لماذا فشلت قيادات الأحزاب العلمانية؟-جورج يونان
لماذا فشلت قيادات الأحزاب العلمانية؟-جورج يونان
سأجعل مقال “المخلص والقائد” لرئيس تحرير “الفينيق” الأمين أحمد أصفهاني مدخلاً لحديثي، وقد استهله بقوله: “التوق الشعبي الدفين إلى وجود “المخلص” هو نزوع متأصل ومستمر في الوجدان الاجتماعي السوري ولدى شعوب أخرى عريقة منذ أقدم العصور الموغلة في التاريخ“.
واستشهد الأمين أصفهاني بقصص مرَّتْ في الملاحم البابلية، وتكررت في السرد التوراتي، وانوجدت في التاريخ الإسلامي. وأشار إلى أن هذا التوق هو توق ديني روحاني في أصوليته ولا يرتبط بالواقع الإجتماعي… ولمَّحَ إلى أن عدداً كبيراً من قوميّي الرعيل الأول رأوا في سعاده مخلِّصاً. وقد ترسَّخَ هذا المفهوم بعد استشهاده وبعد “تاريخٍ طويل من الفشل والأزمات المتعاقبة”. وفي الأزمة الحالية، القوميون ضائعون في البحث عن “مخلص”… “في حين أن المطلوب هو برنامج عمل واضح وخطة تحرك مرنة يعيدان الحزب إلى تنكب مسؤولياته”.
ثم يختتم الأمين أصفهاني الكلام بإيمانه بأن يوم الخلاص (لا المُخَلِّصْ) قادمٌ بعد:
- تمهيد الأرضية داخل الصف الحزبي (أو ما أسميه: التعبئة).
- تحديد طبيعة الأزمة أو (الأرضية التي نقف عليه والمحيطة بنا أيضاً).
- القطيعة النهائية مع مسببي الأزمة والمستفيدين منها.
- العودة المتجددة إلى القواعد القومية الإجتماعية.
- وضع خطط ومشاريع مرحلية (ولِمَ لا ثابتة) تخاطب حاجات المجتمع ومتطلباته الملحة.
و”كل رفيقٍ فعلتْ فيه العقيدة هو خامة قيادية كامنة، هو هذه الحقيقة الناصعة”.
ولننطلق من هذه الخلاصة، وقبل أن نعالج كل بندٍ من بنودها، لا بد من الإعتراف بأن مفهوم المخلص هو نعم مفهومٌ قديم. وهو ليس مفهوماً روحانياً فحسب بل سبق الروحانية بقرونٍ عدة ولا علاقة له بالواقع الإجتماعي. يروي المؤرخ السوري فراس السواح عن المفكر جيمس فريزر “أنه قد مرَّ على الإنسان عهدٌ ظنَّ فيه أن بمقدوره التحكم بسير عمليات الطبيعة بواسطة تعاويذه وطقوسه السحرية. وعندما اكتشف بعد فترة ليست بالقصيرة، قصور هذه الوسائل عن تحقيق غاياتها، اعتقد بأن الطبيعة التي تأبى الإنصياع لطقوسه، واقعة تحت سلطان شخصياتٍ روحانية فائقة القدرة. فتحول إلى عبادة هذه الشخصيات واستعطافها واسترضائها بالأضاحي والقرابين، لتقف في صفه وتلبي له حاجاته. وبذلك ظهر الدين، وتحول الإنسان عن السحر، وحلَّ كاهنُ المعبدِ الذي يقودُ الصلوات محل ساحرِ القبيلة الذي يقودُ الطقوسَ السحرية”.(كتاب “الأسطورة والمعنى”، ص: 134).
إلا أن هذا المفهوم لاءم الديكتاتوريات في الوطن السوري، ولاءم القيادات الحزبية وخصوصاً قيادات الحزب السوري القومي الإجتماعي، فأشاعته وكرَّسته في الذهن الشعبي وفي الصف القومي، وذلك كلّه لتمتين سلطتها الديكتاتورية. وبدورها المراجع الدينية بأنواعها دعمته كي تؤمَّن لأنفسها سبيلاً للتغلغل في الأمور الدنيوية التي هي من إختصاص المجتمع المدني والدولة العلمانية.
نعم “إن عدداً كبيراً من قوميّي الرعيل الأول رأوا في سعاده مخلِّصاً، وقد ترسَّخَ هذا المفهوم بعد استشهاده وبعد تاريخٍ طويل من الفشل والأزمات المتعاقبة”. وفي الأزمة الحالية، القوميون ضائعون في البحث عن “مخلص”. ولكن سعاده لم يدَّع النبوة والسحر ودوراً كمخلص، ولم يكن يخاطب جموع المشعوذين. سعاده كان قائداً ذا رؤية، درس الأرضية، وجاء بالمشروع المتكامل لوضع هذه الأمة على طريق النهضة، مخاطباً مكامن القوة في الإنسان السوري، داعياً إيّاه إلى التسلح بالعقل والمعرفة، وبالتعبئة في حركةٍ سمّاها الحزب السوري القومي الإجتماعي لكي تساعده على تحقيق مشروعه.
التاريخ الطويل لقيادات الأحزاب العلمانية في الفشل وفي الأزمات المتعاقبة يرجعُ سببه إلى مفهومها بان الحلول هي الحلولُ السريعة، وهي لا تأتي إلا باجتراح العجائب. ولاجتراح العجائب لا بد من المخلِّص والساحر والبطل الخارق لتحقيقها، ولا بد من تعبئة الجماهير وراء هذا القائد الخارق، ولا بد من الوصول إلى السلطة بأقصر طريق. وهاجس السلطة هذا جعلها شرسة في شهواتها، فانبرت إلى المغامرات السياسية، متسلحة بالـ”منطق” العسكريتاري وممتطيةً العسكر في غزواتها على السلطة. وهي بعملها هذا لم تستغل العسكر فقط لا بل أبعدتهم عن مهمتهم الوحيدة وهي حماية الوطن. أما العمل النهضوي في بناء المجتمع وتحصينه بالمؤسسات المدنية والإقتصادية وبالمعرفة والثقافة وببناء جيشٍ وطني هدف ضباطه وجنوده إبتكار كل الوسائل المتاحة لصيانة الوطن ومؤسساته.
فمن جهة البندين الأول والثاني اللذين ذكرهما الأمين أصفهاني، فقد كانت قناعتي ولا تزال بأن الخروج من أية أزمة يتطلب المرور بثلاث مراحل:
1 ـ دراسة الأرضية وذلك بجمع المعلومات عن الأرضية وما حولها وما يتداخل فيها سلباً وإيجاباً، وجدولة هذه المعلومات وتحليلها. ومن هذه الدراسة تنبثق رؤية، والرؤية تلد مشروعاً، وكلاهما من خواص القيادة التاريخية. فمن دون رؤية وابتكار مشروع ليس هناك قيادة.
2 ـ التوعية، وهي أيضاً من مميزات القادة التاريخيين وهدفها المجتمع كله.
3 ـ التعبئة التي تشمل الفريق القيادي والممارس، والتعبئة لخدمة أهداف المجتمع في مسيرته الحضارية بكل معانيها ومتطلباتها.
وحين ينطلق العمل لا بد من آلية التقييم والتقويم، فليس هناك حركة لا تتعرض للصعوبات والمعيقات. وضمن هذه المسيرة تقع الأخطاء، فلا بد من التقييم، ولا تقويمٌ بلا تقييم. وعلى عاتق النخبة الفكرية تقع مسؤولية التقييم وذلك من منطق الإرتياب. الإرتياب بكونه قلقاً إيجابياً عند قادة الفكر الغيورين على المصلحة العامة، يجعلهم غير قانعين بكل إداء راهن لا يحمل في حناياه أية إرادة في التغيير والتقدم . ومن هنا ، فما حصل بعد اغتيال سعاده في الماضي، الذي أدّى إلى هجرة النخبة المنتجة في الفكر والفن بكلِّ مجالاته وفي المهن بتعددها، وما يحصل في الحزب السوري القومي الإجتماعي بفروعه الثلاثة، ليس ازمة وإنما إرتياب إيجابي للنخبة من إداء المؤسسات الحزبية. وهو إرتياب ، إن أدّى إلى الإحباط سابقاً وإلى الهجرة من المؤسسة الحزبية، فإنه الآن يأخذ منهجاً إيجابياً بفضح المسيرة الإنحدارية الموصومة بنتائجها الكارثية، ويتصدى لها محاولاً تقويمها وإعادتها إلى مسارها النهضوي المعتمد على الحركة والتجديد وعلى بناء المؤسسات المدنية وعلى مخاطبة القوى الكامنة في المجتمع لتعبئتها في مسيرة الإنتاج والثروة، وفي هذا المسعى “كل رفيقٍ فعلتْ فيه العقيدة، هو خامة قيادية كامنة، هو هذه الحقيقة الناصعة”.
