كسروا جناحيه لأنه كان يغرد خارج السرب الطائفي-فارس بدر
يتساءل المرء عاما بعد عام، في ذكرى استشهاد مؤسس الحركة السورية القومية الاجتماعية أنطون سعادة:
لماذا يغتال النظام اللبناني شخصا بحجم أنطون سعادة؟
ما هي الأسباب الموجبة؟ ما هي الدوافع؟ ما هي هوية القوى السياسية التي وقفت وراء عملية الاغتيال؟
ماذا عن القوى الإقليمية والدولية التي واكبت وباركت واحدا من أسرع الأحكام في تاريخ القضاء، لا اللبناني فقط بل العربي والعالمي؟
في الوقائع:
الساعة العاشرة من مساء السادس من شهر تموز عام 1949، أنطون سعادة يدخل القصر الرئاسي في دمشق للاجتماع بالرئيس السوري حسني الزعيم بناء على موعد سابق.
لا حرس شخصي ولا مرافقين، فقط كان هناك مدير الأمن العام السوري إبراهيم الحسيني.
مجرد عبور سعادة للمدخل الرئيسي وجد نفسه مطوقا باثني عشر جنديا من حرس القصر أحاطوا به ليفصلوه عن عالم نذر نفسه لتغيير ملامحه.
لم ينطق أحد بكلمة واحدة. لم يكن هناك حاجة لذلك. الرسالة كانت واضحة كالشمس، وأول من التقطها كان سعاده نفسه، حيث سارع إلى القول بعد ان ارتسمت على وجهه ضحكة باردة: “وصلت الرسالة”.
المشهد كما وصفه الدكتور عادل بشارة استاذ مادة التاريخ في جامعة ملبورن ” اوستراليا” في كتابه المنشور باللغة الإنكليزية تحت عنوان:
Outright assassination ” the trial and execution of Antoun Sa’adeh,1949″.
“المشهد كان يمكن ان يكون نسخة عن فيلم سينمائي من إنتاج هوليوود، باستثناء الحوار الذي كان باللغة العربية”.
“المهمة أنجزت”: قالها الحسيني مغادرا، ليدخل بعدها رئيس الوزراء محسن البرازي من باب آخر موجها كلامه لانطون سعاده قائلا: “لك حساب مع لبنان! اذهب لتصفيته”.
بهذه الكلمات قدم محسن البرازي الأرضية الأمنية لما عرف فيما بعد بـ “قضية أنطون سعاده”.
يجمع الباحثون بأنه لا يوجد في تاريخ القضاء اللبناني أو العربي أي شبه لمحاكمة أنطون سعاده، إن في سرعتها أو في سريتها. بدأت الساعة الخامسة من صباح السابع من تموز عام 1949، وانتهت الساعة الثامنة من مساء اليوم عينه.
وقد حصل كل ذلك وفقا للجدول التالي:
– التحقيقات: 5:00 فجرا – 12:00 ظهرا
– بدء المحاكمة: 12:00 ظهرا
– الاستجواب: 12:00- 1:30 بعد الظهر
– مداخلة المدعي العام: 1:30 – 3:30 بعد الظهر
– رفع الجلسة: خمس دقائق
– محامي الدفاع: 3:35 – 3:40
– أنطون سعادة: 3:40 – 5:10 بعد الظهر
– التشاور: 5:15 ـ 7:30 بعد الظهر
– إصدار الحكم: 7:30 ـ 8:30 بعد الظهر
– الإعدام: 2:50 صباح الثامن من تموز
وهكذا اقترف النظام الطائفي في لبنان واحدة من أبشع جرائمه وذلك لسببين رئيسيين:
الأول: كونه الأداة التنفيذية لخطة مدروسة حبكت خيوطها أجهزة الاستخبارات الفرنسية والإنكليزية والإسرائيلية (راجع دراسة مجلة “فكر” العدد 37 تموز 2000، للكاتب ناجي زيدان “من قتل أنطون سعاده؟ الدور الإسرائيلي”.)
الثاني: تسخيره للقضاء اللبناني لتنفيذ مسرحية من هذا النوع، لإعطاء قرار الإعدام المحكوم بخلفيات سياسية بحتة البعد القانوني المطلوب، بحيث يتحول الفعل الجرمي نتاجا لأجهزة القضاء المفترض فيها ان تقوم بوظيفتها الرئيسية الا وهي تحقيق العدالة.
