المشروع السياسي – نجيب نصير
ربما كان أسوأ ما تتعرض له الثقافة الإجتماعية في أرجاء هذا العالم العربي، هو مناقشة الأداءات السياسية “للدول”، أو “للشخصيات” صاحبة السلطة في هذه “الدول”، على أساس أنها ذات حضور سياسي، معترف به دولياً ومحلياً بحكم الأمر الواقع. فنرى هذه الأداءات تُناقش في الصحف أو في الحوارات المتلفزة بجدية من ناحيتي صوابياتها وأخطائها، وتكتيكاتها واستراتيجياتها، وكأنما حصاد المئة سنة المنصرمة ونتائجها الكارثية على هذا العالم العربي، لم تكن نتيجة لها، بل نتيجة أداء سياسي/ معرفي، مبني على مشاريع سياسية “لدول” حقيقية في هذا التجمع الحائر في خنوثته المعرفية.
ويبدو هذا التجمع وكأنه لم يتحسس بعد الفشل الكارثي الذي واكب كل هذه الأداءات، المأخوذة على محمل الجد في النقاشات الدائرة، حول دهاء السياسي الفلاني، وعبقرية ذاك العلتاني، ووطنية ذلك الذي رهن مستقبل بلاده بعناده، أو حول مؤسسات تلك “الدول” من برلمان، ووزارة، وقضاء، وإلى ما هنالك من نماذج وصور، ولدت من رحم الخنوثة المعرفية/ الثقافية، لهذه التجمعات السكانية. لقد ارتضت هذه التجمعات بعقود اجتماعية، متنوعة ومؤقتة، ومتناقضة مع ذاتها، ومع أمثالها من العقود، تحت شعارات كالإستقرار، أو المستبد العادل، أو صاحب الغلبة و” الشوكة”، أو المقدرة على استفراد أعضاء التجمع البشري بالقمع … إلخ. وكأن الناس التي تعيش في ظل هكذا”دول” لا تعرف وبفعل الممارسة أن هذا كله هراء. وتنطلق، التزاماً بالعقد الإجتماعي المشوه، إلى تحقيق مصالحها المجتمعية، وتعميق ثقافة الخلاص الفردي، برعاية هكذا تحليلات، التي تستند في مبناها إلى “المشروع السياسي “الواهي الذي كان ولما يزل، المصدر الرئيس والحصري للهزائم المتكررة. كل هذا يدفع للتفكير داخل مساحة العماء الذي تقودنا اليه تلك المناقشات والحوارات والكتابات، حول تلك “المشاريع السياسية”، التي يتم إعتبارها مشاريع نموذجية، تشبه إلى حد التطابق النماذج المعتمدة عالمياً، دون أي إعتبار للإستثناءات التأسيسية التي قامت عليها هذه المشاريع.
كلام كثير حول المشروع السياسي، ولكنه كلام بلا دلالات، سوى التهلكة التي تتهدد كل مشكك أو مصحح لهذا الفرض، دون أي تفكير أو تداول، لا في بنود العقد الإجتماعي داخليا، ولا في جدواه خارجياً، ولا في العملية التي أودت إلى هذا الحال من الخراب العميم ليتم ترويضنا نحن “المتعاقدون”، على القبول بالهزائم، والإحتفاء بها، والدفاع عن “المشروع السياسي” الذي تسبب بها، بحكم القانون المنبثق عن العقد الإجتماعي الذي ينظمه “دستور”…. ما.
يقودنا هذا الكلام، للإعتراف بشكلانية “المشروع السياسي” لهذه البلدان، كونها تتمثل شكل الدولة الحديث، من حيث وجود ثلاث سلطات مستقلة، تراقب وتحاسب بعضها البعض، كدلالة على وجود دولة ومجتمع لديه مشروع إرتقائي، يتنكبه أصحاب المشروع السياسي، ولكن الواقع وممارساته، يثبت العكس، فهذه السلطات ليست مستقلة، ولا يمكنها مراقبة ومحاسبة بعضها، وإذا أمعنّا النظر، نكتشف أن لا وجود لمجتمع بمعناه الصالح لوجود دولة، حيث تتبادل الدولة والتجمع السكاني، الإضرار ببعضهما البعض، عن طريق هذا الكلام الثقافي المتراكم الذي لا يملك أية دلالات على وجود الدولة الحاضنة للمشروع السياسي، سوى ذاك المشروع الخفي لسلطات مبتكرة، تستطيع صنع الأزمات وإدارتها.
