تفضلوا (لترديد الشعار)- آلاء دياب
هل الأزمة في الشام هي أزمة نظام سياسي أم أزمة وجود ومشروعية الدولة؟
ليس المقالُ سياسياً يريد أن يكون ثقافياً بل هو مقال مأزومٌ كواقعه، تتدخل فيه ذواتنا بصورةٍ لافتةٍ. ولأننا رومانسيون بأزماتنا، نبرر مشكلاتنا الوجودية بادعاء المؤامرات. لكن مصطلح المؤامرة يصلح للبسطاء، وآن لنا تجاوزه، فالخارج نفذ إلينا من ثقوبنا، وعلينا التعامل مع أحداثنا كواقع له مقدمات ومسار صراعي، يتأرجح بين مقاسمة الإرادات والمصالح.
علينا أولاً حتى نخرج من أزمتنا، أن نعترف بأخطائنا، فهل الطائفية والمذهبية وجدت في الشام بعد الأحداث؟ هذا الزعم هو قفزٌ على المشكلة لا حلٌّ لها. إن وجود هذه الانتماءات العميقة واقعٌ لا يمكن إنكاره، واقعٌ فُرض بسبب التطور التاريخي والاجتماعي لمجتمعنا، لكن لا ضير إذا لم يقترن هذا الولاء العميق بالتعصب وبنظرةٍ دونيةٍ وتكفيريةٍ للآخر.
أمّا الأسباب:
أولاً : التحالفات الداخلية مع التيارات الدينية المتطرفة، ويظهر هذا في مؤشراتٍ عدّةٍ:
- إنماء التيار الديني المتطرف بدعم مؤسساته: وفقاً لإحصاءات نشرت على موقع وزارة الأوقاف الشاميّة حتى نهاية عام 2007، كان يوجد 840 معهداً لتحفيظ القرآن، 117 مدرسةً دينيةً، 18 معهداً دينياً، 17192 مسجداً، وأكثر من 600 مسجد قيد الإنشاء. وبقي هذا العدد في تزايدٍ مستمرٍ، حتى وصل إلى 23ألف مسجد، و 143مدرسة شرعية، و60 ألف داعٍ وداعية وفق ما ذكره د. عدنان عويد. كانت هذه المنشآت تستنزف خزينة الدولة، بينما الطوائف المسيحية والأقليات الإسلامية تعتمد في بناء أماكن عبادتها على تبرعات المغتربين وإعانات الأهالي تماشياً مع شعارات الوحدة الوطنية.
- حقيقة التيار الديني المتطرف المدعوم حكومياً:
في الثمانينات كنا نخوض صراعًا بين أيديولوجيتين متنافستين: عربية اشتراكية، وإسلامية أصولية متشددة. ثم حدث التحالف، لكن هل غيّر التيار الديني أهدافه أو مبادئه لشرعنة هذا التحالف؟ للتيار الديني ثلاث اتجاهات، هي: الدعوي، والجهادي، والمدخلي، أمّا المدخلي فمن أهم مبادئه القبول بالنظام السياسي والاجتماعي للدولة التي يمارس نشاطه فيها، لكنه يعمل على اختراق هذا النظام، والعمل على إعادة هيكلته والتأثير فيه من خلال المؤسسات الرسمية للدولة نفسها وفقاً للمنظومة الفكرية والقيمية السلفية، وذلك انطلاقاً من رؤيتهم لمفهوم الدولة الإسلامية وفق نصوص الحاكمية. لنورد مثالاً عن أقدم الحلفاء( الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله). إنه يقول في مقال له بعنوان حقائق عن نشأة القومية وفي سياق حديث عن القومية العربية: “وإننا لو رجعنا واستقرأنا تاريخ دعاة القومية في بلادنا، فإننا لن نجد صعوبة في كشف تآمرهم على بلادهم وقومهم، وبروز حقيقتهم سافرة، وهي أنهم عملاء للاستعمار بكل ما في هذه الكلمة من معنى.” كما قال في إحدى حلقاته التي كانت تبث على التلفزيون الشامي:” إن العرب ليس لديهم أخلاق قبل الإسلام، وإن القوميين العرب الذين يقولون بأن العرب كان لديهم أخلاق قبل الإسلام هم كذابون.” أمّا موقفه العدائي من العلمانية فيظهر في كتابه (العقيدة الإسلامية والفكر المعاصر)، وهو كتاب مقرر لطلاب الشريعة في جامعة دمشق، ويظهر الاتجاه المدخلي بقوة على صفحات مجلة نهج الإسلام الصادرة عن وزارة الأوقاف منذ الثمانينات.
