يوميات لاجئ-العيد -ابن البلد

image_pdfimage_print

 إنها رائحة القهوة.

غالباً ما يتلعثم الفكر وتختلط الحواس أمام القهوة. فتجد نفسك تسمع صوت الماء يرتفع داخل الركوة الساخنة ويلسعها بدرجة حرارة مختلفة. ثم يتحضّر الذوق ليستقبل رشفة ستحرق لسانك بالغالب لأنك لن تنتظرها حتى تبرد. فالقهوة تُستَهلك ساخنة، تماماً مثل الذكريات.

لطالما أحيتِ القهوة داخلي وجه جدّي ورائحة العيد. هناك دائماً رابط غريب بين القهوة وجدي والعيد.

كنّا نفتح أعيننا على صوت جدّي يحمّص حبّات البن الخضراء ثم يطحنها لتحضير قهوة العيد. ذلك العيد الجميل.. حلو الطعم بمرّ قهوته.

صوت مطحنة القهوة.. كان بمثابة جرس منبّه لي ولإخوتي الأربعة، حتى نجري ونلبس ثيابنا الجديدة.

فقد عوّدنا أبي أن العيد شيء مقدّس.

مقدس بانتظاره أياماً قبل أن يأتي. بثياب لا يمكن أن تكون إلا جديدة. بوجوه تراها مرتين في العام كأنها تولد في العيد فقط. برائحة فرن أمي وكعك التمر. بالطقم الصيني المنتظر في “الفاترينا” والذي يخرج ليزين طاولة المنتصف في بيتنا. بازدحام شارع لوبية. بأصوات لا تنام ليلة العيد. بأغنيات تتكرر في وقفة العيد وصباح أول يوم فيه. بربطة عنق أبي، وعناق أمي وقبلة صباح أول يوم. بضفائر أختي وجزدانها البنّاتي الملون. بثيابنا المتشابهة كأننا فريق. باصطفافنا أمام أعمامي وأخوالي وجدي وأهلي لاستلام العيدية.. بمواعيدنا الصغيرة أن نلتقي في ساحة العيد.

نعم.. ساحة العيد. ذلك المكان المزدحم بالأراجيح الملونة التي يدفعها بعض العمال البسطاء. بحناجرهم التي تستحضر العيد، ينادون يميناً وشمالاً، يبحثون عن رزق مؤقت يبدأ بأغنية “يا أولاد محارب”، وينتهي بعبارة “تعال لحّق العيد”. تلك الساحة الملونة بثياب الأطفال وابتساماتهم تمتد من أول شارع لوبية إلى منطقة المدارس، وتفوح فيها رائحة السجق وأنواع السندويتشات الأخرى التي يتهافت عليها الأطفال بعيدياتهم. نعم إنها الرائحة من جديد، صلة وصل بين ساحة العيد في الأمس وذلك الطفل الذي لا يكبر داخلي. الغريب أنني كنت في العيد.. أكبر لأشعر بأنني رجل، أخرج المال من جيبي مثل أبي، وأشتري دون أن أهتم. لأنني أعرف أن أبي سيعطيني في اليوم التالي عيدية أخرى، وأن أمي ستقبلني من جديد، وأخوتي الأربعة لديهم المزيد، فأنا أصغرهم وأكثرهم دلالاً.

استيقظت من شرودي وذكريات بعد أن هزتني ابنتي بعنف. نظرت إليها وهي ترتدي ثياب العيد، إلى ضفيرتها الطفولية المفعمة بالحماس، وجزدانها الذي يشبه جزدان أختي منذ أكثر من ثلاثين عاماً. قبّلتها وقلت لها كم هي ملاك صغير فذهبت تجري تجرّ العيد وراءها. وقبل أن تبتعد، ذكّرتها أن تكون جاهزة لتلتقي بعمتها وأعمامها بعد قليل، فاليوم موعدنا جميعاً.

كم أتوق لهذه اللحظة، فهم مشغولون في هذه الحياة، ومن الصعب أن نلتقي جميعنا إلا في العيد.

اليوم سأراهم جميعاً مع أولادهم وزوجاتهم. هذا هو اللقاء الكبير الذي يجعلني أسترجع معنى العيد وجماله.

