“حركة الشعب العامة”
الفينيق / حزيران (يونيو) 2017 / قوميات / في الفكر والعقيدة
تمهيد
وضعنا هذه العبارة بين مزدوجين لأن أنطون سعاده استخدمها بهذه الصيغة أثناء محاكمته الأولى، مطلع سنة 1936، وعيّن أنها “الغاية الأولية” لحزبه السري الذي كانت سلطات الانتداب الفرنسي قد كشفت عنه قبل أشهر قليلة.
نتوقف عند هذه العبارة لعدد من الأسباب. أولاً، كلمة “غاية” تعني انها أمر يخضع للتنفيذ وفق خطة معينة. ثانياً، لأنها حددت وجهة الحزب السوري القومي الاجتماعي في مرحلة نشوئه الأولى، أي بين السنوات 1932 ـ 1938. ثالثاً، لأن إهمال الحزب لهذه الغاية الأولية – واستطراداً لغاية الحزب العامة – هو أحد أسباب التبدد الذي يعاني منه الحزب اليوم. ورابعاً، ما لم يعد الحزب إلى وضع هذه العبارة كغاية أولية له، فإن التبدد سوف يزداد.
عدّة “الساعة الآتية”
في رسالته إلى الجالية السورية في البرازيل بُعيد وفاة والده سنة 1934، وبعد أن استعرض الوضع الدولي وحذر من حرب كونية رآها آتية لا محالة، سأل سعاده: “فماذا أعددنا للساعة الآتية؟” هذا السؤال تحريضي. فسعاده يعرف الجواب، إنه حزبه السري الذي كان قد بلغ من العمر سنتين. إنه يحضّ القارئ على التفكير بهذا السؤال استعداداً لما سيأتي من خطط كانت في ذهنه، ومنها استنهاض المغتربات لدعم حزب القضية السورية. في رأينا أن الحزب كان هو “العدّة” التي أرادها لإعادة الحيوية إلى الأمة السورية لكي تتمكن من مواجهة التحديات الآتية. أحد أدلتنا في ذلك قوله في رسالة إلى إدويك جريديني تاريخها 17 تشرين الثاني: “يجب أن يصير قوياً (الحزب) ليصبح صالحاً للقبض على ناصية الاتجاه القومي، ويمنع الفوضى، وينشر العقيدة القومية التي لا يمكن توحيد القوى القومية بدونها. ولأن القضية يجب أن تحصل على مركز متين قبل أن تداهم العالم حرب جديدة أرى أنها باتت قريبة”.
وقبل الاستطراد نرى أنه من الضروري العودة إلى عبارة لسعاده أضأنا عليها في مقالنا السابق عن إطار إدارة الاستراتيجية حيث يقول: “ولما كنت في المسائل العملية عملياً جداً…” في الواقع أنه إضافة إلى ما يراه كثيرون من أن سعاده كان إنساناً نظرياً، أو فيلسوفاً اجتماعياً، أو مفكراً إنسانياً، أو قائداً ملهِماً، فإنه كان قائداً عملياً، وإدارياً ناجحاً إلى أقصى الحدود. لقد جمع سعاده في شخصه ميزتين نادراً ما تلتقيان ألا وهما: القيادة الملهِمة وحسن الإدارة.
مما سبق نستنتج أن وصول الحزب لأن يكون “غاية الشعب العامة” له أولاً شرط ضروري هو أن “يصبح الحزب قوياً”. ويترتب عنه نتائج عملية محسوسة هي القبض على ناصية الاتجاه القومي، ومنع الفوضى والحصول على مركز متين قبل اندلاع الحرب. والأولى بينها والأهم هي القبض على ناصية الاتجاه. فما هو المقصود من هذه العبارة؟
الاتجاه
تتكرر كلمات الاتجاه وتعيين الاتجاه وتقرير الاتجاه وسواها من المرادفات كثيراً في تراث سعاده. ولهذه الكلمات والعبارات قصد واحد هو تغيير اتجاه الأمة السورية من الموت إلى الحياة، من إرادات أجنبية تقرر مصير سورية إلى تحرر من هذه الإرادات، من قوى جزئية ونزعات فردية تشتت قوى الأمة وتمتص حيويتها إلى وحدة روح تنطلق من مثال أعلى هو ترقية الحياة القومية ووضع مصلحة الأمة فوق كل مصلحة، من فوضى وتجاذب داخليين إلى حركة نظامية تؤدي إلى استقلال الأمة السورية استقلالاً تاماً، من أنظمة عشوائية تُعلّب الشعب في صناديق مذهبية وعرقية إلى نظام جديد يؤمن مصالح الأمة.
