عودة إلى نظام سعاده الاقتصادي-المعضلة الاقتصادية -حنا الشيتي
أقوال سعاده في المعضلة الاقتصادية
تنشر الفينيق فيما يلي القسم الثاني من هذا البحث القيم عن نظام سعاده الاقتصادي وهو بعنوان “المعضلة الاقتصادية”. إضافة إلى شرح ماهية هذه المعضلة، يناقش الكاتب بعض ما ورد في دراسات لكُتِّابٍ قوميين إجتماعيين مثل الرفيق يوسف المسمار والرفيق د. إدمون ملحم. يمكن العودة إلى القسم الأول عبر هذا الرابط. |
في العدد الأول من سلسلة “النظام الجديد” يلقي سعاده أضواءً أولية على رؤيته للمشكلة الاقتصادية. ففي مقدمة ذلك العدد يذكر كيف أنه مع “ظهور الآلة العصرية وحصول الثورة الصناعية، أحدثت الإضطرابات والإنقلابات الاجتماعية التي تلتها، شعوراً بالحاجة إلى نظام اجتماعي – سياسي جديد”. ثم يعرض كيف أن الاستمرار بتطبيق نظام العمل نفسه القائم على الحرية الفردية، في ظل هذا التطور، قد قضى على النظام الاجتماعي القديم أي النظام الإقطاعي، وأقام مكانه نظام الطبقات الرأسمالي. ثم يعلن فساد هذا النظام وأن “الحركة القومية الاجتماعية تدخل في معالجة هذه المعضلة الاجتماعية، المادية – الروحية، وأنها تنشئ بمبادئها وتعاليمها نظاماً جديداً ومجتمعاً جديداً”.
أما في المحاضرة الثامنة فهو يعيِّن لنا ماهية هذه المشكلة، ويشير إلى مواضع الخلل الأساسية فيها. بدايةً، هو يميّز بين حالتين مختلفتين للاقتصاد: الأولى، ويدعوها حالة الاقتصاد الفردي، حيث “يبقى فيها الإنتاج ضمن المجتمع عينه ولا يخرج خارج المجتمع إلا بتصرفٍ يقوم به الفرد صدفة“. أي أنها حالة اقتصادٍ مغلق (Closed Economy)، يقول سعاده عنها بأنها قد زالت من المجتمعات اللهم إلا تلك غير المتمدنة منها. أما الثانية، ويدعوها حالة الاقتصاد القومي الاجتماعي التي يكون الإنتاج فيها واسعاً يُقصد به الإتجار والتبادل الخارجي[1]، أي أنه اقتصاد مفتوح (Open Economy)، متفاعلٌ مع محيطه. وهو يعني بها حالة
المجتمعات العصرية المتمدنة التي نشأت بعد ظهور الآلة وسببت ما يسمونه الثورة الصناعية.
بعدها يعلن أنه في الحالة الأولى لم تكن هنالك حاجة إلى نظر الدولة، ولكن الحالة الثانية توجب تدخلها[2]. صحيح أن هذا القول هو تكرار أو تأكيد لما كان قد ذكره في مجلة “النظام الجديد”، إلا أن فيه توضيحاً هاماً وهو قوله بأنه في الحالة السابقة “لم تكن هنالك حاجة إلى نظر الدولة”! وبدهي أن هذه شهادة براءة ذمة يعطيها سعاده لنظام الحرية الفردية عند تطبيقه في حالة الاقتصاد الفردي، إذ أنها تعني أن هذا النظام كان مناسباً للحالة الاقتصادية السابقة، لكنه
غير مناسب فقط للحالة الراهنة. وبالتالي فهي تسمح لنا بتعيين المتغيِّر الذي أحدث الخلل، ألا وهو تمكُّن الإنتاج من الإفلات من نطاق المجتمع وإباحة تبادله مع إنتاج آخر في الخارج. كذلك هي تسمح لنا بمقارنة عمل نظام الحرية الفردية في نطاق مغلق حيث كانت الأمور تسير فيه على نحوٍ سليم وإن بإنتاج قليل، مع عمله في نطاق مباح للتفاعل مع المحيط، لنتبين التبعات السلبية من استخدام هذا النظام الذي تطور هنا ليصبح نظاماً رأسمالياً فاسداً.