- تجذير الفكر السلفي: من خلال التحالف مع رجال الدين لمحاربة الفكر التقدمي وبواعثه الاجتماعية داخل البعث وخارجه. فراحت المؤسسة الدينية، بتغطية بعثية وبنفوذٍ واسعٍ، تعمل على تجذير الفكر السلفي بصيغته الأشعرية والوهابية، والصوفية الطرقية، عبر إعطاء الدروس الدينية في آلاف المساجد من قبل آلاف الداعيات والدعاة، مع الدعم اللامحدود، حتى فقد البعث قدرته على ضبط توازنه التنظيمي والفكري من جهة، والتوازن العقائدي والاجتماعي للدولة والمجتمع من جهة ثانية.
- نقل النشاط الدعوي السّري إلى النور، ودعم رموزه: سأورد مثالاً عن:
جماعة زيد: قام الرئيس بشار الأسد بزيارة خاصة للشيخ أسامة الرفاعي وهو حدثٌ غير مسبوق يرمز إلى الرغبة في توسيع إطار الحلفاء الدينين التقليدين، (عائلة كفتارو وسعيد رمضان البوطي) كما خففت عنهم القيود. لكن التحالف ظل فاتراً، فخطباء المساجد التابعة للجماعة، لا يطلبون من المصلين في خطبة الجمعة الدعاء للرئيس بشار الأسد بل يستخدمون تعبير (لأرباب الحقوق علينا)، وفي الوقت الذي نظمت أكاديمية كفتارو احتفالاً كبيراً بمناسبة إعادة انتخاب الرئيس بـ 2007، اكتفت جماعة زيد بلوحة بجوار مساجدها، كُتب عليها (نعم للداعم الأول للعمل الخيري).
القبيسيات: سنة 2006 سُمح لهن بنقل نشاطهنّ الدعوي السري إلى المساجد علناً، وقاموا بتأسيس معاهد تعليمية خاصة في دمشق، وهيمنوا على دار الحديث النورية. وتُظهر الإحصائيات أن القبيسيات يمتلكن أكثر من 50% من المدارس الخاصة في دمشق، كما تولت سلمى عياش منصب معاون وزير الأوقاف في 2014، في خطوة تمثّل مكافأةً من القيادة للجماعة على مواقفها من جهة واستخدامها سياسياً من جهة أخرى، كما لابدّ من الإشارة إلى حدوث انشقاق سياسي معارض تحت اسم “حرائر القبيسيات” في نهاية 2011.
- تأطير الطوائف بزعامات جديدة: وصل حزب البعث إلى السلطة، وضاعت شعاراته مع امتيازات السلطة، ولم يعد وفياً لمبادئه إلا على مستوى التنظير فقط. أما على صعيد الواقع، فقد كان مناقضاً لكل ما يقوله، حتى سقطت مصداقيته. فقد تحالفت السلطة السياسية مع كبار التجار، وبدأ العمل بمنطق التكتلات، حتّى تولد شعور أن الوطن لهم وأنّ المواطنة هي واجبات المواطن وحده. ولكن متى سُلب الحق سقط الواجب اللازم عنه. ثم مع سقوط قناع العلمانية، تواطأت السلطة السياسية مع السلطة الاقتصادية، وصنعوا سلطةً دينيةً، غيّرت العائلات المتوارثة، انطلاقاً من المبدأ القديم (الملك بالدين يبقى، والدين بالملك يقوى). لقد أرادت القيادة ضرب مركزية أكبر مذهبين في الشام، من خلال استبدال قياداتها التقليدية بزعاماتٍ صنعتها، وتدين بالولاء لها، ونجحت في ذلك. زعامات لا تملك ماضياً تخاف عليه، ولا تملك مستقبلاً تحرص عليه بعيداً عن التوسل على أبواب السلطة، فكأنّ البعث يسير على نهج معاوية حين قال:(نحن الدهر، من رفعناه ارتفع، ومن خفضناه انخفض).
ثانياً: الخلل البعثي وتأثيره في الفكر الجمعي:
-
- الخلل البنيوي: حزب البعث وخلله العقائدي، وضعفه الفكري، ظهر أيما ظهور في مساراته. فلم ينقسم الحزب على نفسه من منطلق مذهبي فقط، بل انهار عند أول اختبار فعلي. لنتذكر أسماء المنشقين سنجدهم من القيادات المركزية في الحزب، وليس هذا إلا نتيجة لأسلوب الترهيب والترغيب المتبع للانتساب الحزبي.
- الخلل الفكري: مشكلة البعث في فكره العبثي. فقد كانت طروحاته النظرية بعيدة عن الواقع، وحين اصطدم بالواقع الذي نفى تصوراته، أنكر هذا الواقع، واتهمه ورأى العلة فيه، لا في نمط تفكيره كحزب قائد للدولة والمجتمع. لقد أُخذ بسحر القضايا الكبرى، فتحدث عن المشاريع القومية العربية الخلابة، وتعامل معها تعاملاً لاهوتياً، فأهمل الجزئي والتفصيلي واليومي، ونسي أن الفكر المجتمعي يتغذّى ويتجدّد بما أهمله، فلم يعدّ قادراً على تحقيق مفهوم المواطنة بمعناها المؤسساتي، وضاعت الهوية بين ركام القومية العربية وجاذبية الطروحات الإسلامية. لكن بعيداً عن أحاديثهم المنزّلة، بعيداً عن نبوءاتهم، كان لدينا واقع أفظع من دمار الشام، ومن مقتل الآلاف، ومن هجرة الملايين، ومن البؤس والفقر، هو تحلل المجتمع إلى عوامله الأولية، فلن تفعل المصالحات الوطنية شيء؛ لأنها لم تقم على وعيٍ بها، والدليل هو سقوط اتفاقيات المصالحة في مناطق عديدة، والعودة للتربص بالجيش.
- الخلل الداخلي:
- كان للصراعات الدائرة داخل صفوف البعث وللانقسامات وللتحزبات أثرها، فلم يستطع البعث تحقيق التوازن في البنيتين الاجتماعية والفكرية داخل الحزب، وغدا البعث بقياداته وبشبكة علاقاته المتشعبة في مؤسسات الدولة أكبر داعم للتكتلات المذهبية، تلك التكتلات التي أصبحت بؤرًا للفساد، لا يمكن اجتثاثها، فهي كحجارة الدومينو.
- عمل حزب البعث على خلق نوع من التسويات الرضائية بين المذاهب سواء على مستوى القيادات الحزبية أم على مستوى القيادات الإدارية، ويظهر هذا جلياً في تشكيلات الفروع الحزبية التي صدرت منذ أسبوعين بعد إقرار آلية الانتخابات، إذ تمّ تجاهل نتائج الانتخابات، والالتزام، عوضا عنها، بالتوازنات المذهبية. سأورد مثالاً عن فرع حماه، لكن الأمر يسري على الفروع جميعها:
- ثالثاً: النظام البطريركي للحكم في الشام:
لماذا يسعون دائماً إلى توحيد مفاهيم (الشعب والوطن والسلطة والدولة والقيادة والحزب والرئيس) على الرغم من أنها مفاهيم مختلفة جداً. كل هذه المفاهيم انصهرت في شخص الرئيس، فكأننا أمام لويس الرابع عشر حين كان يقول: (أنا الدولة). لم يقف الأمر هنا بل استقر في أذهان الناس أنّ أي انتقاد لأيّ ممّا ذكر سالفاً هو انتقاد للوطن، وطعنٌ به وبرموزه المبجلّة. ولأننا في دولة التفويض الإلهي للحزب، تقوم لدينا تراتبية هرمية، يختار حزبها الوزراء ليكونوا حاشيته، ويعيّن مجلس شعبها ليكون حارسه وخادمه، فتنجب هذه التراتبية ذريةً من الشعب مسلوب الإرادة، وتحل النزعة الفردية محل المصلحة الجمعية، وتبرز الانتهازية والنفاق ويعشش الخوف في النفوس، ويشعر المثقفون بالإحباط واللاجدوى، فينصرفون عن التفكير في شؤون السياسة… لقد تسببت هذه السياسات في هزيمة الناس أمام أنفسها، فتحول الشعب من فاعل اجتماعي خلّاق إلى أداةٍ بيد البعث يحركها كيف يشاء. لكن لم يعدّ هناك وسط، ولم يعدّ البعث يقوى على المسير، فإما قفزة جريئة تضعنا على طريق جديد، وإما سقوط نهائي سريعاً كان أم بطيئاً، فقد قال مدير شركة نوكيا في أثناء تسليمه الشركة مُباعة إلى مايكروسوفت: “إننا لم نرتكب خطأً، لكننا لم نستطع أن ندرك حجم وسرعة المتغيرات، فانتهينا”.
أخيراً، كل ما سبق يندرج تحت إجراءات جعل دمشق مركزاً للإسلام المعتدل، بما فيها إحداث قناة نور الشام الفضائية في 2011 محاولةً لاستمالة الشارع الديني في الشام، وأملاً في إلغاء مرجعية مسلمي دمشق إلى السعودية الوهابية أو الأزهر، لكنَّ هذا السعي أخطأ الأدوات والوسائل، عدا أنّ الدين موضوع أخطر بكثير من أن يتم التلاعب به سياسياً.
والسؤال:
- هل الإشكالية في علاقة الحاكم بالمحكوم؟
- هل الدولة في الشام هي دولة الأمة العربية كما عند العروبيين أو دولة الخلافة الإسلامية كما عند الإسلاميين، أو أنها ليست دولة؛ لأنها تفتقد للمواطنة الكاملة كما عند الليبراليين ؟
أمّا إجابة السؤال الأول، فالإشكالية أكبر من علاقة حاكم بمحكوم، بل هي علاقة الدولة بالمجتمع عندما تسعى الدولة لتسييس الانتماءات الفرعية، وتحوّلها إلى تيارات مغلقة، لا تلبث أن تنقض على المجتمع عندما تضعف الدولة، ولم يتم التنبّه إلى خطورة الظاهرة إلا بعد استفحال أثرها بسبب ضجيج الشعارات والانتصارات الخطابية حتى حسبنا أنّ ما كتبناه قد فعلناه، وأنه لم يبق شيء عظيم لم نفعله لكي نفعله.
وإجابة السؤال الثاني: الدولة في الشام هي نموذج ظاهري لدولة حداثية بشكلها الليبرالي البيروقراطي، لكنه احتوى في باطنه النموذج الإسلامي السلطاني المحدث. وجاء عدم الاستقرار من استحالة تطويع النموذج الحداثي إسلامياً، وتبين بعد فوات الأوان أنه لا يمكن الجمع قسرياً بين (الدولة العروبية) ومفهوم (الأمة الإسلامية)، وأنّ التغيير الحداثي يتطلب رفع ثقافة المجتمع وثقافة النخبة وتكييفها مع مفاهيم الحداثة، لا إحياء الهويات الأقدم التي تكرّس الهشاشة الداخلية.
المصادر
- الإخوان المسلمون في سوريا، مركز المسبار للدراسات والبحوث، آب 2009.
- التيار المدخلي في الفكر السلفي (المؤسسة الدينية في سورية نموذجاً )، د. عدنان عويّد
- حقائق عن نشأة القومية، الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، كرّاس مستقل صادر عن لجنة مسجد جامعة دمشق- قسم النشر41، 1963م
- القبيسيات، ليلى الرفاعي، ميدان، الجزيرة
- من نحن؟ هوية سورية المعاصرة ، الدكتور وهب رومية، مركز دمشق للدراسات والبحوث(مداد)، 2017م
مقال شيق ويلقي الضؤ على نقاط الضعف ، الظاهر ان النظام يسمح للجمعيات الدينية المسلمة أن تنمو بدون شروط ، واصبح البعث والنظام حلفاء لهذه الجمعيات ، واعتبار المنتمين لغير أديان غير موجودين، شكرا على هذا التحليل