ولكن قبل كل هذا، على الحزب أن “يصبح قوياً”. فكيف خطا سعاده في اتجاه بناء هذه القوة ليصبح حزبه بحق حركة الشعب العامة؟ وما هي الخطوات العملية التي سار عليها؟ نأخذ الجواب من رسالته إلى غسان تويني تاريخ 9 تموز، 1946:
“إنّ خطط الحزب السوري القومي الاجتماعي، كما هي في فكر الزعيم وتخطيطه وتوجيهه وعمله، لم ترمِ قط إلى إنشاء كتلة عقائدية متحجرة، بل إلى منظمة عقائدية تفعل إدارة وسياسة وحرباً لتحقيق غايته. ودستور الحزب وتشكيلاته كلها تدل على اتجاهه العملي مع تأمين أساسه العقائدي. ولكن تطبيق هذا التخطيط لم يكن ممكناً بمجرّد إرادة المؤسس المخطط، بل كان متوقفاً على تطور الحركة نحو تهيئة أسباب التطبيق. وهذه التهيئة كانت تقتضي عدة شروط:
- إكتمال مرحلة التأسيس والنمو التي هي مرحلة إرساخ العقيدة واكتساب العناصر الفاعلة على أساسها، وهو أمر لا يمكن تعيينه بمرسوم أو قانون من حيث مدته وعدته.
- حصول عدد كاف من الأعضاء المتنوعي المواهب للقيام بالأعمال المتنوعة التي يقتضيها التخطيط المذكور.
- حصول ظروف سياسية مؤاتية.
في رأينا أن هذه العبارة هي من أهم ما كتب سعاده في التفكير العملي والإداري. إنها تعّين الهدف والخطوات المطلوبة لبلوغ الهدف. الهدف هو إنشاء منظمة عقائدية تفعل إدارة وسياسة وحرباً لتحقق غاية الحزب، وهو ما سميناه إطار إدارة الاستراتيجية عند سعاده. أما الخطوات الضرورية فهي: ترسيخ العقيدة، وحصول عدد كاف من الأعضاء، وحصول ظروف سياسية مؤاتية. وسوف نتناول في ما يلي كلاً من النقطتين الأولى والثانية، تاركين الثالثة لبحث منفصل.
ترسيخ العقيدة
لماذا ركز سعاده على ترسيخ العقيدة؟ لأنها بمبادئها الأساسية الثمانية الدليل إلى الهوية والحقوق والمصالح السورية. أي أنها الدليل لما يجب أن يلتف الشعب حوله. وهي، هذه العقيدة، مع المبادئ الإصلاحية، ما “يمنع الفوضى”. وهي، هذه العقيدة والمبادئ الإصلاحية، ما يسمح باستقطاب “العناصر الفاعلة”. ومن هذه العناصر الفاعلة سوف “يحصل” العدد الكافي من الأعضاء للقيام “بالأعمال المتنوعة التي تقتضيها الخطط الحزبية”، والتي سوف تعطي “المركز المتين” لسورية قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية.
هذا التسلسل العملي البديع هو الذي مكّن سعاده من القفز بحزبه ليصبح قوة قومية وسياسية يحسب حسابها في الوطن السوري سنة 1938.
كيف رأى سعاده السبيل إلى نشر العقيدة القومية وترسيخها؟ نأخذ الجواب من الفصل الأخير، فصل ما قبل الختام، من كتاب “جنون الخلود”، تاريخ 15 نيسان 1942، واضعين النقاط التي يهمنا الإضاءة عليها باللون الأسود:
“إن النتائج الفعلية التي حصلت بنشوء القومية السورية وسير الحركة السورية القومية هي نتائج أكيدة لا ينقصها إلا أن تعمّ الشعب، لينهض كله نهضة واحدة بعقيدة واحدة وإيمان واحد، فيصير قادراً على الصبر والثبات في معترك الأمم والتقدم في مضمار الحياة. والوصول إلى هذه الحالة السعيدة التي لا يشتهيها عدو لسورية يقتضي تلبية واسعة سريعة من الأوساط والعناصر المدركة التي رأت صحة الرسالة السورية القومية، لإمداد الحركة السورية القومية بالمال اللازم لنشر رسالتها وإذاعة مبادئها ونظرياتها وتلقين تعاليمها للجماعات العطشانة إلى المعرفة المشتاقة إلى نور اليقين، ولتأييد هذه الحركة المباركة معنوياً ومادياً ومساعدتها على مهاجمة الدعاوات التضليلية ومحاربة الأفكار الساقطة والمذاهب الانحطاطية، فيكون من وراء ذلك تغيير الأمة من حال الانشقاق والتخاذل والتحاقد والضعف إلى حال الاتفاق والتعاون والتعاضد والقوة والتغلب والمجد.