بصراحة كنت أتمنى أن يكون هذا اللقاء في صباح العيد، وليس في الساعة الرابعة عصراً كما اتفقنا. فأنا أحبّ صباحات العيد، لا أعرف لماذا أشعر بأنها تختلف عن أي صباح خلال العام.

تجمّعت أسرتي الصغيرة المكوّنة من زوجتي وابنتي ذات الستة أعوام، وابني الرضيع، وجلسنا ننتظر ذلك اللقاء الكبير. كان لدي الكثير لأقوله لإخوتي جميل وجمال وحسام وهالة. أنا أنتظر بلهفة لأشاهد أولادهم، فقد كبروا ومنهم من دخل الجامعة أو على وشك دخولها، وأتوق لرؤيتهم جميعاً في ثياب العيد.

وما إن دقّت الساعة الرابعة.. حتى رأيت إخوتي أمامي. ما أحلى هذا الشعور، صحيح أن السنوات تترك على وجوهنا آثارها. لكنني ما زلت أرى في عينيّ جميل.. تلك اللهفة وذلك الخوف علينا كإخوة صغار، وأرى في عيني جمال عنفوان المدافع عن العائلة فقد كان وما زال “القبضاي” الجاهز لحمايتنا حتى آخر نبضة في قلبه. وحسام، هو الأقرب لي عمراً وكاتم أسراري وصديقي في مغامرات طفولتي كلّها. أما هالة فلا عمر لها.. كأي أخت عربية، تريدك أن تشعر بأنها أكبر من الجميع دون أن تناقش مسألة عمرها، لكننا جميعاً نعرف أنها أكبر من حسام وأصغر من جمال. هالة.. تحولت إلى نسخة من أمي، وجميل صار مثل أبي.. وهو من رتّب لهذا اللقاء كأنه يطبّق وصية أبي بأن يكتمل فينا حُبُّ العيد.

فأبي قبل أن يودعنا، كان يعرف أننا سنلتقي دائماً، لكنه لم يكن يعرف يوماً بأننا سنلتقي بهذا الشكل وبهذه الوسيلة، فهو لم يعرف الإنترنت.

لم يكن أبي يعرف أن جميل سيهرب من المخيم إلى السويد، وجمال سيلحق به قبل أن يجد نفسه بيد السلطات النمساوية فيضطر للجوء هناك. بينما هالة في كندا، وحسام في هولندا.. وأنا في تركيا.

إذاً عيدنا هذا العام يحمل طابعاً رقمياً باهتاً. خالياً من حرارة العناق والشوق. ومجرّداً من عيديته. بعيداً عن صباح العيد وخاضعاً لفروق التوقيت.. وهذا سبب إجراء مكالمتنا في هذا الوقت، لنتمكن جميعاً من الاحتفال في اليوم ذاته على الأقل.

ما إن فتحنا الكاميرات، حتى ذابت الكلمات التي كنا نخبئها لبعضنا، وتلاشى اهتمام أولادي بأعمامهم، فهم ليسوا أكثر من صورة فيديو يرونها على جوالاتنا كل يوم ألف مرّة. أشاحوا بوجوههم عن الكاميرات، وتبدد الصف الواقف لتحصيل العيدية بعد أن لم يعد لها وجود، فصارت مجرّد وعود تتحكم بها سرعة الإنترنت وثبات الصورة.

ذهب الأولاد من حولنا.. وتظاهرت زوجات إخوتي بأنهن مشغولات، ركضت ابنتي بعيداً لتحمل جهازها اللوحي وتبدأ مشوارها الرقمي اليومي باحثة بين الفيديوهات وبرامج الأطفال والأغاني التي تتحدث عن العائلة والعيد.. فأطفالنا صاروا يعيشون الواقع افتراضاً، ويتعلمون ما يجب أن يعيشوه عبر الشاشات دون أن يعيشوه حقيقة.

