فلسطين الجنّة- رامي جلبوط

image_pdfimage_print

تكاد عقيدة الصراع ما بين الخير والشر تكون أقدمُ مغامرة خاضها العقل البشري خلال بحثه عن تفسير للظواهر التي تجري من حوله. لقد كانت مغامرة موفقة، فأصبحت هذه العقيدة محور حياة البشر حتى اليوم، وغالباً ستبقى حتى انتهاء وجودهم على هذه الأرض، وانعكست في كل تفاصيل حياتهم الروحية والمادية – المدرحية.

المسألة الأصعب في هذا الصراع ما بين الخير والشر، الظلام والنور، الحسنة والسيئة، كانت في تحديد متى يكون الحق حقاً ومتى لا يكون كذلك. فمعضلة المفاهيم العامة مثل مفهوم الحق، تأتي في كونها نسبية، ما تراه حقاً ربما لا يكون كذلك بالنسبة للآخرين. وقد جهد الانسان في محاولة تحديد معايير الحق المطلق، وكانت رحلته في هذه المسألة من الصعوبة بحيث بات كثيرون لا يؤمنون رامي جلبوطبوجود مثل هذا الحق.

في الفيديو الذي يمكن الوصول إليه من خلال هذا الرابط يشرح الباحث والموثق طارق البكري مبادرته التي سمّاها (كنا وما زلنا) والتي بدأ بها قبل بضعة سنوات بالصدفة، لتتحول فيما بعد إلى مبادرة متكاملة غايتها توثيق معالم فلسطينية، على الأخص تلك التي تخضع اليوم لسيطرة الاحتلال الصهيوني لفلسطين: بلدات، أبنية، حارات، أراض، قبور وحتى روايات وحكايات فلسطينية، أصحابها أشخاص عاشوها في مرحلة قبل الاحتلال، وكيف انعكست على حياة أسرٍ وشعب بأكمله.

يجمع طارق البكري أحاديث عن مدى تعلق أصحاب الأرض بذكرياتهم فيها. يروونها وكأنها حدثت بالأمس، مستغرباً كيف يستطيع شخص لم يعش في فلسطين أن يعرف الطريق إلى منزل عائلته الذي طردت منه قبل ولادته، كيف حصل ذلك؟؟ كيف تتذكر مكاناً لم تعش فيه من قبل؟

لا شك أن طارق البكري يعرف الإجابة. وكانت أسئلته قد أتت في معرض استفزاز الذاكرة الجَمعية، ولفتِ النظر إلى أسلوب حياة عاشه الفلسطينيون في الشتات، كوسيلة دفاع ضد كل محاولات نفي الوجود. نعم إننا نتعرض، نحن الفلسطينيين، إلى حملات مستمرة، تهدف إلى إنكار وجودنا من أساسه. لقد قال عدونا “إنه شعب بلا أرض قد أتى إلى أرض بلا شعب”، وعبّرت عن ذلك جولدا مائير بقولها، “لا يوجد شيء اسمه فلسطينيون، هم لم يكونوا موجودين في يوم من الأيام.”

أمام معركة الوجود هذه، كانت ذاكرتنا هي كل ما نملك، فأصبح الابن يعرف الطريق إلى منزل العائلة الذي لم يره، بعدَ أن حفظ معالم الطريق من والده، وحفظ أحداثه اليومية كأنه عاشها مع أبويه والعائلة، وأصبحت بالتالي العودة على الطريق إلى المنزل مسألة وقت، إن لم يعشها الأب عاشها الأبناء ومن بعدهم الأحفاد.

ما سترونه في الفيديو قد يبدو غريباً ومؤثراً لأبعد الحدود، ويصعب على من لم يعش مأساة الفلسطيني فهمه، من لم تكن البلاد حاضرة في كل تفاصيل حياته في المخيم وخارج المخيم، هذا الفيديو فرصة لإلقاء الضوء على تلك الجوانب الخفية.

لقد اخترت الحديث عن مبادرة (كنا وما زلنا) كفاتحة للمقالات التي أتشرف بالمشاركة بها في أعداد مجلة الفينيق والتي ستكون في الأعداد القادمة مرتبطة بشكل أو بآخر بجوانب خفية أو مهملة من حياة الفلسطينيين في الشتات وتحت الاحتلال. ربما تصبح من خلاله بعض الأمور مفهومة بشكل أكبر، خصوصاً أن قضية كقضية فلسطين قد تعرضت خلال سنواتها الطويلة للكثير من التجاذبات والاستعمال من مختلف الأطراف بما فيهم الفلسطينيون أنفسهم، فتم تحجيم قضية فلسطين تارة إلى قضية دين أو حتى مسجد، وتارة إلى حزب أو تنظيم، وفي بعض الأوقات أصبحت فلسطين مجرد كوفية يلبسها البعض من باب الموضة، وأُغفل العامل الأهم في قضية فلسطين، وهو أنها بحق المعيار الأوضح والأسمى لتحديد ما هو الخير المطلق في مواجهة الشر المطلق.

قال أنطون سعاده: “نحن نريد تحرير فلسطين لأنها جزء منا، ولأن حياتنا تنقص كثيراً إذا فقدنا فلسطين” وما نقصته حياتنا اليوم هو هذا المعيار، معيار تمييز الحق والخير المطلق في داخلنا مع كل انعكاسات هذا الأمر في تفاصيل حياتنا اليومية.

في الفيديو سنرى قصة حليمة، التي أعادت زيارتها لبيت نبالا، قريتها التي اقتلعت منها قبل سبعين عاماً، أعادت لها الحيوية والروح، قصة لا يمكن أن تمر بدون أن نتوقف عندها طويلاً. مثلها مثل قصص أخرى سنضيء عليها في المقالات القادمة، لندرسها ونحللها علّنا نفهم أثر ذلك الإثم الكنعاني، أثر فعل الأرض في نفوس أبنائها.

إذا فقدنا فلسطين سنفقد الأرض التي لا زلت أذكرها بكافة تفاصيلها مع أنني لم أعش على ترابها بعد، ولا زلت أذكر دموعي شوقاً في تلك السهرة على سطح أحد الأبنية في مخيم اليرموك، في العام 1985 ولم أكن قد تجاوزت أعوامي السبعة بعد، عندما غنى المرحوم أبو زهير عمايري في عرس أحد أبناء المخيم، “هبت النار والبارود غنى”، وسأل ذلك السؤال الذي لا جواب له: “مين اللي ينسى، فلسطين الجنّة؟”

في هذا العدد<< إعادة تموضع- حسّان يونسالحراك والأحزاب- من نتائج استبيان الفينيق >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
1 تعليق
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
شحادي الغاوي
شحادي الغاوي
4 سنوات

انت سالت دموعك وعمرك سبعة أعوام وانت تتحدر من قرية الجاعونة الفلسطينية . وأنا اللبناني أباً عن جد، وعمري 69 عاماً، وبعد قرائتي لمقالك الآن ومشاهدتي فيلم طارق بكري فقد فاضت دموعي على خسارة فلسطين، وخسارة سعادة. متى سنوقف البكاء…