“المدى الحيوي” التركي تهديد وجودي لسورية
الذين راهنوا على خلاف جدّي ودائم بين الحليفين الأطلسيين تركيا والولايات المتحدة الأميركية سرعان ما صدمتهم حقائق السياسة الإستراتيجية لكلا الطرفين. فالمصالح القومية، بصورة عامة، لا ترسمها الأمنيات والتوقعات، وإنما هي رؤية وتخطيط وتنفيذ إنطلاقاً مما نسميه “المدى الحيوي” لكل أمة في العالم. وأنقرة تدرك أن علاقتها مع واشنطن، حتى في أدق المراحل وأحرج الظروف، مسألة لا غنى عنها إذا ما أرادت تعزيز “مداها الحيوي” في اتجاهه التاريخي.
هذا الترتيب الأطلسي لم يتغيّر جذرياً لا مع تركيا الأتاتوركية ولا مع تركيا الطورانية ولا مع تركيا “العلمانية” ولا مع تركيا الأردوغانية الإسلامية. وهو حكماً لم يتغيّر مع أي من الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى (ولا مع أوروبا الأطلسية إلى حد بعيد منذ الحرب العالمية الثانية) على الرغم من مرور مراحل توتر وتباين في الرأي والمواقف… من دون أن يؤدي ذلك إلى قطيعة بائنة بين الحلفاء.
تاريخياً، كان لتركيا “مدى حيوي” في ثلاثة اتجاهات:
1 ـ نحو أوروبا، وهذا الاتجاه توقف منذ فشل الحملة العثمانية على فيينا سنة 1683. لكن بعد انهيار السلطنة العثمانية سنة 1918 قررت أنقرة مواصلة التحرك في هذا الاتجاه من خلال التعاون العسكري والسياسي والاقتصادي مع أوروبا عن طريق عضوية الحلف الأطلسي والسعي إلى عضوية (شبه مستحيلة) مع الاتحاد الأوروبي.
2 ـ نحو وسط آسيا، باتجاه الجمهوريات الإسلامية الناطقة باللغة التركية. وغالباً ما كانت تقع مواجهات عنيفة بين تركيا وإيران في تلك المناطق، وكذلك بين تركيا وروسيا القلقة على حدودها الشرقية الجنوبية خصوصاً في ذروة الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. ومن هنا ندرك أهمية عضوية تركيا في الحلف الأطلسي لتهديد الخاصرة الرخوة للاتحاد السوفياتي في وسط آسيا والقوقاز. وهذا المدى شبه مغلق الآن نظراً إلى صعود القوة الإيرانية من جهة وعودة روسيا الاتحادية إلى دورها القيادي المؤثر في الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى من جهة أخرى. لكن هذا لا يعني أن “المدى الآسيوي” عبر البحر الأسود لن يُفتح في المستقبل.
3 ـ نحو الهلال الخصيب، وهو أنجح الاتجاهات بالنسبة إلى الأتراك منذ العصر العباسي الثاني الذي بدأ مع المتوكل على الله (سنة 847 ميلادية). وقد تميّز ذلك العصر بحصول الأتراك على النفوذ الكامل في بغداد عاصمة الخلافة، بحيث بات الخليفة مجرد إسم يدعو له المؤمنون على المنابر فقط. وخلال القرون اللاحقة، سيطر الأتراك السلاجقة والمماليك والعثمانيون على المناطق الإسلامية، ومن بينها طبعاً الهلال الخصيب. ومن الواضح اليوم، في ظل غياب الدولة القومية المركزية في سوريا الطبيعية، أن تركيا الأردوغانية تجد فرصة مناسبة لاستكمال ما باشرته تركيا الأتاتوركية في تواطؤها مع الاستعمار الفرنسي لاغتصاب الإسكندرون وكيليكيا وأنطاكيا في ثلاثينات القرن الماضي.
من هذا المنظور الإستراتيجي يجب التعامل مع التحركات التركية الأخيرة في مناطق الشمال السوري، وبالتحديد في إدلب وعفرين ومنبج والموصل. الأكراد هم مجرد أدوات آنية يستخدمها الأميركيون لتحقيق مكاسب مؤقتة ريثما يتم التوافق الدولي على الحل السياسي لأزمات المنطقة (ما حدث في إقليم كردستان العراق بعد الاستفتاء خير دليل على ما نقول). أما العلاقة مع تركيا فتشكل حجر الزاوية في المخططات الأميركية سواء في سوريا أو في أيران، أو حتى في روسيا والصين على المدى البعيد… لكن هذا موضوع آخر لوقت لاحق.
إن التحركات التركية في الشمال السوري، خصوصاً الدعوة إلى تواجد عسكري أميركي ـ تركي مشترك في مدينة منبج كمرحلة أولى، تعتبر خطوة متقدمة جداً على طريق “قوننة” الاحتلال التركي للأراضي السورية برعاية واشنطن وحمايتها، كما هو قائم الآن في مناطق شرقي الفرات. صحيح أن تفاهمات آستانة بين روسيا وإيران وتركيا أوجدت نوعاً من الترتيبات لتغطية مناورات أنقرة وتقييد حركتها. إلا أننا لا نستطيع الاعتماد المطلق على موسكو وطهران في لجم الإندفاعة التركية لإحكام السيطرة على “مناطق خفض التصعيد”، خصوصاً إذا واصلت واشنطن مساعيها التقسيمية شرقي الفرات. ومن غير المستبعد أن يوافق أردوغان على الضمانات الأميركية في ما يتعلق بالأكراد، مقابل إطلاق يده في مجالات أخرى أكثر أهمية بالنسبة إلى مشاريعه الأساسية.
حتى الآن تشكل روسيا وإيران ضمانة لعدم التفرد الأميركي – التركي في رسم معالم جديدة ميدانية على الأراضي السورية. ومع ذلك يجب القول أن لهاتين الدولتين مصالح قومية إستراتيجية و”مديات حيوية” تتجاوز الملف السوري، وإن بشكل نسبي لكل منهما. لذلك فإن المسؤولية التاريخية تقع على عاتق السوريين أنفسهم، يستوي في ذلك الموالون والمعارضون (طبعاً ليس أولئك المرتبطين بمخططات خارجية). إن الإرادة الشعبية السورية على أساس وحدة الانتماء والمواطنة كفيلة وحدها بإسقاط مشاريع التقسيم والابتلاع… أما عقلية “لنا الصدر دون العالمين أو القبر” فلن تنتج إلا مقابر جديدة على مدى النظر!