اختفى الجميع صغاراً وكباراً ولم يعد هناك سوانا. نحن الخمسة معاً من جديد.. في تواقيت مختلفة. بدأت هالة سلامها بالبكاء، فأجبتها محاولاً التماسك بصوت خافت، ولسبب مجهول اختفت صورة جميل، وحسام أدار وجهه ليتحدث مع شخص خارج إطار الكاميرا.. بغض النظر إن كان موجوداً أم لا. بينما بقي جمال محاولاً الكلام وإطلاق النكات حتى يغيّر الموضوع ويبقى بطل العائلة الذي لا يهزه شيء.

سألنا بعضنا عن أحوالنا أكثر من ألف مرة، وسمعنا الحمد جواباً أكثر من ألفي مرّة. وصرنا نستذكر العيد في حضرة أبي وأمي. تشاركنا كعك العيد عبر الكاميرا، وطمأنتنا هالة بأنها ما زالت تحضر كعك العيد بذات المقادير التي تعلمتها من أمي، بينما جميل يحمّص القهوة مثل جدي.. أوصينا بعضنا أن نوزّع العيديات باسمنا على أولادنا ثم أنهينا المكالمة بعد أن قلنا لبعضنا “إن شاء الله العيد الجاي منلتقي” مثل كل عيد يمضي ولا نلتقي في العيد الذي بعده.

نظرت إلى طاولتي حيث أحضرت الحلوى والشوكولاتة، ككل عيد. وبدأت ألتهم الضيافة وحدي مع فنجان قهوة مُرّة، وتذكرت كيف سأقضي باقي العيد مع أسرتي وحيداً دون ضيوف أعرفهم هنا. ثم التقطت جوالي ورحت أبحث عن أسماء لم أرسل لهم تهنئة العيد بعد.. حتى لا ينتهي داخلي العيد.

وأنا أبحث بين الأسماء غدرتني دمعة سقطت على شاشة جوالي. غدرتني لدرجة أنني لم أشعر بأنها نزلت من عيني، حتى أنني نظرت إلى السقف لأتأكد، ولكني تلمّست مسارها على خدي وفي “غباشة” عيوني. أنا ببساطة.. اشتقت لأرى إخوتي بالحجم الطبيعي. إلى رائحة عطرهم أو عرقهم، لا يهم. إلى لون قمصانهم الحقيقي، إلى عناقهم وطعم ضيافتهم. إلى لحظة يعطونني فيها الشوكولاتة وأشعر بأنني لا أريدها فآخذها مجاملة، أقسم أنني سآكلها أمامهم المرة القادمة ولن أنتظر أو أتململ. إلى مقاومة يد أختي وأنا أزرع بها العيدية وتدفعني بعيداً عنها حتى أرميها غصباً في يدها.

هل سنلتقي يا ترى؟ هل سيأتون يوماً إلى بيتي جميعاً، وأعود للقائهم في بيوتهم غداً؟ هل سأعانق أولادهم؟ هل ستتشاجر نساؤنا من جديد على أي شيء؟ هل سأسمع صوت ضحك الأطفال، وأولئك الذين يهزون المراجيح وينادون عليهم يوماً؟ لا أعرف.. ولا أريد أن أقول نعم أو لا.

أنا إنسان بسيط يحب العيد واللقاء والعائلة والأشياء التقليدية. لا أريد أن أكون فلسطينياً مميزاً.. أريد أن أكون كأي عربي مسلم آخر ما زال يحتفل بالعيد في وطنه وبين إخوته. أنا لا أنتظر جيلاً خامساً حتى أرى إخوتي بشكل أفضل في الجوال أو الجهاز اللوحي. لا أنتظر تقنية “الهولوغرام” حتى ينبعوا أمامي بشكل ثلاثي الأبعاد.. أنا أنتظر تقنية “العودة” فقط. العودة إلى الوطن.. العودة للقاء.. العودة بالزمن. لا أدري تماماً. تقنيتي بسيطة وطموحي أبسط، فهل أطلب الكثير؟

  • النهاية –


في هذا العدد<< سؤال-قيس جرجس“كوشيم” السومري – أقدم إسم مكتوب في التاريخ >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
2 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
majd aldeen
majd aldeen
3 سنوات

رائعة …… سلمت يداك

Hanan faris alali
Hanan faris alali
3 سنوات

راىعه عبرت عن ما يجيش بخاطري