“إن القضاء على التضليل والمضللين، وجلب سواد الشعب إلى صراط الحقيقة والحق يحتاج لبث المعرفة في جميع الأوساط. وهذا عمل كبير في حد ذاته يقتضي وسائل كثيرة من الإذاعة الخطابية والكتابية. والتفكير في هذا المشروع وحده ومقتضياته يجعلنا ندرك كم هو ضروري الإقبال على مناصرة الحركة السورية القومية مادياً ومعنوياً. ولو أن التلبية الفعلية امتدت بسرعة في الوطن والمهجر وحصلت للحركة المقومات المادية الكافية لإذاعة واسعة، وبث الكتّاب والخطباء في جميع الأنحاء، وطبع الكتب والمناشير والخطب وتوزيعها بعشرات الألوف، وإنشاء الصحف والمجلات لإمداد الناس بالمعلومات الوثيقة والتوجيهات الصحيحة، لكان من المحتمل أو المرجح أن يكون موقف سورية في هذه الحرب غير موقف الشلل الذي تقفه بسبب كثرة الدعاوات والإذاعات المضللة التي تقوم بها عناصر السياسة الشخصية والرجعية، وتغذيها الإرادات الأجنبية التي، أياً كان مصدرها، لا ترغب في أن ترى الأمة السورية موحدة العقيدة والإرادة لكي لا تفوتها مطامعها فيها…”
كل هذه الأنشطة ما هي سوى تمهيد للخطوة التالية في مخطط سعاده، ألا وهي الحصول على عدد كاف من الأعضاء. وسوف نقف عند هذه الخطوة لأنها تدخلنا إلى مفهوم مهم في إطار العمل العام، ألا وهو مفهوم “الكتلة الحرجة”.
الكتلة الحرجة (Critical Mass)
ما هو المقصود بالكتلة الحرجة؟ نجيب عن السؤال من زاوية نظر علم الاجتماع. يعرّف الكاتبان ماروِل وأوليفر (Marwell and Oliver) في كتابهما Critical Mass in Collective Action نظرية الكتلة الحرجة بأنها “الحد الأدنى من الأشخاص أو من التمويل الأولي المطلوب لكي يصار إلى اجتذاب أشخاص جدد أو تمويل أكبر بشكل تلقائي، من أجل إنجاح جهد مشترك ما. ويمكن أن يكون هذا الجهد، تأسيس جيش، أو بناء جسر، أو تأسيس جماعة دينية، أو مظاهرات من أجل قضية. المهم أن القاسم المشترك لهذه الأعمال هو المصلحة المشتركة وإمكانية الاستفادة من عدد من الأعمال المنسّق فيما بينها”. (مقتطفات من الفصل الأول).
الفكرة الأساس هنا هي هذا الحد الأدنى أو العدد الأدنى من الأشخاص الذين لا بد من توافرهم لكي يصبح اجتذاب أشخاص أكثر أمراً تلقائياً. لا شك عندنا في أن سعاده، حين كتب إلى تويني عن “حصول عدد كاف من الأعضاء”، إنما كان يفكر بهذه الكتلة الحرجة كشرط ضروري لبناء حركة الشعب العامة. وعدد الأشخاص هنا ليس عدداً مطلقاً، بل عدد مقيد بشرط “إرساخ العقيدة واستقطاب العناصر الفاعلة على أساسها”. إذاً هذه الكتلة الحرجة هي كتلة عقائدية وعملية في آن. إنها كتلة عقائدية تعمل “إدارة وسياسة وحرباً لتحقيق غاية الحزب”.
هل رأينا هذا الترابط البديع بين فكر سعاده العقائدي وتفكيره العملي الذي يربط بين النظرية والتنفيذ.
إن أفضل مثل نستطيع تقديمه عن الكتلة الحرجة هو مَثَلُ العدسة المكبِّرة. يمكن للشمس أن تضرب ورقة لمدة ساعات دون أن تحترق. أما إذا سلطنا عليها نور الشمس مكثّفاً عبر عدسة مكبِّرة، فإنها تحترق خلال ثوان. السبب بسيط. لقد تكثفت الطاقة المحمولة في أشعة الشمس، وتركزت كلها في نقطة صغيرة واحدة. لقد أصبحت كتلة حرجة من الطاقة تحرق ما يقف في دربها.
