عملُ الحِداد(*) وفعلُ الحَيَاة
الفينيق / حزيران (يونيو) 2017 / قوميات / الفكر والعقيدة
تمهيد:
كتبتُ هذا المقال في مطلع أيار الماضي بعد قراءة مقال الرفيق أسامة المهتار الذي صدر في العدد السابق لمجلة “الفينيق” بعنوان “تجاوز مرحلة الأحزان”، وذلك قبل حديث الشاعر أدونيس الذي أكد فيه إيمانه بسعاده فيما هو يعلن موت حزبه. وعلى ما يبدو أن عدداً كبيراً من القوميين يفكر في هذا الموضوع، والدليل هو النقاش الحاد الذي انطلق بعد حديث أدونيس آنف الذكر. نأمل أن يكون هذا المقال مساهمة هادئة في موضوع حار !
يتفق علماء النفس على تحديد مراحل “عمل الحِداد” الذي يصيب أي فرد نتيجة فقدان شيء أو شخص أو مؤسسة كانت تعني له الكثير في حياته. فهو أولاً يُصاب بالإنكار نتيجة صدمة الفقدان، فيستمر بتصرفاته وواجباته وكأن شيئاً لم يحصل. ثم يعاني من حالة أسى ومرارة تتحول مع الوقت إلى غضب نتيجة وعيه للإجحاف الذي لحق به بسبب هذا الفقدان. وبعدها يمكن أن يعاني من السوداوية أو الإكتئاب المزمن. وهكذا يستمر بالإنتقال من حالة إلى أخرى لا حول له ولا قوة، فيصبح أسير هذه الحالات إلى أن يبدأ في استيعاب ما حصل والإتكال على النفس لتنظيم أموره وبدء مرحلة البناء النفسي الذي سيخرجه من عمل الحداد إلى فعل الحياة.
لماذا نتكلم اليوم عن كل هذا؟ ماذا فقدنا من عزيز وغالي وأساسي بالنسبة إلينا؟
يقول سعاده في محاضرته الأولى في الندوة الثقافية بتاريخ 7 كانون الثاني سنة 1948 واصفاً وضعية الحزب آنذاك: “النظامية الفكرية والروحية والمناقبية التي كانت العامل الأساسي الأول في نشوء النهضة القومية الاجتماعية وتولُّد هذه الحركة العظيمة الآخذة في تغيير نفسية هذه الأمة و مصيرها، كادت تنعدم في دوائر الحزب العليا بعامل الإهمال، وأصبحت الحركة مهددة بالميعان العقدي والنظامي”.
أما اليوم، فباستطاعتنا الجزم بلا مواربة أن هذه النظامية انعدمت منذ عشرات السنين في دوائر الحزب العليا. وقد وقعت الحركة في الميعان العقدي والنظامي والأخلاقي.
أعتقد أننا فقدنا حزب سعاده! فقدنا هذا الغالي على نفوسنا، ومعظمنا يتراوح بين الحالات المذكورة آنفاً.
معظم القوميين الاجتماعيين ليس لهم صلة نظامية مع المؤسسات المتلقّبة باسم الحزب السوري القومي الاجتماعي (ما علينا إلا مقارنة الأعداد الضئيلة لمن يشارك في الانتخابات الحزبية والإدارات المحلية من منفذيات ومديريات وما شابه ذلك من جهة، ومجموع القوميين من جهةٍ أخرى!) وحالاتهم النفسية تتراوح ما بين الغضب والمرارة والاكتئاب، بالرغم من بقاء الصلة العاطفية. وهذا أمر طبيعي وله ترجمته على الأرض، خصوصاً في أوقات المحن.
أمّا القوميون “المنتظمون” في المؤسسات المذكورة، فهم يتراوحون ما بين حالتي الإنكار والغضب. (هذا إذا أسقطنا من ذهننا المنحرفين والمستفيدين )!!