لقد اضاء الباحثون على الكثير من الجوانب الغامضة التي أحاطت بهذا الملف الذي شكل ولا يزال وصمة عار على جبين النظام الطائفي اللبناني، هذا النظام الذي تمادى في حماية المؤسسة الطائفية ودافع بشراسة عن مواقعها وامتيازاتها ومصالحها. ولعل كتاب الدكتور عادل بشارة المشار اليه سابقا من اهم المراجع الموثقة على الإطلاق نظرا لثقافة المؤلف التاريخية من جهة، ولكثافة المراجع السياسية والقضائية والتاريخية التي استند إليها في بحثه من جهة أخرى.
ولعل القاسم المشترك التي أجمعت عليه تلك الكتابات على تنوع مصادرها يتلخص في اعتبار ان استشهاد أنطون سعادة جاء ثمنا لمشروعه القومي الوحدوي، ولادراكه العميق لمخاطر التجزئة القومية التي رسمتها اتفاقية سايكس- بيكو عام 1917، تمهيدا للمشروع الصهيوني الذي تمثل في اغتصاب فلسطين عام 1948 وإنشاء دولة إسرائيل على جزء من التراب القومي.
غير ان اهم إنجازاته – في اعتقادي – هو مشروعه العلماني لفصل الدين عن الدولة.
لقد وعى سعادة باكرا حجم المخاطر المترتبة على الولاء الطائفي تحديدا، لانه كان يدرك ان هذا الولاء سيرفع الجدران عالية أمام الوعي الوطني كمقدمة ضرورية للانتماء القومي. لذلك رفع سعاده سقف المواجهة مع الطبقة السياسية اللبنانية بعد عودته إلى الوطن عام 1947 وتحديدا في خطاب الأول من آذار ليبدأ معركته الفعلية مع المؤسسة الطائفية التي اعتبرت في مشروعه القومي تهديدا فعليا للمعاقل التي تحصنت وتخندقت فيها قبل “الاستقلال” وبعده.
وهكذا سجلت الطبقة السياسية اللبنانية “انتصارا باهرا” ضد فكر أنطون سعاده وعقيدته ومشروعه، واستطاعت بفعل جبروتها وتجذرها ان تسدد ضربة موجعة ومؤلمة ليس فقط للحركة السورية القومية الاجتماعية وأنصارها ومؤيديها، بل لكافة القوى الوطنية والديمقراطية والعلمانية التي تؤمن وتحلم ببناء وطن تنتمي اليه فقط، لا إلى قطعانه الطائفية التي تتعايش في “شراكة وهمية” يتقاسمها “ميثاق وطني”
لا احترام فيه للمواثيق ولا التزام فيه بالوطنية. ولقد أثبتت المراحل اللاحقة ان هذا “الميثاق” حمل لأهله حروبا دورية وزعت شظاياها على كافة الملل والنحل ولا تزال ندوبها على وجوه اللبنانيين وطنا ومغتربا.
أبى أنطون سعادة ان يكون جزءا من منظومة القيم الطائفية، ورفض بإصرار الدعوات المتكررة للانضمام إلى جوقة المحاصصة الطائفية والتمثيل الطائفي، تلك الجوقة التي لا تزال ممسكة برقاب العباد وتقود بهم إلى المقصلة الطائفية حتى تاريخ كتابة هذه السطور، حيث يعيش لبنان والمنطقة معه ليلا كالحا ينذر بأوخم العواقب.
لقد اغتالوك لانك اصريت على التغريد خارج سربهم، ورفضت الجلوس معهم حول الطبق الطائفي ينهشون من أجساد شعبهم وليمة بعد وليمة…!!
فمتى سيستيقظ هذا الشعب ليبني وحدته ويحقن دماءه ويعانق مستقبله؟ لعله يعيد إليك بعضا من الاعتبار الذي تستحق وقد بذلت أغلى ما تملك في صباح الثامن من تموز عام 1949 دفاعا عن حقنا جميعا بالانتماء إلى وطن تفصلنا عنه الأسلاك الطائفية الشائكة….
السؤال الأهم الذي يجب أن يُسأل، هو أين كان السوريون القوميون الإجتماعيون ما بين الساعة العاشرة من مساء يوم السادس من تموز إلى الساعة 2:50 من صباح الثامن من تموز 1949؟