حين يقول سعاده “إن النتائج الفعلية…هي نتائج أكيدة لا ينقصها إلا أن تعم الشعب…” فهو يقول إن الحزب قد قدم النموذج الناجح Prototype، لكيفية النهوض بالشعب. والمهمة الوحيدة المطلوبة هي أن يعم هذا النموذج في المجتمع كله، وهذا هو دور القوميين. وهذا هو الفشل الذريع الذي تناقلته قيادات الحزب المتتالية، سواء في مرحلة اغتراب سعاده القسري، أو بعد الاستشهاد.
إن المتتبع لتاريخ الحزب لا يسعه سوى أن يقف مشدوهاً أمام ظاهرة عدم التركيز. لقد لعب الحزب في حلبة السياسة من أقصى يمينها حتى أقصى يسارها. وساعدت قياداته قوى كيانية ومذهبية في تنفيذ مخططاتها، دون أن تُتعب نفسها في طرح السؤال الجوهري التالي: ما هو العدد أو النسبة المئوية التي كانت في ذهن سعاده حين ذكر في رسالته إلى تويني “حصول عدد كاف من الأعضاء المتنوعي المواهب للقيام بالأعمال المتنوعة التي يقتضيها التخطيط المذكور“. ما هو هذا العدد الكافي؟ ما هي هذه الكتلة الحرجة التي تصبح آلية الاستقطاب وصولاً إلى أن يكون الحزب حركة الشعب العامة؟
حركة الشعب العامة
كيف نتخيل حركة الشعب العامة؟ هناك عدد من النماذج التاريخية التي تقفز إلى البال حين ذكر عبارة “حركة الشعب العامة”. الجبهة القومية لتحرير الجزائر، أو الجبهة القومية لتحرير جنوب فيتنام، أو المؤتمر الوطني الأفريقي، أو حركة استقلال أيرلندا، وغيرها. أما القواسم المشتركة بين هذه الحركات فهي أنها في لحظة ما من تاريخها، تمكنت من أن تنتج تلك “الكتلة الحرجة” من المناصرين، التي دفعت أعداداً كبيرة من الشعب للتسليم لها بقيادتها في معركتها ضد محتل أجنبي وعملائه. تلك الحركات، كلها، كان لها تنظيمات سياسية، مالية، عسكرية، وديبلوماسية تعمل كلها بتناغم – تعمل إدارة وسياسة وحرباً – في سبيل تحقيق غاياتها. وهذا بالضبط هو ما توخاه سعاده في عمله بين سنة 1932 وسنة 1938 قبل أن يضطر إلى مغادرة سوريا.
علينا أن نسجل بكل أسف، وانطلاقاً من النتائج الحاصلة، أن الحزب السوري القومي الاجتماعي، بالتنظيمات الثلاثة التي تحمل اسمه، بعيد جداً من أن يكون حركة الشعب العامة. ونسجل أيضاً أن الخط البياني الانحداري الذي يسم مسار هذه التنظيمات اليوم لا يبشر بأية إمكانية لأن تقف هذه التنظيمات وقفة مراجعة مع الذات، وتدرس الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذه الشرذمة التنظيمية، وإلى تبدد أعضاء الحزب. في الوقت نفسه، نرى أن الانهيار والتفسخ قد أصاب ليس فقط مراكز القيادة في هذه التنظيمات، بل ضرب جسم الحزب وأعضائه إلى حد كبير، ففقد قسم كبير منهم وحدة الروح، والروحية الأخلاقية التي ميزتهم عن جميع فئات المجتمع. أما أن هناك من لا يزال يعطي ويقاتل ويستشهد في سبيل وحدة البلاد، فهذا دليل على قوة روح سعاده التي تحرك وجدان تلك القلة القليلة، ولكنها لا تغيّر في الواقع المرِّ الذي وصفناه آنفاً.
هناك اليوم مسار لا بد منه. قيام فئة تضع نصب عينيها تسلسلاً منطقياً هو عينه التسلسل الذي وضعه سعاده لنفسه: الفكرة، النظرة والغاية العليا، غاية الحزب. تحتها مباشرة، غاية أولية أن يصبح الحزب حركة الشعب العامة. ودونها، قيام كتلة حرجة تجعل الاستقطاب للحزب تلقائياً. غير أن دون هذا التصور صعوبة جمة تختصر بكلمة واحدة هي “التبدد”. بالتالي، فإن المسار أعلاه ينقصه خطوة أساسية. أن تقوم نواة من أنقاض هذا التبدد، تستقطب ما تبقى من قوى حية من القوميين لكي يصبحوا الكتلة الحرجة التي تخرج الحزب من مأزقه، ليصبح بالإمكان التخطيط لمرحلة أن يكون الحزب السوري القومي الاجتماعي هو حركة الشعب العامة.