علاوة على ذلك، فإننا لو تتبعنا هدف سعاده من تدخل الدولة والمهام التي يطلبها منها حينها، نجده قد حدد بدقة مواقع الخلل الأساسية التي أحدثها استمرار العمل بنظام الحرية الفردية. فها هو يعلن، وبيقينٍ مدهش أن الطريقة الوحيدة لإيجاد التوازن الصحي بين تقسيم العمل وتوزيع الإنتاج هي بتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج. وكذلك أنه في ظل الدولة القومية، يكون من حق الدولة أن تنظم وتسن القوانين بهدف ضبط الإنتاج وتقسيم العمل وتوزيع الإنتاج[3]. وهذا يعني أنه في الحالة السابقة، أي في حالة الاقتصاد الفردي، كان التوازن بين العمل والإنتاج قائماً، لكنه فُقِد في الحالة الثانية، لذا اقتضى العمل على إحداثه مجدداً. كذلك نستنتج أن نظام الحرية الفردية كان في حالة الاقتصاد الفردي يقوم بمهمتي تقسيم العمل وتوزيع الإنتاج، لكنه فشل فيهما في حالة الاقتصاد الاجتماعي، فاقتضى أيضاً تدخل الدولة لتحقيق هاتين المهمتين. كذلك يعلن أنه “إذا تُرك للفرد الرسمالي حرية مطلقة في التصرف بالعمل والإنتاج، كان لا بد من وقوع إجحاف بحق العمل وكثير من العمال”[4] ، وهذا يفيدنا أيضاً أن الفرد لم يكن يملك هذه الحرية في حالة الاقتصاد الفردي، ولا بد للدولة من إعادة ضبط حريته هذه.
وبدهي أن هذا الكلام ينطلق من أساس علمي ولا يمكن أن يكون سعاده قد ألقاه جزافاً أو على عواهنه، خصوصاً أنه كلامٌ واضح لا يقبل التأويلات، ويمكن البت في صحة نظريته أو عدمها. ورغم أن تحقيقاً علمياً من هذا النوع هو خارج نطاق بحثنا، لكن يمكننا التوسع ولو قليلاً في تحليل أقوال سعاده هذه كي نتمكن من فهمٍ أفضل لنظرته في أسباب المشكلة الأساسية بالنظام الاقتصادي، فيسهل بعدها فهم بنود المبدأ الإصلاحي والغاية من كلٍ منها.
شرح أقوال سعاده في المعضلة الاقتصادية
الاقتصاد القومي والاقتصاد الاجتماعي:
رغم أن سعاده قد أوضح ما يعنيه بالاقتصاد القومي والاقتصاد الاجتماعي والاقتصاد الفردي في كل من “نشوء الأمم” و”المحاضرات العشر”، تبقى التفسيرات الخاطئة والمبهمة لهذه المفاهيم في أدبنا الحزبي كثيرة[5]. الرفيق يوسف المسمار يعرِّف الاقتصاد القومي بأنه المعبِّر عن وحدة الأمة بتعاقب أجيالها[6]، ثم يعود ويعرِّف الاقتصاد الاجتماعي تعريفاً مشابهاً فيقول إنه يتناول وحدة حياة المجتمع بدورته الاقتصادية الاجتماعية الواحدة[7]. وعلى هذا يُبقي القارئَ حائراً في الفرق بين معنى هذا وذاك، بل في معنى أيٍ منهما. أما الصحيح الذي نعنيه بالاقتصاد القومي فهو أنه ذاك الذي “يتناول تنظيم العمل للإنتاج الواسع بقصد الاتّجار مع الأمم وتموينها بما تحتاج إليه، عن طريق أفرادها وجماعاتها“[8].
أما عندما نتحدث عن إقتصاد فردي أو إقتصاد إجتماعي، فنكون عندها قد وجّهنا نظرنا نحو النطاق الذي تتم فيه دورة تقسيم العمل وتوزيع الإنتاج. ففي الاقتصاد الفردي أو العائلي تنتج العائلة
منفردة جميع حاجاتها باقتسام العمل فيما بين أفرادها. أما في الاقتصاد الاجتماعي
فلا تعود هذه كياناً قائماً بأود نفسه، بل نجد بالمقابل جمعيات ومنظمات اقتصادية هي عبارة عن شركات ومعامل ومصانع كبيرة تضم المئات والألوف من العمال في كل منها. وهكذا يكون نطاق تقسيم العمل قد شمل المجتمع كله، ويكون الإنتاج الحاصل بالتالي إنتاجاً مشتركاً أو تعاونيٌاً عاماً.
