رسالة من لاجئ قديم
Share

أعزائي أهل غزّة،
تحية طيبة وبعد،
يؤلمني وبعد صمودكم الطويل أن أكتب لكم هذه الرسالة. وأنا بهذا الصدد لا أدّعي أنني أعلم المستقبل، لكنني زميلكم السابق في اللجوء. وقد أيقنت فعلاً بأننا يكفي أن نعرف الماضي جيّداً حتى نتوقّع ما سوف يأتي.
وبعد، سيطلبون منك الرحيل طوعاً أو قهراً. ستقولون لا. أنتم خير من قال لا. سيقتلون أبناءكم ويعتقلون آباءكم.. لن أقول إنهم سيستحيون نساءكم أو أطفالكم، فهذا المستعمر ليس هنا ليستحيي أحداً.
للأسف.. سترحلون في النهاية. على الأقل من سيتبقى منكم. لا يهم إلى أين.. لكنّكم سترمون في البحر أول مرة. أو ربما في الصحراء أو بين كتب التاريخ على رفّ ما.
لا تقلقوا.. ستجتمع الجامعة العربية من أجلكم. سيتناولون الغداء والعشاء ويقيمون في مكان مكيّف بينما أنتم في خيمة ما.. على أرض ما. وبعد شد وجذب، سيخرج البيان الختامي من بين ناطق ما ينكّش أسنانه من بقايا اللحم ويشجب بأشد العبارات ما يحدث، ويندد بمصابكم. كما سينص البيان على رفض تهجيركم وحقكم في أرضكم.
في الاجتماع الثاني، سيمنحوكم وثائق سفر لا جوازات لتسهيل حركتكم، ويزعمون أن تلك الوثائق لحماية حق عودتكم. لا تنزعجوا فجوازاتهم ومواطناتهم أغلى من أرضكم.
بعد عام أو اثنين، سيوقفون التأشيرات لكم.. وبعد عقد أو اثنين سيتم اعتبار تلك الوثائق في المطارات جوازات سفر مزورة. وهذا ما سيبقيكم في خيمكم أعواماً أخرى. لا تشغلوا بالكم.. الأونروا لن تتركم، سيستأجرون أرضاً من أجلكم لتبنوا عليها مخيماً مؤقتاً. وسيحاولون دمجكم في المجتمعات التي فرضت عليكم. ستحاولون البحث عن وطن، وترمون أنفسكم في البحر مرة ثانية. من ينجو منكم سيحصل على جواز أوروبي في ظل دولة تدّعي الإنسانية، بعد أن توقّعوا اتفاقية اندماج ليمسحوا ما تبقّى من عاداتكم وهوياتكم. ستناضلون عبر السوشيال ميديا، وسيحظرون صفحاتكم، سيقلمون أظافركم، يأخذون أطفالكم ويجعلونكم تحمدون الله أنكم تركتم مخيماتكم.
ولكنني هنا لأطمئنكم.. فرجال الدين لن ينسوكم. ستُبحّ حناجرهم فوق المنابر.. وستذرف الدموع، وستكتب خطابات تقشعر لها الأبدان.. وسوف توعدون بنصر قريب. وسيحكون لكم عن نهاية الزمان وخروج الدجال وتحرير الأقصى.
صحيح.. نسيت أن أخبركم بأن الأقصى سوف يتم هدمه قريباً. بخطأ ما بسبب حفريات قريبة، أو بتدميره فوق رأس مجموعة إرهابية احتمت فيه – وفقاً لزعمهم – لن يصعب عليهم إيجاد السبب، كما لن يصعب عليهم نشر تغطية إعلامية تمجّد القضاء على هؤلاء المجرمين، مع الأسف على الضرر الثانوي.
وبعد سنوات قليلة أو ربما أشهر، سيحصل نتنياهو على جائزة نوبل للسلام. وستتم دعوة المؤثرين لافتتاح مراقص وملاهي ونوادي ليلية في قطاعكم، وتقام الموائد التي سيدعى عليها ذات الأشخاص الذين منحوكم الوثائق. نعم سيدخلون أرضكم بجوازات دبلوماسية وسيبتسمون ثانية وقطع اللحم عالقة بين أسنانهم.. قطع لحمكم.
يا أهل غزة.. تحية طيبة وبعد مني.. أنا من الجيل الثالث للنكبة.. وورائي جيل أو جيلين يحملون وثائق السفر. أعرف ملمس أوراقها، أحفظ المكتوب فيها وأشم الحبر الطازج لأختام الرفض على صفحاتها.
قلبي معكم، وجرحي الذي ملّ من الالتئام والفتح سيفتح مجدداً مع جرحكم. هذا هو الفتح الوحيد الذي نعرفه منذ ثمانين عاماً يا إخواني. هذا هو الفتح الوحيد. فطوبى لصبركم، رحم شهداءكم، وكان معكم أينما تجهتم.
بصراحة ليس لدي نصائح لكم.. إلا واحدة. لا تنتظروا شيئاً من أحد. لا تنادوا أحداً فقد فقدنا أصواتنا ونحن ننادي. حسبكم الله.
وتفضلوا بقبول أسمى آيات الحب من أخيكم “لاجئ قديم”