فاسد، أفسد، أشد فساداً!
كيفما وجّهنا أفكارنا وأنظارنا، تصدمنا أنماط متطورة من المفاسد والفاسدين: في السياسة كما في التجارة، في الثقافة كما في الإعلام، في العلاقات العامة كما في العلاقات الخاصة. منظومة “رفيعة” المستوى من الممارسات الخارجة عن الحد الأدنى من المنظومات الأخلاقية والمناقبية التي نشأنا عليها، أو التي قرأنا عنها في أدبيات النهضويين الفعليين
أقول قولي هذا، ويشاركني فيه كثيرون، لأن مقياس تقييم الممارسات والمواقف بات جزءاً من عالم سريالي أشبه ما يكون بعالم إفتراضي لا يمت إلى قيمنا الحضارية بصلة. فالفساد أصبح سمة عامة، منتشرة في معظم الدوائر وفي كل الطبقات الاجتماعية. وبدلاً من أن تكون قيم النهضة هي بوصلة الحكم على الممارسات، باتت قيم الانحطاط هي المقياس الأول والأخير لدى الغالبية العظمى من شرائح المجتمع.
لا يحضرني الآن النص الحرفي لعبارة جميلة أطلقها الأديب القومي الاجتماعي الراحل سعيد تقي الدين في أحد كتبه. لكنني أتذكر ما معناه: لا يوجد نصف لص أو ربع محتال أو ثلث داعر أو خُمس عاهرة! أو كما قال الشاعر الراحل نزار قباني: لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار. ومتابعة للسياق نفسه نقول: لا يوجد فاسد وطني وفاسد خائن، ولا يوجد فاسد مقاوم وفاسد عميل. القيم إما أبيض أو أسود، ولا مساحة رمادية أو غائمة بينهما.
قيم المناقب تكشف قيم الفساد. أو على الأقل هذا ما نتوقعه من الذين تفتحت عقولهم على مبادئ التنوير والنهوض. بوصلة الأخلاق الراقية تشكل درعاً تقي حامليها من السقوط في هوة المفاسد. غير أن الواقع الاجتماعي الراهن في بلادنا حوّل الفساد من مذمّة إلى “ذكاء وفهلوة وشطارة”. تقول لمسؤول حزبي، على سبيل المثال: “كيف تسمحون لبعض عناصركم بإساءة التصرف بأموال صندوق المهجرين؟” فيرد بكل برودة وصفاقة: “لكن عناصر المنظمة الأخرى يغرفون من صندوق الإعمار أضعاف ما يحصل عليه عناصرنا”!
يدور حديث عام في مجموع “مثقف” متناولاً صفقات يعقدها مسؤولون معنيون، وتلوح منها روائح الرشاوى والنهب المنظم. فينتفض أحد الحضور، لا لينفي أو يبرر بل ليدافع عن أولئك المسؤولين لمجرد أنهم “من طائفته”. وأخطر ما في دفاع هذا الشخص أنه يعتمد على كشف مفاسد مسؤولين آخرين من “الطائفة الأخرى”! بالنسبة إليه، وإلى عديدين من أمثاله، فإن فساد “جماعته” يبرره فساد “الجماعة الأخرى”… وهكذا تضيع بوصلة المناقب، فلا تعود هي مقياس الحكم على الممارسات العامة.
المنطق السائد الآن في معظم مجالات حياتنا الاجتماعية هو التالي: إذا لم ننهب نحن، فسينهب الآخرون. وإذا لم نسكت على مفاسد عناصرنا، فسيذهبون إلى من يشرّع لهم أبواب الفساد على مصاريعها. لم تعد المقارنة تُعقد بين قيم مناقبية سامية وقيم فاسدة منحطة، وإنما بين من هو فاسد ومن هو أفسد ومن هو أشد فساداً. والغلبة في النهاية لذلك “الشاطر” الذي يبذ أقرانه في جني أقصى المنافع على حساب مجتمع غابت عن بصره وبصيرته قيم الحق والخير والجمال.
وبدلاً من أن تكون قيم النهضة هي بوصلة الحكم على الممارسات، باتت قيم الانحطاط هي المقياس الأول والأخير لدى الغالبية العظمى من شرائح المجتمع.
إذا لم ننهب نحن، فسينهب الآخرون.
تحليل ممتاز حضرة الرفيق أصفهاني
تحيا سوريا