والترابط بين الاقتصاد القومي والاقتصاد الاجتماعي
وثيقٌ جداً. تاريخياً، أدى نشوءُ الأول إلى نشوءِ الثاني، وإن كان هذا قد أتى متأخراً عدة قرون. في كتاب “نشوء الأمم” يذكر سعاده كيف أن التجارة الإنترنسيونية التي ابتدعها واتقن فنونها السوريون، وكانت أساس نشوء الاقتصاد القومي، لم تكن مقتصرة على نقل بضائع بين مكان وآخر، بل كانت تقوم على نشوء ونموِّ صناعات عديدة كالنّسيج والصّبغ وصنع الزّجاج وما شاكل[9]، وأنها نظمت العمل في وحدات مشتركة[10]. مع هذا، لم تتمكن هذه التغييرات التنظيمية من إحداث تغييرات جذرية في النظام الطبقي الاقطاعي، فبقيت العائلة هي
أساس النّظام العمليّ وإن كان على نحوٍ أضعف، وبقيت “”القرابة الدموية الفاعل الأقوى في النّظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ إذ كانت الحرفة تبقى في العائلة يعطيها الأب لابنه وللأقربين إليه من بعده وكذلك إرث الثّروة“[11].
ولا شك في أن السبب الذي حال دون تمكن التبادل الخارجي من إحداث تغييرات داخلية ذات شأن في المجتمع، هو أن العمل اليدوي قد حد من كمية الزيادة في الانتاج التي تطلَّبتها التجارة الخارجية، فبقي حجمها ضعيفاً نسبياً إذا ما قارنّاه بحجم الانتاج القومي العام. صحيح أن هذه المتطلبات قد أكسبت الحاجة لإيجاد الآلة، لكن كان لا بد من ظهورها فعلاً، وتبوأها مركز الصدارة في التجارة الإنترنسيونية كي يرتقي التفاعل إلى الدرجة العالية التي يتمكن معها من زلزلة النظام الاجتماعي وإقامة آخر. أما قول سعاده بأن الثورة الصناعية قد سلبت العائلة صناعاتها وأخرجت الصنَّاع من المصانع بالمئات والألوف ووضعت الاجتماع على أساس جديد [12]، فيعطينا فكرة عن مدى الزيادة الهائلة في الإنتاج
التي أحدثها ظهور الآلة.
ولهذا السبب يعتبر سعاده أن الثّورة الصّناعيّة هي بداءة ظهور الاقتصاد الاجتماعيّ المعاصر[13]. وهو السبب أيضاً الذي يدفع سعاده للقول بأن الآلة، أو الثورة الصناعية، وليست التجارة الإنترنسيونية، هي المسؤولة عن القلائل والتشنجات وتغيير النظام الاجتماعي علماً بأن تبادل الإنتاج كان قد بدأ قبل الثورة الصناعية بعدة قرون.
والحقيقة أن هذه التوأمة بين الاقتصاد القومي والاقتصاد الاجتماعي، نجدها قد فرضت نفسها مجدداً في النهضة الحالية للاقتصاد الصيني، إذ تنبه باكراً رجال الدولة هناك إلى أنه لا مناص لهم من تنظيم وتطوير شبكات تجارتهم الدولية، كي يتمكنوا من السير قدماً في تنفيذ خطتهم بإنهاض صناعاتهم واقتصادهم وإقامة مجتمع متمدن حديث [14]. في الحالة الصينية كان العكس هو المطلوب إذ كان لا بد للاقتصاد القومي من مرافقة نشوء الاقتصاد الاجتماعي. كذلك نلاحظ أن التبعات السلبية التي يحدثها هذا التطور في المجتمع الصيني كحدوث الفوارق الاجتماعية التي بدورها أدت إلى حدوث قلاقل سياسية[15]، والتي كنا أشرنا إليها في القسم السابق من هذا البحث، قد بدأت بالحدوث هناك أيضاً وإن بوتيرة أسرع بعامل أن الآلة في الحالة هذه حقيقة فاعلة.
