“الدولة ـ الوظيفة”

image_pdfimage_print

يعرّف أنطون سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه، الدولة بأنها “أجدر الشؤون والمظاهر الثقافية تمثيلاً للحياة العقلية التي هي من خصائص الاجتماع الإنساني، حتى ليمكن القول إن الثقافة الإنسانية والدولة صنوان”. (كتاب “نشوء الأمم” في الجزء الثالث من “الأعمال الكاملة”، صفحة 73). والمقصود بذلك أن مفهوم الدولة لا يستقيم إلا إذا حدث تطور تدريجي في ثقافة المجتمع، وصولاً إلى حصول الوعي بالمصالح الحيوية للجماعات. فتتبلور عندئذ إرادة عامة تلتف حول ضرورة الالتزام بترتيبات تدير تلك المصالح وترعاها. وهكذا تقوم الدولة.

وإذا كان مفهوم الدولة الحديثة في أوروبا قد وُلد بعد مخاضات عنيفة من الحروب الأهلية والدينية على مدى عقود، فإن طبيعة الدولة وقوانينها وآلياتها لم تصبح ناجزة وثابتة إلا بعد تجارب مريرة مرّت بها الشعوب الأوروبية، خصوصاً كوارث الحربين العالميتين الأولى والثانية. وغالباً ما ترافق ذلك مع تطورات اجتماعية واقتصادية جذرية، بحيث أن تفاصيل “العقد الاجتماعي” بين الشعب والدولة تغيّرت حسب المستجدات، أو على الأقل حملت قابلية للتغيير عندما تستدعي حاجات المجتمع مثل تلك الخطوات.

أما سورية الطبيعية (والعالم العربي بشكل عام)، فقد أخرجتها الحرب العالمية الأولى من قيود الحكم العثماني البربري المتخلف لترمي بها منهكة دامية بين براثن الاستعمار الأوروبي الوحشي المتحضر. فعلى مدى أربعة قرون من الهيمنة التركية، تم تدمير كل المؤسسات الشعبية بشكل منهجي. ولم تسلم من أيدي العثمانيين سوى بعض الأنماط الدينية أو العائلية التي وصفها سعاده بأنها “المؤسسات اللاقومية” أو “المؤسسات الاجتماعية العتيقة”. إن مجتمعات على هذه الوضعية ستكون عاجزة عن تطوير إرادة واحدة لإنشاء دولة. يُضاف إلى ذلك أن الاستعمار الفرنسي البريطاني لم يترك سلاحاً إلا واستخدمه لتعزيز الانقسامات الداخلية، وإثارة الغرائز الطائفية والعرقية.

في مقالي السابق “دولة بلا إرادة“، أوضحتُ أهمية عامل الإرادة الشعبية في قيام الدولة الحديثة واستمرارها. وذكرت أنه لا حياة لمثل هذه الدولة إلا بالإرادة الموحدة للشعب في المجتمع المعني. ثم قارنت بين نشوء الدول في أوروبا وفق مفاهيم معينة وبين فرض الإرادة الاستعمارية عنوة عندما أقدمت فرنسا وبريطانيا على “خلق” كيانات عدة في الهلال السوري الخصيب. ولأن القوى الاستعمارية تجاهلت تماماً إرادة أبناء البلاد الأصليين، ولأن الحكام المحليين الرجعيين عملوا كل ما في استطاعتهم لعرقلة نمو الشعور بوحدة المجتمع وواجبات المواطنية… فقد بلغت غالبية كيانات الأمة في نهاية المطاف تصنيف “الدولة الفاشلة”.

وثمة سؤال ملح يفرض نفسه علينا في أعقاب تحميل باريس ولندن مغبة ما آلت إليه الأمور في أمتنا والعالم العربي: هل كانت الدولتان الاستعماريتان الكبريان آنذاك تجهلان ما يمكن أن ينجم عن إنشاء “دول” على أساس الانتماءات الدينية والطائفية والعرقية في مجتمع مختلط، فسيفسائي شديد التعقيد، كما هي حال المجتمع السوري الخارج من عصور ظلامية قضى العثمانيون خلالها على أي نشاط تنويري؟ وبالتالي، كيف لهذا المجتمع الغارق في مستنقعات الجمود والانحطاط أن يستوعب متطلبات قيام “الدولة” بوصفها وطناً لكل المواطنين وليست ملكاً مطوباً لهذه الطائفة “المميزة” أو تلك؟

