعد أجد هاتين اليدين تثبتاني حتى أرفع رجلي عن الأرض كما كنت أفعل.
أصبحت وحيداً ويعاملونني هنا كيتيم.
علّمني أبي أن عبّاس بن فرناس هو أول من حاول الطيران. قال لي: نحن اخترعنا الطيران يا حبيبي. وأخبرني أيضاً أن عبّاس اخترع جناحين من الريش ونسي الذيل فسقط. ابتسمت أمي يومها.. وهي تناولني “عروسة” الزعتر.
وها أنا اليوم.. أطير يا أبتي.. أطير يا أمّي. دون جناحين أو ذيل أو ريش.
لا أعرف كيف وصلت هنا.. كنت على الأرض قبل ثوان أمشي في ذات الشارع الذي تعوّدت أن أتأرجح فيه بين أيديكما. انفجار كبير هزّ الأرض تحتي.. لم أعد أشعر بشيء إلا أنني هنا فوق.. أعلى من أبنية كانت هنا في الأمس، وأبعد من أي مسافة طار إليها طفل مثلي.. أعزلاً.. وحيداً.. كريشة يلعب بها الهواء.
تحتي دخان ونيران ودمار.. أسمع صراخاً وعويلاً.. وأشم رائحة البارود والخوف والموت.
أنا أطير.. أرى الأرض كلها من هنا.
مدينتي أضحت تراباً، وصارت القبور فوق الأرض لا تحتها. أرى الناس مجرد مشاريع للشهادة. لم يعد هناك يا أبي أياد قوية تشد أبنائها للتأرجح هنا. لقد ذهبوا جميعاً يا أمي.
أنا أطير.. أرى كل شيء صغير من هنا.
تاريخنا المزعوم.. إغاثة الملهوف.. نصرة المظلوم.. الكرم العربي.. الشعر والفخر والعزة والعنفوان والكرامة. كل ذلك صغير.
أراكم تشاهدونني أطير من وراء شاشاتكم. تغطون أيديكم بأفواهكم من هول ما ترون، ثم تزلقون الشاشة لمشاهدة فيديو عن الطبخ أو مقطع كروي أو نكتة مصوّرة. يا ليتني كنت معكم هناك.. فأنا أحب الطبخ وكرة القدم والضحك. لكن أعذروني.. فأنا مشغول الآن.. لأنني أطير.
يا إلهي.. ها أنا أسقط! قلبي ينقبض سريعاً والهواء يصفعني من كل جانب. أعود إلى الأرض وأنا على وشك الاصطدام. أرى كل التفاصيل بوضوح، هنا في هذا الشارع تحديداً كت أذهب إلى السوق.. أعود من المدرسة.. وألعب الكرة مع أصدقائي الذين طاروا قبلي. أرى شقوق الأرض بوضوح، وأستطيع مشاهدة أين ترقدان يا أبي وأمي.. اشتقت لكما كثيراً، يبدو أنني سأراكما قريباً لأخبركما أنني كنت أطيـ..