لقد أمعنت القيادات في الأحزاب العلمانية، وبالأخص في الحزب السوري القومي الاجتماعي، في تجاهلها للضرورات المعيشية للجسم الحزبي. لقد كان عليها “وضع خطط ومشاريع مرحلية (ولِمَ لا ثابتة) تخاطب حاجات المجتمع ومتطلباته الملحة”. فلم تحصِ الكفاءات المهنية الموجودة في الجسم الحزبي من أطباء ومهندسين وفنانين وصحافيين وقانونيين ومحاسبين ورجال فكر ومستثمرين ومن أصحاب حرفٍ شتى، ومن قدرات مالية محلية واغترابية لاستثمارها في مشاريع إنمائية توفر فرص العمل لكثير من الناس، حيث تكتنز التجربة، وتكبر وتتزايد الخبرات، ويغتني المجتمع ويتوقف نزيف الهجرة والإغتراب.
يقول راينهولد نايبور Reinhold Niebuhr إنَّ ما يتحكم في مصادر القوة في أي من المجتمعات المتطورة إنما هو الإقتصاد وليس القدرة السياسية أو القدرة العسكرية.
إن الإقتصاد هو الذي حتَّم الإجتماع. فبرأي الكثير من العلماء، تَطَوَّرَ الإنسانُ من الصيد في الغابات ومحاربة الوحوش إلى المسكن. والذي جلب المسكن هو الزراعة التي بدأت أكثر من عشرة آلاف سنة. المسكن أدى إلى التجمع، والتجمع يحتاج إلى أرض وإلى بيئة تحميه ويكون قادراً على حمايتها والتفاعل من ضمنها.
إذن، المجتمعات تتكون بسبب الحاجة الإقتصادية، والتجمع يتطلب تواصلاً بين الناس. وأول وسيلة إتصال للإنسان كانت الكتابة. وبظهور الكتابة ابتدأ التاريخ. فالزراعة حتَّمَتْ السكن، وكلاهما حتَّما وجود الأرض: “الأرضُ شرطٌ أوَّليٌ للحياة عموماً”.( سعاده، “الآثار الكاملة”. جزء 3، صفحة 29). والإجتماع البشري، يقول سعاده، يُقسم إلى نوعين كلاهما مؤسسان على الإقتصاد:
النوع الأول يُدعى الإجتماع البدائي ورابطته الإقتصادية الإجتماعية هي رابطة الدم، في هذا النوع تقع الشعوب والقبائل التي هي في بداوة أو بربرية.
النوع الثاني هو الإجتماع الراقي ورابطته الإقتصادية الإجتماعية مستمدة من حاجات الجماعة الحيوية للإرتقاء والتقدم بصرف النظر عن الدم ونوع السلالة، وهذا هو الإجتماع الحضاري.
لقد تجاهلت القيادات السياسية هذه الحقائق عن الضرورات الإقتصادية للإجتماع، والدور الحيوي للإقتصاد في الإرتقاء والتقدم، وضرورة إيجاد لغة للتواصل مع القاعدة الحزبية لفهم حاجاتها الإقتصادية. ولم يكن هناك مسعى أو لغة لِتَبَلوُرِ هذه الضرورات، لا بل أن هذه القيادات أربكت الجسم الحزبي وضعضعته وأهلكته. لقد ظلت هذه القيادات تجتر الشعارات السياسية وهدفها الوحيد الوصول إلى السلطة بأسرع وقت وأقصر طريق وأية وسيلة، بدلاً من قيادة ورشة بناء المجتمع ببناء دولة الحركة السورية القومية الإجتماعية. وبفعلها ذلك شرَّدت كثيراً من الطاقات التي كنّا بحاجة لها وغرَّبتها. لقد هرمت هذه القيادات وركنَتْ وسكنتْ… وآن لها أن ترحل.