الحربُ تترك بصماتها على الفنون التشكيلية

image_pdfimage_print

أسامة كرحوت

أكثر من عشر سنوات من الحرب، كان لها كبيرُ الأثر على جميع أنواع الفنون السورية. في الشعر والرواية والرسم والنحت والموسيقا، هناك بصمات واضحة للحرب من حيث الشكل والمضمون. هناك أسئلة طفت على السطح لم تكن مثار نقاش، كما حدث تغير في الأساليب والتقنيات التي راح الفنانون يعبرن من خلالها عن رؤاهم ومشاعرهم وانفعالاتهم بالأحداث. هل تبدو الحرب فرصة لإعادة الحسابات تجاه القضايا المؤجلة؟ وكيف يمكن للفنون أن تعكس كل ذلك بشكل إيجابي يترك أثره على المجتمع؟ رغم هدوء الحرب في مختلف المناطق، إلا أن آثارها حاضرة بقوة في الأعمال الفنية. في هذا التحقيق، نحاول أن نقتفي أثر الحرب على الأعمال الفنية في مجال الرسم والنحت مع مجموعة من الفنانين السوريين الذين كانوا على تماس مباشر مع الأحداث:

نبيل السمان:

التجربة كانت قاسية بالنسبة للفنانين الذين لم يغادروا الوطن. فهم كانوا على اتصال مباشر مع الأحداث وفي مواجهة دائمة مع الخطر. في البداية كان هناك شيء يشبه الصدمة، لكن سرعان ما ظهرت المنجزات وراح الفنانون يقدمون رؤيتهم عبر الأعمال والأساليب المتنوعة. لقد شاركت جميع الفنون في هذه العملية، فحضرت الدراما والشعر والرواية مثلما هو حال الفنون التشكيلية، حيث لم يكن هناك ظروف مناسبة للعمل، لكننا حصلنا على إنتاج مبدع يستحق الوقوف والقراءة النقدية بهدوء. السوريون كان لديهم القدرة على التجدّد والتقاط الأنفاس والانطلاق من جديد مثل طائر الفينيق تمامًا. لقد أثارت الحرب أسئلة كبرى من الناحية الفكرية، كعلاقة الإنسان مع الأرض ومفهوم الانتماء والوحدة الاجتماعية والموقف من الموت. كل هذه العناوين حضرت في الأعمال الفنية وناقشها الفنانون بناء على خصوصية كل منهم وأسلوب نظرته وانفعاله بالأحداث. ما نطلبه اليوم هو وجود حركة نقدية نشطة تحاول تفسير وتحليل هذه المنجزات الفنية التي ولدت أثناء الحرب لاكتشاف أسئلتها وجمالياتها والأبواب الجديدة التي فتحتها أمام الحركة الفنية السورية بشكل عام.

 

آية شحادة:

الحرب أثرت على كل شيء. يمكننا أن نكتشفها في الألوان الباردة التي راحت تسيطر على اللوحة، تلك الألوان تشير إلى مدى الانكسار والحزن والمعاناة الذي يعصف في روح الفنان. خلال أكثر من عشر سنوات من الحرب، نشأ ما يمكن أن أسميه بألوان الوحشة، وهي كانت من أبرز الآثار التي تشير إلى هول الصدمة والمعاناة والفقد. إلى جانب الألوان هناك ولادة مواضيع متعلقة بالحرب لم تكن معروفة في السابق، فالفنون جميعها طرقت أبوابًا مفاجئة فيها من العمق الفلسفي الشيء الكثير، وقد اختلف هذا التناول بين فنان وآخر تبعًا لخصوصية التجربة ورؤية الفنان الشخصية ومدى حدة الانفعال. من المتوقع أن تختمر التجارب الفنية بشكل أكبر بحيث تأخد وقتها من النضوج والتفكير حتى تتضح آثار الحرب بشكل جيد. الأحداث كانت خطيرة وتثير الكثير من الأفكار والمشاعر، وبالتالي فإن التغييرات المتوقعة كبيرة جدًا.