عامل تدخل الدولة لتنظيم الاقتصاد
من المعروف أن مسألة تدخل الدولة لتنظيم الاقتصاد، هي موضوع جدلٍ قديم بين علماء الاقتصاد يدور حتى فيما بين الرأسماليين أنفسهم، وليس فقط بين هؤلاء ومخالفينهم. أما الذريعة الأساسية التي يستخدمها أصحاب الدعوة إلى إبعاد الدولة عن التدخل، كي يبرِّروا دعوتهم ومناداتهم بمبدأ “حرية الفرد في التصرف” (Laissez-faire)، هي أن المنافسة الحرة تعمل بطبيعتها على إقامة “التوازن المثالي” فيه، فلا تكون بطالة في العمالة، ولا يكون كساد في البضائع، لأن قوانين العرض والطلب تعمل دائماً على موافقة بعضها بعضاً. ويستند هؤلاء في ذريعتهم على مقولة آدم سميث[16]، عن “اليد الخفية” التي تعمل على إقامة التوازن في السوق. ورغم أن آدم سميث نشر كتابه في العام 1776، أي قبيل الثورة الصناعية، فقد بقيت مقولته منذ ذاك الوقت، موضع جدل كبير، بين موافق معه ومناقضٌ له. لكن الواقع ناقض مقولة آدم سميث، إذ بقيت مشاكل البطالة وسوء حالة العمال بازدياد مُطَّرِد. كذلك فشلت جميع محاولات علماء الاقتصاد لإثبات صحة مقولته أو إثبات أي وجود لتلك “اليد الخفية”. في مقالة نُشرت منذ بضع سنوات، ذكرت مجلة “هارفارد بيزنس ريفيو”Harvard business review، أن عدم وجود أي حجة “لليد الخفية”، أو إلى توازن مثالي، أو حتى أي توازن على الإطلاق، هو من أفضل الأسرار المحفوظة في علم الاقتصاد[17].
لكن التفكير ملياً في أقوال سعاده التي ذكرناها فوق، عن موقفه من عمل نظام الحرية الفردية في حالتي الاقتصاد الفردي والاقتصاد الاجتماعي، يظهر أنه بدعوته لنا كي نميّز بين هاتين الحالتين اللتين طبَّق فيهما هذا النظام، هو عملياً يوالف بين مقولتين متناقضتين إذ يقدم المخرج النظري (synthesis) لهما. فآدم سميث على صواب، لأنه بنى نظريته في زمن كانت حالة الاقتصاد اقتصاداً فردياً، ولم تكن تبعات الثورة الصناعية قد فعلت فعلها بعد. آنئذٍ، كانت فعلاً حركة السوق ما زالت تحقق التوازن بين العمل والإنتاج. بالمقابل، فإن معارضي مقولة آدم سميث هم أيضاً على صواب لأن الحالة الاقتصادية التي امتحنوا ويمتحنون فيها مقولته، هي حالة اقتصادٌ اجتماعيٌ متفاعل مع الخارج، لا يتوازن فيها العمل والإنتاج.
والحقيقة أنه في واقع اقتصادي مغلق، يبقى فيه الانتاج في المجتمع، لا نحتاج لا إلى “يدٍ خفية” ولا إلى ألعاب سحرية كي يتوازن العمل والإنتاج، فهما بالضرورة كذلك. ما يتحقق من عمل في ذاك النطاق هو عينه ما يوزَّع من إنتاج، وقيمة هذا هي عينها قيمة العمل الذي حققه. لنقل إن العمل والإنتاج فيه يكونان وجهين لعملة واحدة. كذلك تكون حركة تغيُّر أسعار السلع وأجور العمال هي البوصلة التي توفق بين كمية ما ينتج من أصناف ومقدار ما يبذل من الأعمال. فهذه تتوجه نحو السلع التي يكون سعرها أعلى، بعامل أن الحاجة إلى سدها تكون أشد،
فينجم عن هذا إنتاج كميات أكبر منها. والعكس بالعكس.
