المدرحية علم وفلسفة-شحادي الغاوي
المدرحية علم وفلسفة
الحلقة الرابعة: المدرحية كمنهج لكتاب نشوء الامم العلمي
أجمل ما في هذه السلسلة هو تفاعل القراء معها، وتفاعل القراء يبدو أنه يعدِّل في تسلسل المواضيع التي كانت مقررة فيقرِّب واحدة ويؤجل غيرها. في الحلقة السابقة وعدنا القراء أننا هنا سنبين العلاقة بين فلسفة العلوم والعلوم والفن وفلسفة الحياة حيث تشكل هذه العلاقة وهذا التسلسل ما نسميه: النظرة الشاملة الى الحياة والكون والفن. لكن تفاعل القراء ومطالبهم وأسئلتهم ومناقشاتهم خلال الشهر المنصرم حتّمت علينا التوسع قليلاً في ما سبق وذكرناه بأن المدرحية هي أساس علمي قبل أن تكون فلسفة حياة.
نعرف أن كتاب نشوء الأمم هو “الأساس العلمي للعقيدة” حسب تعبير مؤلفه سعادة، والعقيدة هي الفلسفة. وإذا كانت العقيدة-الفلسفة مدرحية، فيجب أن يكون أساسها مثلها، مدرحي. والعكس صحيح أيضاً، أي أنه إذا كان الأساس العلمي هو أساس مدرحي فيجب أن تكون الفلسفة المبنية عليه هي مثله مدرحية. ولسعاده قول صريح واضح في ذلك ذكرناه في الحلقة الأولى من هذه السلسلة وهو: ” ومن إستعارات رشيد الخوري قوله في الدين الاسلامي أنه مدرحي، أي مادي روحي معاً، فقد يظن القارئ غير المطلع أن هذا القول هو فكرة جديدة فلسفية للخوري، والحقيقة أنه مأخوذ من كتاب نشوء الامم لسعاده ومن شرحه لمبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي، فهو فكرة فلسفية إجتماعية للزعيم أبداها في مناسبات عديدة. وآخر ما أعلنه من أمر نظرته الفلسفية كان في خطابه في أول آذار سنة 1940…” (:بين الجمود والارتقاء تاريخ 1-9-1941).
فلنقرأ في نشوء الأمم الأن ونرى ما يعنيه قولنا بأن المدرحية هي أساس علمي قبل أن تكون فلسفة حياة.
من مقدمة الكتاب:
يقول سعاده في مقدمة الكتاب أنه “جامع مستوف الوجهة العامة من نشؤ الامم، بجميع مظاهرها وعواملها الأساسية”. ثم يقول في متن كتابه عن ذلك أن الأمة “موحدة العوامل المادية-النفسية” (تعريف الأمة). إذاً من البداية سعاده ينبّه القراء بأن كتابه جامع ومستوفٍ جميع عوامل نشوء الامم، وهي عوامل مادية وروحية- نفسية معاً، حتى أنه يذهب في الفصل الثالث الى القول “بأن العوامل الفاصلة في حياة البشر وتطورها هي العوامل النفسية والفردية”. علماً أن مدارس علمية كثيرة وخاصةً المدارس صاحبة النظرة المادية الى الحياة تعتبر أن العلوم كلها مادية ولا يقع في مجال درسها إلّا العوامل المادية. إن هذه المدارس لا تعترف بأي دور حقيقي لغير العوامل المادية، وتعتبر أن الشؤون الروحية النفسية ليست “عوامل” بل هي مجرد إنعكاس للمادة ولا تقع تحت مهمة العلم. وقد ذكرنا في حلقة سابقة أن أصحاب النظرة الأحادية المادية للحياة لا يعترفون بعلم الاجتماع كله أنه علم ويعتقدون ويقولون أنه مجرد فلسفة أو تأويل. سعاده كان طبعاً على دراية تامة لهذا الإعتقاد وأراد تخطئته وضحده وقد علّق عليه في مقدمة كتابه عندما قال: “كل جماعة ترتقي الى مرتبة الوجدان القومي، الشعور بشخصية الجماعة، لا بد لأفرادها من فهم الواقع الاجتماعي وظروفه وطبيعة العلاقات الناتجة عنه…إن درساً من هذا النوع يوضح الواقع الاجتماعي الانساني في أطواره وظروفه وطبيعته ضروري لكل مجتمع يريد أن يحيا. ففي الدرس تفهّم صحيح لحقائق الحياة الاجتماعية ومجاريها، ولا تخلو أمة من الدروس الاجتماعية العلمية إلا وتقع في فوضى العقائد وبلبلة الأفكار”. ثم اضاف قائلاً: “ إن كتاب نشؤء الأمم هو كتاب علمي إجتماعي بحت تجنبت فيه التأويلات والاستنتاجات النظرية وسائر فروع الفلسفة ما وجدت الى ذلك سبيلاً“.
” ولتأكيد ضرورة اشتمال علم الاجتماع على درس العوامل الروحية-النفسية، وهذه لا تخضع للقياس المادي، عاد في الفصل الأخير من الكتاب، قبيل الوصول الى غاية الكتاب وفكرته الرئيسة، أعني تحديد معنى الأمة والقومية، وحذّر من المبالغة في إعتماد “القياس” في الأبحاث العلمية الاجتماعية، والقياس هو وسيلة العلوم المادية الأولى، وقال: “إن القياس كان ولا يزال مصيبة كبيرة في الابحاث العلمية الاجتماعية خصوصاً تلك التي لا تجرد علم الاجتماع من النظريات الفلسفية، من الفلسفة الاجتماعية. وهو الإلتجاء الى القياس ما أوجد شيئاً كثيراً من الخلط في المسائل الاجتماعية عموماً ومسالة الأمة والقومية خصوصاً”.
بالإضافة الى ذلك يجب أن نلاحظ أن علم الاجتماع هو العلم الوحيد الذي لا يحصل فيه إجماع العلماء الاجتماعيين وإتفاقهم على جميع حقائقه، وتبقى مسائل عديدة فيه موضع خلاف وإختلاف. إن السبب وراء ذلك هو أن موضوع علم الاجتماع ليس موضوعاً مادياً بحتاً بل مادياً-روحياً معاً.
هذا يفسِّر لنا نقاش سعاده لعلماء الاجتماع الآخرين وتمايزه عنهم ، فيوافق بعضهم ويجاري بعضاً آخر ويخالف غيرهم ويوجه إليهم نقده، حتى أنه أبدى إستهجانهه من العالم أرخ وسمن “الذي لم يتورع من أن يجد في صغر عقل عمال النمل الابيض، بالنسبة لكبر رأسها، التعليل المنطقي للنظام الشيوعي في دول هذا النمل !!”. فلو أقتصر سعاده في كتابه على درس العوامل المادية فقط، أو لو كان موضوع علم الاجتماع في الأساس موضوعاً مادياً فقط، لما كان إختلف مع غيره من العلماء في كثير من الأمور والمسائل والتحديدات، خاصةً في تعريف المتحد وتعريف الأمة والقومية. وسعاده هو القائل عن القيم الانسانية الاجتماعية أنها “لمّا لم تكن هذه القيم مادية لم يمكن أن يكون لها تحديد واحد ومفهوم واحد في العالم”.
في فصول الكتاب:
إنه مؤلف من سبعة فصول هي: نشوء النوع البشري، السلائل البشرية، الأرض وجغرافيتها، الإجتماع البشري، المجتمع وتطوره، نشوء الدولة وتطورها، الإثم الكنعاني (تعريف الامة والقومية).
في فصول الكتاب جميعها يبرز بشكل واضح جداً ذكر ودور جميع “العوامل” المادية والنفسية، مع ذكر أرجحية هذه على تلك أو تلك على هذه، في حرص شديد على بيان التفاعل المادي الروحي في الحياة والتاريخ والتطور.
بالنسبة للفصل الأول، نشوء النوع البشري، لم تكن مهمة سعاده شرح كيفية نشوء هذا النوع من الحياة، وما ابتدائه بهذا الفصل إلّا تماشياً مع مبدأ التسلسل التركيبي الذي كان منهجه العلمي في مقابل مبدأ التسلسل التحليلي الذي كان منهجه الفلسفي. لقد عرض لنا بإيجاز كبير التعليلين العلمي والديني لنشوء النوع البشري مع نقد للتعليل العلمي ونقض للتعليل الديني. ونلاحظ هنا في هذا الفصل وجود نوع من “فلسفة العلوم” أو ما سمّاه سعاده “إستنتاجات نظرية وتأويلات فلسفية” لا يمكن تجنبها. نعني تبني سعاده للتعليل العلمي الناقص، رغم نقده له وللنقص فيه، ونقضه للتعليل الديني الذي يحلّ ويتجاوز النقص في التعليل العلمي الناقص. فسعاده المائل بقوة الى العلم وحقائق العلم ينقض التعليل الديني قبل إكتمال التعليل العلمي ووصوله الى نتيجة حاسمة كاملة واضحة. وكأن سعاده كان منحازاً الى التعليل العلمي رغم نقصه وعدم إكتماله، على حساب التعليل الديني الذي عاد سعاده في إحدى رسائله الى غسان تويني للقول عنه بأن القوميين يمكن لهم أن يحتفظوا بإيمانهم الديني مع الأخذ بما وصلت إليه المدرسة العلمية بنفس الوقت. تأويل سعاده للتعليل الديني الذي يقول أن مصدره قوى الانسان النفسية الأولية وتفسيراته وتعليلاته وإعتقاداته الأولية، هو: ” فأخذ يتكهن صدوره عن عالم غير هذه الدنيا يعود إليه بعد فناء جسده. ولم يكن هذا التكهن الراقي في التصور مما تنبّه له الإنسان كما يتنبه للموجودات الواقعية، بل كان درجة بارزه في سلم إرتقاء الفكر سبقها درجات من التخرصات الغريبة التي ليس هذا البحث مختصاً بها… ولم يكن العقل البشريّ عند تلك الدّرجة من الدّقة في التّمييز بحيث يحاول الدّخول في افتراض وتقرير خلق مركّب، معقّد للإنسان وسلالاته فلجأ إلى جعل الخلق بسيطاً ومعقولاً بحيث ينطبق على الظّاهر البسيط ، فخلق اللّه رجلاً واحداً هو آدم ثمّ خلق له امرأة واحدة من ضلعه هي حواء وسنّة التّوالد تكفّلت بتعليل تكاثر البشر وانتشارهم في الأرض.” إنه تأويل وإستنتاج نظري منطقي وقوي الإقناع، لكنه يبقى تأويلاً وإستنتاجاً نظرياً.
في الفصل الثاني، السلائل البشرية، يتكلم سعاده عن “العقليات السلالية المستقلة الموجودة فعلاً” وعن “الدروس الأتنولوجية-النفسية” وذلك بعد تأكيده “أن السلالات أمر فيزيائي (أي مادي) واقع والأدلة على وجوده متوفرة”، ويقول: “وإذا تركنا السّلالات الابتدائيّة وعمدنا إلى السّلالات الواقعة ضمن نطاق المدنيّة الآسيويّة ــ الأوروبيّة وجدنا أنّها كلّها قد برهنت عن توفّر مزايا الارتقاء فيها. ومع ذلك فيمكننا أن نجد في كلّ منها ما سمّاه لازرس وشتينطال النّفسيّة السّلاليّة وهذا قسم من الدّروس الإتنلوجيّة ــ النّفسيّة لا يقصد منه درس الظّواهر النّفسيّة في مختلف السّلالات، أي درس الفوارق العقليّة من وجهة نظر السّلالة، بل درس النّفسية السّلاليّة كما هي تمييزاً لها عن النّفسيّة الفرديّة.” وينتهي الى القول: “وللسّلالات عقليات مستقلّة موجودة فعلاً ولكن يجب ألاّ يتّخذ ذلك حجة للتّمسك بعقائد تفاضل السّلالات المتمدّنة تفاضلاً أساسيّاً جوهرياً…”
أحب أن أشير هنا الى مسألة سبب وجود السلالات وكيف عالجها سعادة. قلنا أن سعاده قد تجنب في كتابه التأويلات والاستنتاجات النظرية وسائر فروع الفلسفة “ما وجد الى ذلك سبيلاً”، وعندما لم يجد الى ذلك سبيلاً وإضطر أن يذكر شيئاً من تلك الاستنتاجات والتأويلات الفلسفية، كان يذكر ذلك صراحة وبوضوح ويعلن ذلك بصيغة “نرجّح” التي معناها أننا لا نستطيع أن نؤكد علمياً بالبرهان. مثلاً على ذلك نقع عليه في تفسيره أسباب توزّع البشر الى أجناس-سلالات، وحيث أن علم الحياة والإنسان لم يتوصّل بعد الى معرفة أسباب وكيفية نشوء السلالات، فإن سعاده لم يستبدّ ويفرض نظريته غير المؤكدة وغير المثبتة علمياً، بل قال: “والذي نرجحه أن السلالات البشرية هي عدّة تطورات أو سلسلة تطورات حدثت في ظروف وبيئات تطورية، أي قبل إستقرار البيئة الطبيعية على حالتها المعروفة الآن وقبل أن يكون الارتقاء قد مكّن الانسان من التحوط ضد إختلاف البيئات”. فسعاده إذاً لم يجزم بل قال أنه يرجّح، وهكذا حافظ على علمية كتابه ووفّق بينها وبين إضطراره لإكمال موضوع السلالات بذكر شيء عن سبب وعوامل نشوئها، ولو بصيغة الترجيح. إن الترجيح في هذه المسالة ما هو إلّا “فلسفة علوم”، وفلسفة العلوم هي فرع من فروع الفلسفة لم يجد سعاده الى تفاديها سبيلاً.
في الفصل الثالث، الارض وجغرافيتها، ورغم أنه يبدو من عنوانه أن موضوعه مادي بحت، فسعاده لا يقتصر فيه على درس التأثير المادي للبيئة الجغرافية على حياة الجماعة، فبعد أن يقول: “ولشكل الأقليم تاثير عظيم في تمييز الجماعات بخصائص مادية ومعنوية”، يذكر، تحت عنوان البيئة وتاريخ الجماعة، دور العوامل النفسية ويقول: “إنّ التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، مع أنّ الأرض هي أحد الافتراضات الّتي لا بدّ منها لنشوء التّاريخ. والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة، الّتي، مع أنّها تتأثّر كثيراً بعامل البيئة، إمّا أن تستفيد من القاعدة الطّبيعيّة، شأن الجماعات الرّاقية، وإمّا تهملها على حسب استعدادها وإراداتها.”
في الفصل الرابع، الاجتماع البشري، تحت عنوان “تباين إجتماع الإنسان والحيوان”، وبعد أن يبيّن الفوارق البيولوجية (المادية) بين إجتماعَي الإنسان والحيوان، ينتقل الى الفوارق الإجتماعية واخصها ظهور الفكر، فيقول: “وإذا تركنا الوجهة البيولجيّة وعمدنا إلى الفوارق الاجتماعيّة البحتّة وجدنا في الاجتماع الإنسانيّ ظاهرتين مفقودتين في غيره، هما استعداد الفرد لبروز شخصيّته واكتساب الجماعة شخصيّتها الّتي تكوّنها من مؤهّلاتها الخاصّة وخصائص بيئتها.” ويقول أيضاً: “. بل هنالك الفارق الأساسيّ الأوّلي الّذي يجعل لأعمال الإنسان وللاجتماع البشري صفة مستقلة تبطل كل مقابلة اجتماعية بين الإنسان والحيوان، هو ظهور الفكر الّذي له كلّ الأهميّة في الحياة والاجتماع الإنسانيين”. وعن تعيين الفوارق الجوهرية بين حياة الإنسان الإجتماعية وتلك التي للحيوان يقول: “نتوصلّ بالاختبار إلى تعيين الفوارق الجوهريّة بين الحياتين. وهي الفوارق في كيفيّة فهم المحيط من الوجهة النّفسيّة. ففهم المحيط من هذه الوجهة، فيما يختصّ بالظّواهر النّفسيّة كالوعي والإحساس والإرادة والفكر والتّصوّر وما إليها، ليس ممّا يمكن استكشافه في الحيوان. وهي هذه الظّواهر الّتي لها كلّ الأهميّة في حياة الإنسان الاجتماعية“. ولا ننسى القاعدة التي يذكرها في هذا الفصل، ويكررها في الفصل التالي، وهي “أن افعال أي كائن هي ناتجة عن تفاعل ثلاثة اضلاع هي: الجسم والنفس (الدماغ) والمحيط”.
في الفصل الخامس، المجتمع وتطوره، يبدأ سعاده من المجتمع البدوي دارساً خصائصه وملاحقاً عوامل تطوره المادية والنفسية. وحيث لا يجد فيه أعمالاً نفسية ذات شأن يذكر ذلك لأنه كان يلاحقها ويبحث عنها، إنها تعنيه وهي جزء لا يتجزأ من بحثه ودرسه، يقول في ذلك: “ومهما ارتقت اجتماعيّة هذه الجماعات فهي لا تبلغ إلى هذه الدّرجة العالية الممثّلة، في المجتمعات المتمدّنة، بالجمعيّات وسائر المؤسّسات الّتي تمثّل بدورها الأعمال الذّاتيّة والأفكار الحرّة الصّادرة عن الأفراد الّذين يؤلّفون المجموع المتمدّن، وتمثّل، فوق ذلك، النّفسيّة الفاعلة في المجموع ونوع روحيّته الاجتماعيّة”. وتحت عنوان “التطور الثقافي السابق للتاريخ” يبحث في أدلة إجتماعية ونفسية إنسان العصر الإحتكاكي حتى ولو كانت لا توجد في غير آثار مواقده وبقاياه العظمية وأدواته الحجرية.
وعن أهمية النار العظيمة لحياة الإنسان وارتقائه لم يقتصر على شرح أهميتها المادية الإقتصادية في صد السباع المفترسة والإنارة والتدفئة وشي اللحم، فها هو يشرح نتائجها النفسية أيضاً، فيقول: “فجذبته إلى حرارتها وضوئها وأوجدت لذّة في تجمّع قطعانه حولها، وهي لذّة مصحوبة بالاطمئنان. واللّذّة والاطمئنان وتوفير الجهد والتعب هي الضّرورات الّتي يؤدي حصولها إلى تولّد الاحساسات النّفسّية الفرديّة والاجتماعيّة حيثما كان ذلك ممكناً في الكائنات العليا. ولعلّ هذا الاطمئنان قرب النّار هو السّبب في تحويل علاقة الذّكر والأنثى من عمل بيولوجيّ بحت يقتصر على فصل اللّقاح إلى حالة اجتماعيّة لها خصائصها النّفسيّة”. تجدر الملاحظة هنا أن عبارة “لعل هذا الإطمئنان قرب النار هو السبب في…” ليست عبارة علمية ولا تقدم معلومة جازمة، فكلمة لعلّ هنا تعني ترجيحاً ولا تعني معرفة علمية مؤكدة بالبرهان. إننا مجدداً أمام نظرية علمية ولسنا أمام معرفة علمية، هنا أيضاً نجد الفرق بين علم الاجتماع وفلسفة علم الاجتماع. وسعاده الدقيق الحريص على تقديم الحقائق، والحقائق فقط، لم يجزم ولم يستبد في تقرير نتيجة غير مثبتة وغير مبرهنة علمياً، وقال: “لعلّ…”
أمّا في باب الثقافة الأولية والثقافة العمرانية نرى أن “الحياة العقليّة المشتملة على المنطق والأخلاق وسلامة الذوق” هي تاج الثقافة العمرانية، حسب ما يسميها سعاده، التي تقوم على إقامة النسل- تحصيل الرزق واستدرار موارده-التنظيم الإجتماعي والإقتصادي. يقول سعاده: “وهي هذه الحياة (الحياة العقلية)، الّتي ابتدأها بعض الشعوب السّاميّة ووضع السّوريون أساسها الرّاسخ. ما يعطي المجتمع المتمدّن قيمته ومزاياه والمدنيّة الحديثة أبرز صفاتها وأثمن كنوزها.”
وبعد أن يعدد مراتب الثقافة العمرانية التي هي ثقافة المعزق، وثقافة المحراث، وثقافة الإنتاج التجاري، يحرص على القاء الضؤ على الحياة العقلية التي لكل مرتبة ويذكر أن أهل المرتبة الأولى “إذا كان لهم حياة عقليّة فهي محدودة جدّاً.” ويقول: “لا نرى للعقل منفذاً إلى الحياة الفكريّة والعلميّة إلاّ مع المرتبة الثّانية”. أما في المرتبة الثالثة “وكان من وراء اتّساع نطاق هذه الزّراعة وتحسينها أنّ حاصلها كثر إلى درجة صار عندها قسم كبير من أهل هذه الثّقافة محرّراً من الحاجة إلى زرع وحصد قوته بنفسه وأصبح في إمكانه الاهتمام بالشّؤون الثّقافيّة الأخرى.”
هكذا يتابع سعاده أحوال المحتمع وتطوره وأطواره من الناحيتين المتلازمتين المادية والروحية، والقاريء الملاحق لهذا الموضوع يراه واضحاً في كل دروس ومعالجات ونتائج كتاب نشؤ الامم العلمي.
ربما يلاحظ القارئ هنا أننا نركز على إظهار الناحية النفسية الروحية من الموضوع، وهذا صحيح، فذلك لأننا نريد ضحد الفكرة التي تقول بان العلوم هي كلها مادية، ولا نقصد أبداً إهمال الناحية المادية أو التقليل من أهميتها. فسعاده يقول، مثلاً “إذا كان العقل هو نتيجة تطورات الدماغ الفيزيائية، فالعقلية الإجتماعية هي نتيجة التفاعل المادي لتأمين الحياة الإجتماعية”. واضح إذن، أن تطورات الدماغ الفيزيائية وتطورات التفاعل المادي هي السبب أو العامل في نمو العقل وفي حصول العقلية الإجتماعية، لكننا لسنا في مناقشة حول أي من القوى والعوامل المادية أو النفسية هي الأسبق، فالموضوع من هذه الناحية محسوم عند سعادة، فهو يقول، كما سنرى بعد قليل، بأن الحياة النفسية لا تقوم الاّ حيث تستتب لها الأسباب والمقومات المادية. فسعاده يعلن للعالم “الأساس المادي الروحي للحياة الإنسانية” ولا يقول بالأساس الروحي للحياة الإنسانية. إن ما يهمنا هو أن نبيّن ان الدرس العلمي الإجتماعي ليكون كاملاً ومستوفياً موضوعه لا بد له أن يدرس القوى النفسية الروحية ويراها ويرى تأثيرها ودورها الفاعل في المجتمع، وهذا ما فعله سعاده العالِم في كتابه نشؤ الأمم.
أكثر من ذلك، فإنه حيث كان للعمل العقلي أرجحية على العمل المادي كان يهتم بإظهار ذلك. فهو يقول عن المرتبة الثقافية الثالثة من المجتمع العمراني ما يلي: “ابتدأ العمل العقليّ في هذه الثّقافة يرجح على غيره، فالتّجارة عمل عقليّ. فكان على الّذين أوجدوا الثّقافة الاقتصاديّة الجديدة أن يبتدعوا الطّريقة العمليّة للحياة العقليّة ويضعوا أساساً جديداً متيناً للثّقافة الإنسانيّة. كان على سورية أنّ تكمّل ثورتها الثّقافيّة وتفتح طريقاً جديدة للارتقاء الثّقافيّ فاستنبط الكنعانيّون (الفينيقيّون) الأحرف الهجائيّة فتمّت قاعدة التّمدّن الحديث.”
ويقول في مكان آخر:” قادت الأبجديّة العالم في طريق المعرفة والعلم وتفوّق القوى العقليّة على صعوبات الطّبيعة إلى الآلة الاقتصاديّة الّتي وضعت في يد الرّسماليّ قوّة لم يكن يحلم بها، ففاقت قوّة الرّسمال المتعاظم أيّة قوّة أخرى مناقبيّة أو مادّية.”
ولا أستطيع هنا الاّ أن أورد حرفياً هذا المقطع الرائع الذي ختم به سعاده الفصل الخامس والذي يظهر فيه أروع وصف للأساس المادي الروحي للحياة الإنسانية. يقول: “منذ الفترة الّتي ظهرت فيها الأبجديّة إلى جانب التّجارة واتّحد هذان العاملان في التّفاعل الاقتصاديّ الاجتماعيّ، اتّجه الاجتماع البشريّ نحو الحياة النّفسّية (العقليّة) وسيطرة العقل على كنوز الطّبيعة ومواردها. وفي هذه الحياة الجديدة تساهم الأمم المتمدنة. وبوجود هذه الحياة ووسائلها يمكن الآن ملايين البشر أن يفكّروا في قضايا الإنسانيّة الحيويّة والاجتماعيّة مستقلّين ومشتركين وأن يشتركوا في ثقافة إنسانيّة عامّة يدهش المفكّر لألوانها المتعدّدة تعدّد القوميّات، وللخصائص النّفسيّة الّتي تنكشف عنها في أمم عددها عدد البيئات”.
سنقف هنا الآن وفي الحلقة القادمة نكمل قراءة الفصلين السادس والسابع من كتاب نشوء الامم العلمي، متقصّين الأساس المادي الروحي (المدرحي) للحياة الانسانية ودائماً تحت عنوان: المدرحية علم وفلسفة.