ومن الطبيعي، إذا تساءلنا عن وجود سياسيين ذوي مشاريع سياسية مجتمعية، يتم طرحها والتنافس عليها، بتسالم وعلانية، أن تكون الإجابة بـ “لا”. فمفهوم السياسة نفسه مقلوع من التربة الثقافية، و”المشروع السياسي”، بهذا المعنى الإقتلاعي، هو ممارسة غير اجتماعية، وغير مجتمعية بالضرورة، بل هو نوع من الأنشطة المربحة فردياً، على حساب الأنشطة المفيدة. وهذا ما يفسر حالات الإستبداد، العميمة والعميقة، التي تنهي إلى غير رجعة ممارسات التدرج نحو المجتمع المعاصر، الذي يفرز دولة. ولكن وعلى الرغم من ذلك يطمرنا هذا “الحكي”، عن سياسيين، ومؤسسات، وتخطيط، تستطيع مؤامرة عابرة أن تذريه أدراج الرياح. ولكن الإخلاص “للعقد الإجتماعي” الأشوه، هو من يستطيع ردعها، بصمود المتعاقدين، وجوعهم، وعذاباتهم وليبدو أن الفعل الحقيقي هو لهذا “الحكي”؛ هو في تجذير الواهي، في التعاقدات الإجتماعية المزيفة، لدرجة تجنيد الناس للدفاع عن الأمر الواقع” كمشروع سياسي” حقيقي، يؤدي الى العزة والإفتخار، التي ليس لها معادل في العيش الجماعي، أو المجتمعي سوى الإذلال.
هناك افتراق واسع بين ما يثرثر به الحكواتيون من كتاب ومحللي السياسة في منابرهم وندواتهم، وبين الواقع الذي يعلنون أنهم يمثلوه. فعندما نقرأ أو نستمع الى خبر أو تحليل لواحد من مناشط “البرلمانات” العربية، كمظهر من مظاهر وجود دولة، ومشروع سياسي، يمكننا ونحن في غيبوبتنا الحكواتية، أن نتخيل، مؤسسة عريقة، وأعضاء منتخبين بنزاهة، يشرعون ويراقبون السلطة التنفيذية، وكذلك الأمر في تخيلنا لسلطة تنفيذية أوقضاء. عن هذا الخيال يتكلم الصحفجيون ونجوم الفضائيات، من الذين يتكلمون عن المثالية السياسية وذيولها الصادمة من مؤامرات وغيره، وتكرارهم اللانهائي في توصيف الأداء السياسي لهاتيك “الدول”، على أنها ممارسة تذود عن الناس في المحافل المحلية والدولية.
إن من أشد صفات المشروع السياسي تأسيساً له، هي مقدرته على المنافسة بمعنى قبوله لمبدأي المراقبة والمحاسبة. فالمشروع السياسي ليس تعبيراً عن هوى أيديولوجي، يصح صحيحه في آخر الزمان. إنه تحدٍ معرفي حقيقي، تنتج عنه بالضرورة وعلى الأقل، وقائع انتصارية، ناتجة عن إعتماده كحل ينقل الجماعة البشرية من حال الى حال ارقى من خلال إستجابته لتحديات الحياة. وهذا يتقرر بناء على نوعية نتائج هذه الإستجابة وليس كميتها، فنوعية التعليم، والسكن، والصحة (مثالاً)، هي المعايير الحقيقية لجدوى الإستجابة، وليس عدد المدارس، والمساكن، والمستوصفات، التي يمكن وصفها، على أنها إستجابة للعقد الاجتماعي. وعند هذه النقطة وأمثالها، تفرز هذه المشاريع السياسية العربية، حيزاً فعلياً وفعالاً للفساد، والطائفية، وللولاء السياسي، والجريمة، كحيّز لا بد من وجوده، بدعم من هؤلاء”الحكوجية”، الذين لا يذّكرون أحد بمفهوم الدولة، التي تراقب سلطاتها بعضها وتحاسبهم، حيث يفقد المشروع السياسي، صفته التأسيسية، القائمة على المنافسة، دون خدش، أو مواربة، أو تدليس، مع دستور أو قانون.
على التوازي، تبدو المشاريع السياسية العربية، قائمة على تكييف الدساتير والقوانين، كخطوة إستباقية للمراقبة والمحاسبة. وهذا ما يشوه العقد الإجتماعي في أساسه، عبر إغراق القيم العليا للدولة، من مساواة، وحرية، وعدالة، خضوعاً لتجميع موافقات عددية على هذا الإغراق. فمساواة المرأة بالرجل حقوقياً، على سبيل المثال، ليست في وارد الدساتير العربية، على الرغم من إدعاء هذه المساواة. وبالتالي فإن الوقوع في المشاكل الإجتماعية يبدو كفعل دستوري مقصود، يهلل له المشروع السياسي، لإنه يعطيه فرصة كبرى لإدارة هذه المشاكل. إنطلاقاً من هكذا نوع من الدساتير، يصبح الدستور مشكلة بدلاً من أن يكون حلا، والتسالم معاقاً، والتوحد فرقةً، وبالتالي أيضاً، إنفراد نوع واحد من المشاريع السياسية لمسك زمام أمور” اللادولة”.
يبدو أن فقدان الدور التربوي لهذه النقاشات السياسوية، يجعل منها وسيلة لصنع الخواء الثقافي لدى سكّانيات العالم العربي. لذلك لا يبدو أي أداء معرفي، سواء كان إقتصاداً، أو ثقافةً، أو إجتماعاً، أداءً استراتيجياً، بل تكتيكياً، لتمرير مرحلة ما، إن كانت على الصعيد الفردي، أو الجماعاتي، أو السكاني، فالكل مرتبط بعقد إجتماعي أشوه، يحدد له منتجاته، التي تخدم ذاك “المشروع السياسي”، الذي يتكلم عنه المتكلمون فقط.