لكن الفصام يحدث ويختل التوازن عندما يصبح بإمكان الإنتاج مغادرة المجتمع ومبادلته مع إنتاج خارجي، حيث يصبح للإنتاج قيمة أخرى مردها تفاعلات الأسواق الخارجية، ومستقلة إلى حدٍ بعيد عن قيمته في السوق الداخلية التي هي قيمة العمل المبذول فيه. وهذا يحدث لمعظم أصناف الإنتاج وليس فقط لتلك المصدرة أو المستوردة فعلاً. والسبب في هذا هو أن الرأسمالي، وهو رب العمل ومالك الإنتاج معاً، لم يعد مقيداً ببيع إنتاجه في السوق الداخلية حصراً، بل أصبح حراً في بيعه أيضاً في السوق الخارجية. كذلك هو مخير في أن يعمل إما على تصنيع المنتوجات التي يريد تسويقها، وإما على استيرادها من الخارج. وقوته في هذا الاختيار تمكنه ليس فقط من رفع قيمة ما يصدره فعلاً من إنتاج، لكنه يرفع أيضاً من قيمة الإنتاج الذي يبيعه في السوق الداخلية. وكذلك الأمر بالنسبة للعمال الذين يستأجرهم، حيث أن مجرد قدرته على التخلي عن عملهم واستبداله بانتاجٍ مستورد يكون كافياً لإخضاعهم وإرغامهم على قبول أجورٍ أدنى. وهكذا نجد أن اختلال توازن العمل والإنتاج يكون دائماً لصالح رفع قيمة الإنتاج وخفض قيمة العمل. فيقع الإجحاف في توزيع الثروة إذ يُمنح الرأسمالي حصة الأسد، ويُسلب العمال معظم أجورهم، بل ويُفقدهم عملهم في أحيانٍ كثيرة.
وبدهي أن هذا يعطي الرأسمالي قوةً ماديةً عظمى، بدون أي جهد يقوم به أو كلفة يتكلفها. بل إن سعاده يقول عنها إن الرأسمالي لم يكن حتى يحلم بها، وإنها قد فاقت أية قوة مناقبية أو مادية أخرى في المجتمع، فقضت بالتالي على النظام الاجتماعي القديم، وأقامت نظاماً طبقياً جديداً [18]. لذلك لن يكون لنا مفرٌ من إيجاد التوازن بين العمل والإنتاج إذا ما أردنا أن نعمل على وحدة المجتمع وعلى إزالة الفوارق الاجتماعية فيه “فلا يكون أناس في السماء وأناس في الجحيم”[19].
إضافةً إلى العواقب الاجتماعية، هناك أيضاً تبعات اقتصادية بحت لا تقل سوءاً عنها، تقتضي أيضاً منّا العمل على إيجاد التوازن بين العمل والإنتاج. في مقدمة هذه التبعات الحاجة إلى إيجاد آلية تمكننا ليس فقط من موازنة القيمة العامة للعمل بالقيمة العامة للإنتاج، بل نوفِّق بها بين تأمين حق العمال
بمختلف ميادين مهنهم، في إيجاد أعمال لهم، وبين سد الحاجة لمختلف أصناف الإنتاج. لأنه إذا كانت كل المذاهب الفلسفية في الاقتصاد، بما فيها الرأسمالية، قد أقرّتَ بانتفاء وجود أي توازن بين العمل والإنتاج، بل أي توازنٍ بالمطلق، فلا بد لها جميعها أن تقر أيضاً بالحاجة إلى إيجاد الآلية البديلة لتقسيم العمل على نحو يوفق بين مختلف الأصناف المنتجة وحاجة الأسواق لهذه الأصناف. مع هذا فإننا نجد الأنظمة الرأسمالية ما زالت تهمل هذه الناحية إلى حدٍ بعيد، بينما مبدأ الشيوعيين بأنه “لكل حسب حاجته ومن كلٍ قدر استطاعته”، قد فشل فشلاً ذريعاً.
بعد كل ما ذكرناه فوق عن السلبيات الناتجة من الاستيراد والتصدير، قد يتبادر للقارئ أننا ندعو إلى منع حركة التجارة الخارجية هذه، وإلى ضرب طوق حديدي تُغلَق به حدود المجتمع مثلاً، فيبقى الإنتاج القومي في الداخل ويمنع الإنتاج الغريب من الدخول. ظاهرياً، عملٌ كهذا سيعيد المجتمع إلى حالة الاقتصاد المغلق حيث يتمكن عندها نظام الاقتصاد من إعادة التوازن بين العمل والإنتاج، ولا تعود هناك حاجة لتدخل الدولة. أساساً، لا تعود هناك حاجة لاستخدام الآلة، وكذلك تضعف كثيراً الحاجة إلى الرأسمال. لكننا حتماً لا نريد شيئاً جنونياً كهذا، لأن التوازن بهذه الطريقة هو توازن سقيم.
إن فوائد التجارة الإنترنسيونية، بل وضرورتها، أمر ثابت علمياً لا جدال فيه، ولا يمكننا تصور أي مجتمعٍ من المجتمعات المتمدنة يقدر على تأمين مقومات بقائه بدونها. وفي هذا الصدد، يقول سعاده إن طور الثقافة الزراعية الصناعية القائمة على الاقتصاد الفردي لم يتمكن من اضطراد تقدم المجتمع، لأن موارد هذه الثّقافة اقتصرت على بيئتها بينما موادّ كلّ بيئة محدودة بذاتها[20]. لكنه بالمقابل يعتبر أن التبادل الخارجي بعد ظهور الآلة قد رقّى التفاعل الاجتماعي في داخل المجتمع إلى درجة عالية جداً[21]. كذلك هو يلحظ أن التجارة الخارجية تنتج ربحاً قومياً ينمي الثروة القومية[22]. وهذه مبدئياً عامل هام جداً يؤدي إلى تنمية الإنتاج القومي وتعميم الخير والرخاء على المجتمع كله. لهذا فهو يقول إننا “نسير نحو نظام جديد لا نهرب فيه من الآلة بل نتقدم إليها“[23]. ولهذا أيضاً ما نريده هو تحقيق توازن صحي بين العمل والإنتاج بحيث نبقي على الخير الذي تجلبه الآلة والتجارة الإنترنسيونية.
خلاصة القول أن ثقافة التجارة الإنترنسيونية والتفاعل الاقتصادي بين الأمم، مثلما يكون لها فوائد عظيمة، لها أيضاً تبعات سيئةٌ جداً لا بد لنا من التنبه لها والتعامل معها كي نتفادى العواقب الوخيمة التي نعاني وتعاني كل المجتمعات منها. ولهذا يطلق سعاده تعبير المعضلة الاقتصادية على هذه المشكلة. فدافع الثروة واستدرار الموارد يؤديان إلى اختلال التوازن بعواقبه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. أما إذا عدنا إلى حالة التوازن القديم كي نهرب من السيئات التي جلبتها الآلة، فسيؤدي بنا ذلك إلى حالة الفقر ويكون توازناً سقيماً. لذلك فإن ما نريده هو تحقيق توازن صحي بين العمل والإنتاج، لكنه في الوقت ذاته يبقي على الخير الذي يجلبه الانفتاح والتفاعل مع بقية الأمم.
حق العمل والعمال ورأس المال
في ندائه إلى منتجي الأمة بمناسبة الأول من أيار قبيل استشهاده، قدم سعاده شرحاً وافياً لمعنى حق العمل. منه قوله إن “حق العمل يعني حقنا في مواردنا“، وإن ““أول حق من (حقوقنا) الطبيعية والاجتماعية هو حق العمل والإنتاج. وبدون (وصولنا) إلى هذا الحق تبقى مسألة الأجور وقوانين العمل وقوانين الضمانة الاجتماعية مسألة وهمية، فقوانين العمل والضمانة الاجتماعية لا تحل مشكلة البطالة ولا مشكلة الفقر العام“[24].
رغم وضوح هذا الشرح بما المقصود بحق العمل، نجد تلاميذ سعاده مصرّين على التغاضي عنه وتحويره كي يعني أنه حق العمال في العمل، وتأمين وظائف لهم، وهذا غير صحيح. الرفيق يوسف المسمار يقتبس في دراسته جزءاً غير قليل من نداء سعاده هذا، بما فيه الأقوال المذكورة فوق، لكنه يهمل كل معاني كلماته ولا يعطيه أية قيمة. فما أن يفرغ من اقتباسه، يردف قائلاً: “إن انصاف العمل يعني انصاف العمال. يعني تأمين حق العمل لهم. يعني القضاء على البطالة“، وإن “إنصاف العمل والعمال (يكون) بتأمين العمل لهم“[25]. ولا ريب في أن الرفيق المسمار قد ضلَّ في هذا ضلالاً بعيداً، فحق العمل أعمق كثيراً من حق العمال، وكذلك إنصاف العمل أعمق كثيراً من إنصاف العمال، كما سيجيء في القسم الرابع من هذه الدراسة.
