الشام – في حرية الصحافة والإعلام- نورس ديب
مما لا شك فيه أن الشام ما قبل اَذار من العام 2011 ليست هي نفسها شام اليوم، فقد اختبر الشعب السوري في الشام خلال سنين الحرب التسع ما لم يختبره خلال عقود خلت. وإن كانت أغلب خبرات السوريين خلال هذه السنين العجاف خبرات سلبية انطوت على قتل ودمار وتهجير وواقع اقتصادي سيء، إلا أن الأزمة أعطت المجال للصحفيين خصوصًا، والناس عمومًا، للنقد والتطرق إلى مواضيع كانت تعتبر من المحرمات منذ العام 1955.
وهنا نجد نوعين من الصحافيين، الأول هو صحافيو التشهير والشتم، أما الثاني، فهو الصحافة الموضوعية الصادقة. لسنا هنا بصدد التطرق للنوع الأول ولكننا سنبحث في المجموعة الثانية وطرق تعاملها مع الحدث. لقد وجدت هذه المجموعة نفسها، في بعض الأحيان، محرجة أو مترددة في طرح مواضيع جديدة، وهذا يرجع إلى سببين. الأول هو التعدي الصارخ على حرية الصحافة الذي شهدته الشام منذ العام 1955 حتى يومنا هذا. الثاني هو فقدان عامل الثقة بين السلطة الرابعة “الصحافة” و السلطة السياسية. فقد أعتاد الصحافيون على خطوط حمراء وجب عليهم دائمًا عدم تجاوزها بسبب قوانين صارمة تحتم عقوبات كبيرة، أو تحت حجج مختلفة، منها ما هو متعلق بالأمن القومي، ومنها ما هو متعلق بالوحدة الوطنية، فتولد لديهم شعور بنقص الحرية ونقص الحصانة والحماية التي عادة ما يتمتع بهما الصحفي.
في المقابل، ساد اعتقاد لدى السلطة الحاكمة في الشام بأن حالة الرضا الوهمية السائدة في الوسط الصحفي هي حالة حقيقة نابعة عن قناعة مبنية على رضا لا لبس أو تدليس فيه، فانتشر صحافيو البلاطات الذين ما انفكوا يمدحون السلطة ورجالها بناء على منافعهم الشخصية. إلا أنهم – صحافيو البلاطات- قفزوا من سفينة السلطة لدى هبوب رياح الأزمة، لا بل راحوا يأرجحونها اَملين غرقها، وهذا إن دلّ على شيء، فإنه يدل على مدى ضحالة السلطة الحاكمة عندما اقتنعت برضا الصحافة خصوصًا والمجتمع السوري عمومًا عن الحالة السائدة.
ولكن، ماذا عن الصحافيين الذين وجدوا في بوادر حسن النية التي أطلقتها الحكومة في بداية الأحداث شيئًا من الأمل وسارعوا إلى تلقفه والبناء عليه؟
لقد انقسمت هذه الفئة من الصحافيين إلى ثلاثة أقسام. الأول، هم الصحافيون الذين وقعوا في فخ أسلافهم ممن امتهنوا صحافة البلاط، فحصلوا على مصداقية شعبية من خلال جرأتهم في طرق المواضيع المحرمة والتعاطي معها مما أكسبهم شعبية عارمة ما لبثت أن انطفأت عند اكتشاف الشعب أن هؤلاء الصحافيون هم تكرار لحالة سابقة من التبعية، وأن أفضل ما قاموا به هو تقريب الخطوط الحمراء لبضع سنتيميترات ليس إلا، قبل أن يقعوا في فخ المصلحة الشخصية.
أما القسم الثاني، فهم الصحافيون الذين لم يساوموا على رسالتهم الصحفية واستغلوا رفع سقف الحريات ليمارسوا مهنتهم على أتم وجه، فتحول قلمهم إلى رصاصة وحبرهم إلى صوت صارخ. فراحوا يغطون المعارك الحربية للجيش السوري من جهة، كما راحوا يفضحون الفساد. إلا أن جرأتهم في الطرح قادتهم، في بعض الأحيان، إلى اجتياز الخطوط الحمراء، فلاقوا ما لاقوه من تخوين واعتقال واغتيال في بعض الأحيان.
القسم الثالث، هم الصحافيون والكتّاب الذين عرفوا موضع الخلل، إلا أنهم لم يمتلكوا الجرأة على المجابهة، فاستخدموا واحدة من أكثر الأشياء التي برع بها السوريون في الشام ألا وهي إتقانهم للغة العربية، فراحوا يستخدمون لغة شبيهة بالألغاز محاولين الالتفاف على الكلمات والمصطلحات اعتقادًا منهم بأنهم بذلك يطرقون أبواب المحرمات دون اجتياز الخطوط الحمراء المتلمثة بالحزب الحاكم ورئيس الجمهورية وغيرها. فكانت مقالتهم أقرب إلى مذكرات حقوقية منها إلى مقالات نقدية تحدد مشكلة بوضوح وتتطرق إلى سبل الحل. وهم بذلك يعتقدون أنهم لم يغضبوا السلطة الحاكمة ولم يخيبوا أمل قرائهم ومتابعيهم.
أمام هذه المعضلة، نقف متسائلين عن سبب تكرار هذا السيناريو. مما لا شك فيه أن المسؤولية تقع في المقام الأول على عاتق السلطة الحاكمة في الشام. فكما أسلفنا، فإن السلطة تبنّت طبقة من الإعلاميين المدللين بهدف تلميع صورتها والتسويق لسياساتها، ثم اقتنعت قناعة تامة بما تم التسويق والترويج له من قبل هؤلاء الإعلاميين مع كامل معرفتها بأن الكثير من كلامهم ليس بصحيح. المفاجئ هنا – كما أوردنا- أن هؤلاء الإعلاميون كانوا أول من انقلب على السلطة وراحوا يهاجمهونها عندما مالت دفة الأحداث في الشام، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن ما قام به هؤلاء كان مبنيًا على مصالحهم الشخصية وعدم قناعاتهم بما روجوا له من أفكار. وهنا لا ننكر قيام السلطة في الشام بخطوات إصلاحية، منها إصدار المرسوم التشريعي رقم 108 لعام 2011 الخاص بقانون الإعلام. إلا أن بعض نصوص هذا المرسوم تتسم بعدم الوضوح. فعلى سبيل المثال، حظرت الفقرة /5/ من المادة /12/ على وسائل الإعلام نشر كل ما يمس برموز الدولة. وهنا نسأل: ما هي رموز الدولة؟
نشير إلى أن السلطة والنظام في الشام هو أسلوب حكم مستمر منذ العام 1955، العام الذي دخلت فيه البلاد صراعات سياسية متعددة ذات أبعاد داخلية، إقليمية ودولية كان أبرز تداعياتها تبني أساليب قمعية والفتك بالتجربة الشبه الديمقراطية التي عاشتها الشام فيما بعد الاستقلال. على السلطة في الشام أن تعي أن الخطوة الأولى في حل مشكلة ما هي الإضاءة عليها والاعتراف بوجودها. والاعتراف بوجود مشكلة هو توصيف للواقع الذي تجب معالجته وليس شرعنة للمشكلة أو الخلل. نحن نعرف حجم الضغط الملقى على عاتق الدولة في الشام، ولكننا نعرف أيضا أن الحريات العامة والإعلامية هي حصن للوطن وقوة له وليس العكس.