أليس من واجبنا العودة إلى صفاء الذهن وصدق التعبير وأمانة الوصف ودقَّة التشخيص، وهي خصائص إمتاز بها معلمنا، وأن نطبِّقها في حياتنا؟ فإذا طبقناها نجد أنفسنا أمام أمر من أمرين لا ثالث لهما :
1 ـ إما أن إحدى المنظمات المتلقبة باسم الحزب السوري القومي الاجتماعي هي استمرار لحزب سعاده، والذي يقول ذلك مسؤول تجاه المجتمع و تجاه سعاده. فهذا اسم يستدعي واجباً تجاهه، واجب الوفاء لمدرسته الفكرية والمناقبية والدستورية،
2 ـ أو أن هذه المؤسسات مع كل ما لحقها من تشويه للنظام والدستور، أصبحت تشكل “حالات أمنية سياسية” أو “تشكيلات سياسية” كما كان يسميها الزعيم. فهي ليست حزب سعاده، وهذا أمر أصبح جلياً وواضحاً. وبالتالي علينا الإقرار مع الرفقاء بكل جرأة وصدق وشفافية (مهما كبر غضبنا وآلامنا ومرارتنا…) بعدم صلاحيتها لحمل أعباء القضية التي نشأت من أجلها، وبالتالي فهي “منتحلة صفة”.
نحن، كقوميين اجتماعيين، تعاقدنا مع سعاده، ولا يمكننا أن نستمر (بحكم النظام أو القناعة أو غيرها من الأعذار) في حالة الإنكار وطمس الحقائق في ما يخص وضعية المؤسسات الحزبية. ولا يمكننا أيضاً أن نستمر في حالة الغضب أو الأسى التي تتبع حالة الإنكار عند فقدان أي عزيز أو غالٍ في حياة الفرد.
من الطبيعي أن نكون مسكونين بعواطف وميول وأمنيات. من الطبيعي أن لا نتقبّل بسهولة موت من نحب، أو السقوط الأخلاقي لمن رافقنا كل هذه السنين. ولكن علينا الاستيقاظ من هذا الحلم الجميل المخدِّر، من “إمكانية التغيير من الداخل وتصحيح المسار و… و…” والذي هو في الحقيقة كابوس نتحمّله يومياً ولن يؤدي إلى أي عمل جليل، بل إلى مزيد من تضييع الوقت والإمكانات والطاقات والأرواح البشرية دون خدمة القضية التي نشأ الحزب من أجلها.
فالهدف من أي عمل هو خدمة سورية وليس خدمة المنظمات المتلقبة باسم الحزب السوري القومي الاجتماعي.
فماذا يبقى لنا من خيار؟
سؤال مطروح على كل من تعاقد مع سعاده !
ماذا يبقى لنا من خيار عندما تكون المنظمات المتلقبة بإسم الحزب غير صالحة لحمل أعباء القضية وتحقيق غاية الحزب؟
ماذا يبقى لنا من خيار عندما تكون تلك المؤسسات أسيرة تاريخها وأشخاصها، وباتت تشكل حاجزاً دون الوصول إلى غاية الحزب؟
ماذا يبقى لنا من خيار عندما تكون نسبة غير قليلة من المنضمين إلى تلك المؤسسات، للأسف الشديد، لا تتميز عن عامة الشعب؟
ماذا يبقى لنا من خيار عندما لا يزال سعاده بإرثه وسيرته وأعماله هو المحفّز لانتصار القضية، في حين أن المؤسسات التي أخذت على عاتقها تلك القضية أصبحت في الحقيقة العائق أو المعوِّق الذي يمنعنا من تحقيق الغاية والنظرة التي من أجلها نشأ الحزب والتي من دونها لا معنى له؟
يبقى لدينا الخيار الوحيد، لا بل الواجب المقدس، بالإنطلاق من تجربة سعاده التي انتهت سنة 1949 لإعادة التأسيس عليها، مع أخذ العبر والدروس من كل التجارب الإيجابية والسلبية التي تلتها.
فهل لدينا الإرادة والعزيمة للانتهاء من فعل الحِداد والانتقال إلى فعل الحياة؟
أما سمعتم بالأسطورة الكنعانية عن العنقاء أو طائر الفينيق؟
___________________
(*)”عملُ الحِداد” عبارة قلَّما تستعمل في اللغة العربية، وهي تعني باللغة الفرنسية travail de deuil وبالإنجليزية mourning process