أما الدكتور إدمون ملحم فيفعل في دراسته ما هو أدهى، إذ يحوِّر
نفس قول سعاده المذكور فوق ليصبح أن “الخطوة الأولى لزيادة الإنتاجية هي منح كل مواطن الحق في العمل والإنتاج“[26]. ويتحول بحثه بعدها لا لشرح معنى حق العمل، بل معنى حق العمال في العمل الذي – برأيه هو – جعل فرص العمل متاحة بسهولة لكل مواطن قادر. كذلك هو يحوِّر كلام سعاده بأن حق العمل يعني حقنا في مواردنا، ليصبح أنه للعمال الحق في موارد الأمة
الطبيعية[27]. والحقيقة أننا لا ندري تماماً قصد الدكتور ملحم في هذا القول، وما إذا كان يعني به أن موارد الأمة تصبح مشاعاً يتصرف العمال بها كيفما شاؤوا؟
خلافاً لما فهمه الرفيقان المسمار وملحم، فإن حق العمل ليس حق الحصول على وظيفة، بل يعتبر سعاده هذا الأخير حقاً وهمياً إن لم يكن قد حصلنا قبله على حق العمل، والذي يعني تسخير موارد الأمة لمطالب العمل. والرسمال هو في مقدمة هذه الموارد، إذ أن سعاده أطلق صفّارة الإنذار على الرسمالي تحديدأ، معيِّناً بدقة عمل التعدي الذي يقوم به على حق العمل. يقول سعاده: ” إذا ترك للفرد الرسمالي حرية مطلقة في التصرف بالعمل والإنتاج، كان لا بد من وقوع إجحاف بحق العمل وكثير من العمال“[28].
الرسمال هو حاجة العمل الأولى، وهو ضمانة استمراره، وهو في الأول وفي الأخير حاصل العمل. بالمقابل فإننا نجد أنه “ما من عمل أو إنتاج في المجتمع إلا وهو عمل أو إنتاج مشترك أو تعاوني”. وهذا يسوغ لنا تسخير الرسمال لخدمة العمل ومتطلباته، لأن في هذا التسخير مصلحة قومية عامة. لكن هذا لا يعني مطلقاً أن الرسمال أو أي مورد من موارد الأمة يصبح متاحاً لعبث العمال، بصرف النظر عن الذرائع التي يمكن لهم أن يبتكروها. سعاده كان واضحاً ودقيقاً جداً في قوله إن “”ثروة الأمة العامة يجب أن تخضع لمصلحة الأمة العامة
وضبط الدولة القومية“[29].
أما ما يشير إليه سعاده في قوله عن الإجحاف بحق العمل، فهو أمرٌ يمارسه الرأسمالي أمام أعيننا يومياً، لكننا ألفناه وقبلناه بل بتنا نعتبره من المسلمات. فالمعروف أن المصانع، ومن خلفها مالكوها الرأسماليون، لن تدع إنتاجها يتكدس في مخازنها بعضها فوق بعض ويكسد إذا ما قلَّ الطلب على البضائع التي تنتجها، بل ستعمد إلى تجنب خسائرها بخفض العمل وربما حتى إلى إيقافه كلياً إلى أن تنفِّق بضاعتها. والمعروف أيضاً أن المصانع تعمد إلى تسويق بضائعها ليس وِفقاً للأسعار التي تمكِّنها من تصريف إنتاج طاقتها القصوى، بل تصريف الكمية التي تحقق لها الربح الأعظم. وفي هذا أيضاً تعطيل لطاقة العمل الإنتاجية.
لكن أقوال سعاده تدفعنا للتساؤل عن السبب الذي يجعلنا نرضى أن تكون مصلحة المصنع/ الرأسمالي، هي المقياس الذي على أساسه تدور عجلة العمل أو تتوقف؟ فمصلحة الأمة تقتضي بأن لا تتوقف عجلة العمل عن الدوران، بل لا بد لها من أن تدور بسرعتها القصوى، وتفعَّل كل طاقاتها دوماً. فالمصنع وما يحويه من منشآت وآلات ومعدات، وما يملك من سيولة نقدية، هو جزءٌ من ثروة الأمة العامة، وبالتالي فمن حق الأمة أن تسخَّره وفقاً لمصلحتها هي لا وفقاً لمصلحة الرأسمالي. ولا نعني بهذا أنه على المصنع أن يواظب على الإنتاج حتى وإن لم تعد في الأسواق حاجة لبضائعه، لكننا نقول إن هذه الطاقة الإنتاجية الفائضة يجب صرفها في أعمالٍ أخرى لا أن نعطلها.
كذلك نجد أن الرأسمالي لا يدخل في حساباته خسائر العمال في أجورهم وحقوقهم الناجمة عن تعطيلهم عن العمل، لذلك سيفعل ما تمليه عليه مصلحته في تعظيم أرباحه، بصرف النظر عن الخسائر الناجمة للعمال المشتركين معه في الإنتاج.
في القسم التالي سيكون لنا عودة مفصلة إلى هذه المسألة حيث نبحث في خطة سعاده لحلها بالمداورة، بمعنى أنه يبقي على الملكية الشخصية كملكية عملية لكنه يضع حداً لتصرف الرأسمالي المطلق في العمل والإنتاج.
[1] “المحاضرات العشر”، المحاضرة الثامنة، ص 122.
[2] المرجع السابق، ص 122.
[3] المرجع السابق، ص 129.
[4] المرجع السابق، ص 126.
[5] سعاده، نشوء الأمم، آخر فقرة من تطور الثقافة العمرانية، وأول فقرة من الثورة الصناعية، ص 83-84.
[6] يوسف المسمار، مفهوم الاقتصاد القومي الاجتماعي، قومية الاقتصاد، ص 36.
[7] المرجع السابق، ص 38.
[8] سعاده، نشوء الأمم، آخر فقرة من تطور الثقافة العمرانية، ص 83.
[9] المرجع السابق، ص 82.
[10] المرجع السابق، ص 83.
[11] المرجع السابق، ص 83.
[12] المرجع السابق، ص 84.
[13] المرجع السابق، ص 74.
[14] China’s 40 Years of Reform 1978 – 2018, China and the global trading system: Then and now, Page 549.
[15] China’s 40 Years of Reform 1978 – 2018, The decadal crises, Page 39.
[16] ا آدم سميث ،(1723 – 1790) عالم اقتصاد اسكتلندي، ملقب خطأً بأبي الإقتصاد. وأقول خطأً لأن جلَّ ما كتبه آدم سميث كان قد ورد في مقدمة إبن خلدون، بما فيها تلك التي تعنى بقوانين العرض والطلب في السوق. حتى مثل صناعة الدبابيس الذي يعطيه سميث عن كيفية تقسيم العمل وتحقيق التعاون، كان إبن خلدون قد أعطى مثله في صناعة الخبز ابتداء من زراعة القمح. وأنا ممن يذهبون إلى أن هذا التشابه الشديد والعديد بالأفكار ليس مجرد تناص، بل سرقة أدبية بكل معنى الكلمة، والمعروف أن مقدمة إبن خلدون قد ترجمت إلى عدة لغات أوروبية.
[17] https://hbr.org/2012/04/there-is-no-invisible-hand
[18] سعاده، نشوء الأمم، تطور الثقافة العمرانية، ص 85.
[19] “المحاضرات العشر”، المحاضرة الثامنة، ص 116.
[20] “نشوء الأمم”، تطور الثقافة العمرانية، ص 83.
[21] المرجع السابق، ص 85.
[22] المرجع السابق، ص 83.
[23] “المحاضرات العشر”، المحاضرة الثامنة، ص 128.
[24] سعاده، “نداء الزعيم إلى منتجي ثروة الأمة وبنّائي مجدها”،المجموعة الكاملة، المجلد الثامن، 1949.
[25] يوسف المسمار، مفهوم الاقتصاد القومي الاجتماعي، قومية الاقتصاد، ص 36.
[26] Dr. Edmond Melhem, The Social National Economy, The Right to Work, Episode 9, Twitter: http://bit.ly/2mfCxQ5
[27]Ibid.
[28] سعاده، “المحاضرات العشر”، المحاضرة الثامنة، ص 121.
[29] المرجع السابق، ص 121.
[…] أن ما مهدنا له في القسم السابق من هذه الدراسة عن وجهة نظر سعاده في المعضلة […]
[…] القسم الثاني من هذا البحث تحدثنا عن حق العمل، وذكرنا أنه ليس حق حصول […]