 

موفّق مخّول:

الإجابة ليست سهلة على هذا السؤال. فالحرب أو الحزن يعيش داخل النفس والروح. تشعر تلقائيًا أن شيئًا جديدًا بدأ يخرج من داخلك، سواء بفنّك أو ثقافتك أو حتى بروحك. لا تستطيع أن تترجم هذه الحالة مباشرة، لكنها أصبحت تعيش داخل كيانك الإنساني والفني. نجد أن اللوحات أحيانًا تميل نحو الحزن والاتكاء على اللون الأسود. تميل نحو شيء مجهولٍ لا تعلم ما هو بالضبط. إنه الحزن الذي كبر داخل الإنسان إلى جانب الخوف. الحرب تخلق بداخلك الإبداع فالحرب العالمية الأولى أخرجت أهم الفنانين والمبدعين في العالم. الحرب بقدر ما فيها من حزن وخوف، بقدر ما تخلق شيئًا من الإبداع يحرّك الكيان والوجدان والضمير. لكن تبقى القضية متعلقة بكيفية استثمارها وكيف يمكن للفنان أن يوظفها. هناك فنانون استطاعوا أن يفعلوا ذلك بطريقة ما، وهناك فنانون تأثروا بها، لكنهم لم يستطيعوا ترجمتها حيث حاولوا الهروب من المعاناة واعتبروها شيئًا عابرًا، واعتبروا أنفسهم غير معنيين بها.

القليل من الفنانين استطاعوا أن يترجموا الحرب في أعمالهم. هناك فنانون صنعت الحرب منهم مبدعين، وفنانين آخرون حطمتهم الحرب وقيّدتهم عن العمل. كل شخص له نفسية ومصداقية وعلاقة مختلفة بينه وبين روحه. لذلك هناك من عرف أن يستغل الحرب، فاستطاع أن يصنع لوحةً صحيحة، وهناك من لم يستغلها فبقي كما هو لم يتغير. التغيير لا بد منه عند الفنان، فالتغيير النمطي باللوحة الفنية أو بالفكر ضروري. أحيانًا تمر مناسبات حزينة ومؤلمة في حياتنا، تصنع منّا شيئًا جديدًا، لأن الفرح لا يصنع إبداعًا. فالفرح هو عراضة لا أكثر. الحزن هو الذي يصنع الفلسفة والإبداع والفكر. الحزن هو الذي يصنع، أمّا الفرح فهو حالة يعيشها الجميع بينما الحزن تجده مختصًا بك، وأحيانًا يكون صديقك الداخلي، أمّا الفرح فيشاركه معك الجميع وأحيانًا يشاركه معك أشخاص، لا علاقة لهم بك لكنهم يحتاجون لأن يفرحوا. الحزن فقط هو الذي يصنع، إن عرفت كيف توظفه بالشكل الصحيح. الآن، الجميع يعلم وضعنا، نحن نعيش حالة يومية من الحزن والمعاناة، فآثار الحرب موجودة على حياتنا وثقافتنا وفكرنا وليس فقط على لوحاتنا. الفن التشكيلي في الحرب كان له دور كبير ومهم جدًا، ولم يكن له موقف الصامت، بالعكس تماماً كان له موقف ايجابي وجميل وإبداعي، وأساتذة الفن التشكيلي استمروا بعملهم أثناء الحرب ليصنعوا شيئًا جميلاً.

عبد الله أبو عسلي:

بالنسبة إلي، الحرب سببت لي حالة من المزاجية، بفعل الأحداث التي كانت تدور. أصبحتُ بحالة قلق متزايدة تجاه العمل الفني وتجاه المحيط الذي أعيش فيه لذلك فمن الأكيد أن ينعكس ذلك على العمل الفني. لذلك أصبحت الألوان مختلفة عمّا كانت عليه سابقاً قبل الحرب. لم يكن للموضوع الذي أتناوله (الطبيعة) تأثير سلبي، فلم يكن عندي تلك الحالة الإنسانية التي ربما انعكست على أعمال بقية الفنانين، وكان فيها تأثيرات مهمة على عملهم الفني من خلال المحيط الذي يعيشون فيه. تأثيرات عليّ خلقت حالة من المزاجية انعكست على جزء معين من اللون فأصبح اللون أكثر كمودًا وحرقة تجاه المشهد الذي أراه من حولي. وإن تكلمنا عن عملي الفني، فهو أصبح كإعادة ترتيب للمشهد. سابقًا كان هناك أناقة أكثر من اليوم، وهذا ربما يكون سيفًا ذا حدّين في العمل الفني. لكنني أحاول بشكل أو آخر أن أعمل على تجربة جديدة.

 

حسام نصرة:

لا أستطيع أن أقول إن الفنانين قدوة، لكن لدي شعور بالمسؤولية يدفعني لأن أقدم شيئًا جميلاً ومريحًا للمجتمع. أثر الحرب يظهر في تكتيك الأعمال ومرامي الأفكار. فبالرغم من أنني حاولت ألّا أتأثّر بالحرب، إلّا أنها تركت بصمتها عليّ لا شعوريًا. الحرب خلقت في أعمالي نوعًا من القهر والمعاناة التي يمكن للناقد أو المتلقي ملاحظتها. كنت أنحت أعمالي براحة وهدوء أكثر في السابق. الآن أشعر أنّه هناك أشياء عليّ أن أسقطها على عملي الفني. هناك أشياء أدرسها قبل البدء بالعمل، المهم في النهاية أن يكون العمل مليئًا بالإحساس والروح. لاشك أن الحرب ولدت الكثير من الأسئلة والانفعالات الجديدة التي لم نجربها من قبل، وهو أمر سيترك أثره على نتاجنا الفني في جميع المجالات وليس في التشكيل وحسب.

أثر الحرب يظهر في الأدب والموسيقا والمسرح والسينما مثلما هو الحال في الفنون التشكيلية. بالنسبة إلي، صار العمل النحتي أكثر مسؤولية ونضجًا ويحاول أن يتناول قضايا جوهرية تتصل بما أثارته الحرب من قضايا ومشاهدات لم تكن مألوفة في السابق.

هلا الجاري:

تأثير الحرب طال جميع الناس وليس الفنانين فقط. الفنان معني بقضايا ممكن أن تلفت انتباهه أكثر من سواه. بالنسبة إلي، أتناول المواضيع التي تعبّر عن مكنوناتي الداخلية وأحاول تفريغها في لوحاتي. ربما اختلفت أعمالي قليلاً بعد الحرب وزادت حساسيتها أكثر، لأن الوضع العام انعكس عليها فلم يعد الموضوع فرديًا. أصبحت أشعر أن هناك شيئًا مشتركًا لم يعد خاصًا بي فقط. أصبحت أنتبه إلى أن هذه حالة عامة وموجودة. بالتأكيد للحرب أثر سلبي، لكن بالمقابل تجعلك تختبر مشاعر لم تختبرها من قبل. يمكن للإنسان أن يوظف هذه الحالة بطريقة تخدمه في أي مجال كان، سواء بالفن أم غيره. لابد من الاستفادة من هذه المشاعر التي نعيشها لأول مرة. الحرب أتت بمشاعر وظروف مختلفة ولابد من الاستفادة منها في العمل الفني. حتى على صعيد الأفكار وابتكار الحلول الابداعية، كان للحرب دورها في تحفيز الأعمال الفنية وهذا ما نعمل عليه جميعًا.

 

سنا الأتاسي:

أصبحت الأعمال الفنية تتكلم عن الحزن والبؤس والدمار والتشرد.. لأننا بالفعل نعيش الآن هذه الحالة. أصبح هناك حالة من السوداوية بالإضافة إلى أن وضع الفنان السوري أصبح صعبًا جدًا نتيجة الحصار والحرب والكورونا مؤخراً. كل ذلك أدى إلى أن يصبح وضع الفنانين السوريين محرجًا بسبب عدم وجود المقتنين للأعمال الفنية أولاً، وأيضاً بسبب عدم تنقلهم من بلد لآخر بسبب صعوبة الحصول على فيزا للسفر.

أعتقد يلزمنا الكثير من الوقت حتى  تتضح الصورة جيدًا على الصعيد الإبداعي، فما مررنا به لم يكن بالأمر السهل والعادي أبدًا، ففي جميع الحروب العالمية التي حصلت في مختلف المناطق، كان للفنون دورها أثناء وبعد الحرب وما قبلها أيضًا.

في هذا العدد<< السوريون في مواجهة الأمراض النفسية!المصور المغترب بهجت إسكندر: الصورة ذاكرة الأمة ووثيقتها التي لا تفنى >>
5 1 vote
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments