كشخص لا شتاء لديه
كبنت مخيم، وأي مخيم هو مخيم البقعة، مخيم مغلق على ذاته، بنيته التحتية مهترئة، والطموح فيه يتعلق بأن يفرجها الله على الفرد منا فيتعلم إن كان له نصيب في ذلك، أو يمتهن مهنة تعينه على ما تبقى له من العمر ببقيته غير المفهومة إلى أين قد تصل خلالها. قد يبدو المشهد بأنه يخلو من السياسة، وهذه خديعة المخيم، فالمخيم يسعى بأن يكون مركز الكون في كل شيء. لذا أورثنا كل ما يلزم لرفض الرومانسيات الاعتيادية للبشر، رومانسية الشتاء مثلاً، هي ليست ضمن أولويات المشاعر. فقط نريد الشتاء كي يأتي الماء ويخضر الزرع، حتى نستطيع أن نشتري خضرة بسعر يناسب الجيب المثقوبة سلفاً، والفاكهة بموسمها المعهود. ونحن أهل الكَلَمَنْتينا حصرًا، فالبقية هي طلّات للمرضى بشكل كبير، وكثيرًا ما كنت أتمنى المرض الحاد شتاءً لعل أحدهم يأتي بطلّة تحمل الموز أو الَتفاح إلى بيتنا.
عدا ذلك فالشتاء عبّارة تفيض بالمياه والقاذورات، وقد تسحب أغلى ما نملك من بين أقدامنا، وضمنيًا جميعنا فقدنا شيئًا في هذه العبّارات. أنا فقدت فردة حذاء صلّيت لأجل الحصول عليه عامًا كاملاً، فلما حصلت عليه، أخذ سبيله إلى العبّارة الملعونة. وقد اجتهدت أيما اجتهاد في محاولة إنقاذ حلمي من بين براثن المياه السريعة، حتى كدت ألحق به لولا بنات الصف اللواتي حاولن الحفاظ على حلمي، إلا أنهن وبقرار مصيري سيرتد عليهن لاحقًا، آثرن الحفاظ عليّ بدل الحلم.
الشتاء في ذاكرتنا مُعلّمة براتب مرتفع ترتدي الملابس الدافئة، وطلاب يلتصقون ببعضهم البعض ويرتجفون بسبب الغرفة الصفية معدومة الأخلاق. أي والله كانت الغرفة معدومة الأخلاق تمامًا، تفيض حرًا في الصيف، وتصطك بردًا في الشتاء. والمعلمة أقل أخلاقية من الغرفة الصفية، لم تكن تسمح لنا بإغلاق منافذ الهواء، فالريحة “بتكتل”! بالطبع فنحن اثنان وخمسون طالبة على أقل تقدير، في مساحة محدودة وشبابيك بالأصل ملتعن فاطس أبوها، التشققات فيها بحجم كارثة الباب المشروع صيفًا وشتاءً. لكن لا أخلاقية المعلمة لم تكن تكمن في فتحها باب الصف ليصفقنا الهواء “رايح جاي”، بل بتلك الجاكيت المبهرة، وحركتها الواثقة داخلها. كانت تظهر كشخص لا شتاء لديه. مجرد النظر إليها كان يبعث في داخلي الحقد والحلم. حقد على جسدها الدافئ وقلة تضامنها معنا، وحلم بأنني لا بد سأرتدي يومًا ما يجعلني أشعر بثقتها في الشتاء، جزم بلاستيك واجبة علينا حتى لا نخسر بنطلون الجينز الوحيد في أقل من سنة، فهو متعدد الأغراض، رداء المدرسة، ورداء الطشة على عمان، ورداء المناسبات الاجتماعية، الفرح والترح في الحارة. هو زيّ لكل الأوقات، صيفًا وشتاءً، ومن الهام أن يتم الحفاظ عليه شتاءً بواسطة تلك الجزم الملونة البلاستيكية التي ما إن ينتهي الشتاء، حتى تكون أقدامنا قد تبربقت ونكحتت بما يناسب حجم اتساع الجزمة البلاستيك.
في الشتاء كان الحلم بأن يكون هناك صوبة تستطيع أن تجلب دفئ الشمس إلى الغرفة التي نسكنها. في العموم لم يكن هناك بيوت معقودة بالكامل، فقط المباسيط هم من يعقدون دورهم، أما البقية فالحوش واجب قومي، والغرفة تحتوي كل أفراد البيت شتاءً، والصوبة تفشل تمامًا في أن تفرض سطوتها على هذه الغرفة، حتى لو كانت فوجيكا يابانية أصلية. جميعنا كانت لديه تلك الشقوق ملعونة الحرسة التي تحرم عليك الشعور بالدفء ولو عن طريق الصدفة.
تذكرت.. كبنت مخيم فقدت حلم السنة كاملاً في الشتاء، ولم أستطع اللحاق بهذا الحلم. أنا لا أحب الشتاء، فقط أقبل به كي يكون هناك خضرة نستطيعها شراءً، وكلمنتينا على عادتنا الدهرية.
والغرفة تحتوي كل أفراد البيت شتاءً، والصوبة تفشل تمامًا في أن تفرض سطوتها على هذه الغرفة، حتى لو كانت فوجيكا يابانية أصلية. جميعنا كانت لديه تلك الشقوق ملعونة الحرسة التي تحرم عليك الشعور بالدفء ولو عن طريق الصدفة.
مفرح أن أجدك هنا رسملت.. تحياتي لك صديقي.