الجواب هو أن فرنسا وبريطانيا كانتا تعلمان بدقة تامة ما تقومان به في الوطن السوري، وتدركان الغاية من تلك الخطوات التقسيمية، وتستشرفان النتائج الكارثية التي سيقع وزرها على أبناء البلاد. فهؤلاء سيجدون أنفسهم في “دولة” لا إرادة لهم فيها، أو أن قسماً منهم فقط هم الذين أرادوها. والنتيجة نشوب مواجهات داخلية، لا تكاد واحدة منها تنتهي حتى تندلع أخرى… وهكذا في دائرة من العنف العبثي الذي لا تبدو في الأفق خاتمة له! إن اتفاقية سايكس ـ بيكو الفرنسية البريطانية لتجزئة سورية، تمهيداً لإنشاء “دويلات” مستقلة، هي جزء محوري من مخطط معد سلفاً له أهداف مرتبطة بالمصالح الاستعمارية البعيدة المدى.

“الدولة” أو “الدول” التي نشأت بإرادات خارجية، ورغماً عن إرادة السكان المحليين، هي هيئة غائية تخدم مشاريع مرتبطة بمصالح الخارج. إنها “الدولة الوظيفة” التي تنشئها الدول الكبرى وترعاها كجزء من استراتيجية السيطرة على مقدرات الشعوب ومصائرها. وهذه الدول متناثرة في أنحاء العالم، حيثما كان للقوى الاستعمارية مصالح حيوية. هونغ كونغ كانت نموذجاً صارخاً، الوظيفة المنوطة بها مركز مالي تجاري وقاعدة استعمارية لمواجهة الصين. إمارة موناكو تُصنّف وظيفياً أيضاً، ملعب الأغنياء وملاذ التهرب الضريبي. حتى سويسرا (إلى حد ما) تلعب هذا الدور بالنسبة إلى أوروبا والعالم، وقد حماها “حيادها” المعلن خلال الحرب العالمية الثانية لأنها توفر “الخدمات المصرفية” التي يحتاجها الأعداء المتحاربون!

وبالعودة إلى هلالنا السوري الخصيب، فإن اتفاقية سايكس ـ بيكو وبعدها وعد بلفور مهدّا الطريق لقيام مجموعة من الدول الوظيفية. فلسطين “وطن قومي لليهود”، من ضمن دويلات دينية وطائفية مختلفة. وتكون في الوقت نفسه قاعدة متقدمة للمصالح الاستعمارية في الشرقين الأدنى والأوسط. إمارة شرق الأردن موقع حيوي عند خليج العقبة يتيح لبريطانيا السيطرة على جزء أساسي من خطوط الملاحة في البحر الأحمر، إضافة إلى قدرة الإمارة على استيعاب المهجّرين من فلسطين. أما لبنان، فقد أراده المستعمر الفرنسي ومعه بعض الإكليروس الماروني “وطناً قومياً للنصارى”. ويُنسب إلى البطريرك أنطوان عريضة (1863 ـ 1955) قوله: “نصارى الشرق يطالبون بأن يكون لهم وطن قومي مسيحي، وهذا الوطن هو لبنان”. (نقلاً عن كتيب صدر سنة 1979 بمناسبة ذكرى وفاة المؤرخ محمد جميل بيهم).

ونشهد منذ سنوات محاولات لإنتاج دويلات وظيفية، بعضها نجح وبعضها لا يزال تحت المجهر. نذكر منها كوسوفو في جمهورية الصرب، و”غزة ـ أريحا” في فلسطين، وكردستان العراق… وغيرها، حيثما تلتقي المصالح الخارجية مع النزعات التفتيتية المحلية. لكن القاعدة العامة التي تخضع لها “الدولة الوظيفة” هي أن مصيرها معلق بالغاية التي لأجلها أنشأت في الأساس. فعندما تنتفي الحاجة الوظيفية تنتفي تلقائياً مبررات الاستمرار. ولعل الأزمات المصيرية التي تعصف ببعض كياناتنا السورية مردها إلى تغيّر في الأدوار المرسومة. والحل في هذه الحالة، إما غاية وظيفية جديدة أو الإحالة إلى التقاعد… والمخاض في العادة سيكون عسيراً جداً.

 

في هذا العدد<< الصمت أبلغ-رئيس التحريرسيناريوات اللاحل في لبنان >>
1 1 vote
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments