النظام العالمي يترنح
(أيها السوريون أنصروا قوميتكم، وتعصبوا لها) سعاده
بعد سنتين تقريباً، في 24 تموز 2023، ستحل الذكرى المئوية الأولى لتوقيع “معاهدة لوزان” بين الأتراك من جهة، وكل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان وبعض دول البلقان من جهة أخرى. وجاءت هذه المعاهدة لتحل مكان “معاهدة سيفر” (آب 1920) التي كانت السلطنة العثمانية قد وقعتها تحت وقع هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. إذ بين العامين 1920 و1922 نجح الأتراك نسبياً في خوض معارك ضد القوات الأوروبية، ما دفع لندن وباريس للعودة إلى طاولة المفاوضات والاتفاق على صيغة جديدة للجمهورية التركية التي قامت على أنقاض السلطنة المهزومة.
تضمّنت المعاهدة مواد متفرقة رسمت الحدود السياسية للجمهورية التركية الوليدة مع دول الجوار، وأوضحت علاقاتها مع الدول التي كانت خاضعة للسلطنة العثمانية. إضافة إلى مسائل أخرى منها حرية الملاحة عبر المضائق، وحماية الأقليات المقيمة في تركيا، وكيفية تسديد الديون والتعويضات. والمهم أن المعاهدة ثبّتت الاعتراف الدولي بالجمهورية التركية وحدودها السياسية… باستثناء لواء الإسكندرون السوري الذي ظل ورقة مساومة وتآمر بيد المستعمرين الفرنسيين المتحكمين بالقرار السوري يومذاك.
جميعنا نعرف كيف تواطأت باريس وأنقرة، في ظل الصمت المريب لقيادات “الكتلة الوطنية” في دمشق، على تسليم الإسكندرون وكيليكيا وأنطاكيا إلى تركيا مقابل الدعم التركي في حال نشوب حرب جديدة مع ألمانيا… وقد وقعت الحرب بالفعل، والتزمت أنقرة الحياد ثم انضمت إلى المعسكر الغربي فور انتهاء المعارك. وخرج المنتصرون بنظام عالمي جديد حدّد مجالات العلاقات الدولية على مدى نصف قرن تقريباً، إلى أن تداعى المعسكر الاشتراكي وتشرذم الاتحاد السوفياتي، وتربّعت الولايات المتحدة الأميركية سعيدة على قمة الهرم بوصفها القوة الأحادية المهيمنة التي لا ينافسها أحد. ومع إطلالة الألفية الجديدة، كان تيار المحافظين الجدد في واشنطن يبشّر العالم بحلول “القرن الأميركي”.
لكن توقعات الغرب الأميركي ـ الأوروبي كانت أقرب إلى التمنيات منها إلى إنجازات الواقع. ذلك أن الاحتلال الأميركي لأفغانستان ثم للعراق أغرق الأطلسيين، والغرب عموماً، في مأزق لا خلاص منه. وفي الوقت نفسه، أخذت روسيا تستعيد توازنها تدريجياً، بينما راحت الصين تتقدم بقفزات مذهلة على طريق إمتلاك القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وفي فوضى حالة اللاتوازن الدولية هذه، أو لنقل حالة التموضع الاستراتيجي قبل الوصول إلى صيغة أخرى لـ”الحرب الباردة رقم 2″، برزت دعوات من هنا ومن هناك تطالب بإعادة النظر في ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية. بل بادر بعض الدول إلى تحدي النظام العالمي السائد منذ العام 1945 في مسعى لنقض مسلماته الجغرافية.
هذا الكلام يقودنا إلى “معاهدة لوزان” من وجهة النظر التركية. إذ يبدو أن الرئيس رجب طيب أردوغان ليس من المعجبين بها، ولا بما أسفرت عنه. فهو يرى أنها “أجحفت” بحق الأتراك و”سلبتهم” بعض المناطق الحيوية بالنسبة إلى مصالحهم. وقد واظب خلال السنوات القليلة الماضية على التطرق إلى موضوعها كلما أتيحت له الفرصة. ومن العبارات ذات الدلالات الفاقعة ما قاله في لقاء جماهيري سنة 2016: “هددونا بمعاهدة سيفر، وأقنعونا بقبول لوزان”. وكان من الممكن تجاهل الأبعاد الكامنة في مثل هذا الكلام، لولا أنه أقدم عملياً على خرق مضمون “معاهدة لوزان” لجهة احتلاله مناطق في الجمهورية السورية، وتغلغل قواته في شمال العراق، وإرسال المرتزقة والأسلحة إلى ليبيا، ونقل جنوده إلى قطر لحمايتها. والوقوف إلى جانب أذربيجان ضد أرمينيا. (احتلال شمال قبرص وقع قبل بروز أردوغان، غير أنه مصمم على تعزيز الوجود التركي هناك وعرقلة جهود الأمم المتحدة لتوحيد الجزيرة)!
يمثل أردوغان نموذجاً فاقعاً لقيادات حول العالم تشعر اليوم بأن فرصتها سانحة لتحدي النظام العالمي، أو حتى تغييره لصالحها. وغالبية هذه القيادات تعتمد خطاباً شعبوياً عنصرياً مذهبياً لشد عصب شعوبها في الداخل، ولإسباغ صفة الشرعية على مخططاتها الخارجية. ومن الملاحظ أن المغالاة في الفكر القومي العنصري، أو في الفكر الديني السلفي، تعتبر السلاح المفضل بمعركة الخروج على ترتيبات النظام العالمي في مرحلة ترنحه أمام المتغيرات العاصفة.
هذا ما يحدث في أنحاء عدة من العالم: البلقان، آسيا الوسطى، شمال أفريقيا، الجزيرة العربية، القرن الأفريقي، شرق أوروبا (حدود روسيا مع أوكرانيا ودول البلطيق)… وكذلك سورية الطبيعية التي هي الأكثر عرضة للمخاطر في ظل وضعيتها الراهنة. لقد خُرقت حدود سايكس ـ بيكو والمعاهدات الأخرى المتعلقة بأمتنا مرات عدة خلال السنوات القليلة الماضية: خرقها من الشمال ومن الجنوب الإرهابيون المدعومون من تركيا والغرب وبعض دول الخليج. وخرقها المقاومون الذين حاربوا التكفيريين في لبنان والشام والعراق. وخرقها الروس عندما تدخلوا لدعم الحكومة الشامية. وخرقها الأتراك بإقامتهم إدارات ذاتية تحت ستار “المعارضة السورية”. وخرقها التنسيق العراقي ـ الشامي لدحر “إمارة داعش” الإرهابية. وخرقها الأميركيون والأطلسيون باحتلالهم مناطق شاسعة في الشرق السوري. وخرقها المسلحون الأكراد الحالمين بدولة لهم تقتطع الأراضي من هنا ومن هناك…
ونحن نعتقد بأن الوطن السوري مقبلٌ على تغييرات جذرية، عاجلاً أم آجلاً. ولن تكون هناك عودة إلى أوضاع ما قبل الحرب على سورية. وفي هذه الحالة، سيجد السوريون أنفسهم مرّة أخرى أمام منعطف مصيري هو بمثابة أختبار قد تكون نتائجه فاصلة لأجيال وأجيال. فالقوى الخارجية توظف كل عناصر قوتها الذاتية وعلاقاتها السياسية بهدف إسقاط النظام العالمي الذي كان يلجم أطماعها، ولن تتورع في القريب العاجل عن خرق كل الأعراف والقوانين الدولية خدمة لمآربها. وهذا يتطلب رد فعل قومياً من الشعب السوري على امتداد الجغرافيا السورية. فإذا كان النظام العالمي الذي فُرض علينا قد آذن بالسقوط، فمن الواجب الملح أن نبادر نحن إلى تصحيح المسارات المناقضة لمصالحنا القومية.
إن تضافر جهود القوى الحية في كياناتنا السورية يؤمن قاعدة صلبة للتصحيح التاريخي. فقد أثبتت تلك القوى قدراتها في ميادين المواجهة، حتى ولو شابها بعض الإشكاليات الموضعية. ولأننا نواجه تناقضات مصيرية، فمن المنطقي أن نؤجل التناقضات الفرعية إلى حين. الأمم الحية تعي طبيعة التحدي المقبل، وبالتالي تعرف وسائل الرد على التحدي وأولويات ذلك الرد. ففي مواجهة النزعات القومية الشعبوية العنصرية المُتجلببة بستائر دينية، نقدم نحن للأطراف المشاركة في صياغة النظام العالمي الجديد، الفكر القومي الاجتماعي العابر لمفاعيل سايكس ـ بيكو وسيفر ولوزان.