الدكتور إبراهيم خلايلي: الكنعانية ليست هوية زائفة
شام قطريب
أثار الكاتب العراقي فاضل الربيعي جدلاً كبيراً في أوساط الإعلاميين والمتخصصين في التاريخ القديم حول طروحات خاصة بما سماه “السرديات التاريخية وصناعة الهوية”، وهو عنوان موحّد لمحاضرتين له في دمشق، ألقى الأولى منهما بتاريخ 17/9/2019 في مكتبة الأسد بدمشق، ضمن الفعاليات الثقافية لمعرض الكتاب بدورته الحادية والثلاثين، أما المحاضرة الثانية فقد ألقاها بتاريخ 1/9/2021 في المركز الثقافي العربي بدمشق/أبو رمانة… https://www.youtube.com/watch?v=V9RK8I5czG0
هذا فضلاً عن بث الموضوع نفسه في برنامج “لعبة الأمم” للمذيع السابق في قناة الميادين “سامي كليب”، في شهر شباط من عام 2019..
ملخّص عام لطروحات الربيعي
أما ملخص طروحات الكاتب الربيعي في المنابر الثلاثة المذكورة، وغيرها، فهو وصفه “الكنعانية” بـ”الهوية الزائفة”…!… وأن هذا المصطلح الذي نُحت بخبث ودهاء هو مصطلح “تحقيري”…وأضاف: “إن المصدريْن اللذين استمد منهما اللاهوتيون والآثاريون مصطلح “كنعاني” هما التوراة، والسجلات الآشورية”، فأكدوا أن “هناك عرقاً قائماً بذاته هو الكنعاني ولا علاقة له بشعوب المنطقة…”، وتابع الربيعي: ” يردد بعض السوريين واللبنانيين كلمتيْ “فينيقي” و”آرامي” ويفتخرون بها، بينما تصف التوراة الآراميين على أنهم جماعة صغيرة تتحدث لغة دينية خاصة بها، وتكتب بحرف خاص هو المربع”…وأضاف الربيعي: “الآراميون في سورية مواطنون سوريون وعرب يتحدثون لغة دينية خاصة بهم، أما العرق الفينيقي فلم أجد دليلاً على وجوده…”!
وقد ذكر الكاتب الربيعي في محاضرته الأخيرة في دمشق أن التوراتيين أنشأوا سردية جديدة عن تاريخ فلسطين، فاخترعوا “أرض كنعان وأن الفلسطينيين هم الكنعانيون”… وهذه –حسب الربيعي- خرافة لا مصدر لها…وقد أشار الربيعي إلى أن المؤرخ الطبري لا يعترف بهذه الرواية…!…وتابع الربيعي القول إن مادة السردية الرئيسية هي كيف يمكن خلق هوية زائفة لسكان فلسطين تحل محل هويتهم القديمة (ولم يسمّها بوضوح)… مضيفاً أن “الفلسطينيين ليسوا كنعانيين” وأن “أرض كنعان” هي طرح توراتي، وأنه لا وجود لحضارة كنعانية ولا أدلة على ممالكها وملوكها أو آثارها أو أسوار مدنها، سواء في فلسطين أو في أي بلد آخر في المنطقة الممتدة “من مصر إلى كل بلاد الشام إلى غرب الفرات العراقي”…وهذه “جغرافيا خيالية” حسب تعبيره…مشيراً إلى أن إطلاق اسم الكنعانيين على شعب المنطقة المذكورة، إنما لمحو هويته الأصلية!…ومضيفاً أن الجغرافيا لا تعرف الفراغ…وأنه لا وجود لحضارة كنعانية تقع بين الحضارتين المصرية والآشورية…!…ثم تحدث الربيعي عما سمي “الوعد الالهي” متسائلاً هل من المعقول أن ينطبق على كل هذه المساحة (يقصد المنطقة الممتدة من مصر إلى العراق)؟
ثم تحدث الربيعي عن “السردية الزائفة الأخرى” وهي أن “القدس هي أورشليم”… قائلاً إن المؤرخ الطبري لا يشير إلى القدس! وعرّج الربيعي في محاضرته الأخيرة في دمشق على موضوع “بني إسرائيل” قائلاً “إن بني إسرائيل شيء واليهود شيء آخر…”…وأردف قائلاً أن “القرآن عندما يمجد بني إسرائيل فهو يمجد جماعة قبلية مقدسة”.. وقد اعتبر الربيعي أن عبارة “كنتم خير أمة أُخرجت للناس”، تنصرف على بني اسرائيل حسب الطبري”.. وأضاف قائلاً: “بنو إسرائيل قبيلة واليهودية دين”، وإنه ورد في القرآن أكثر من مرة آية تقول: “آمنت بإله إسرائيل وإنا له لمسلمون” (هكذا حرفياً)! { الآية الأصلية هي سورة يونس 90: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
الدكتور إبراهيم خلايلي، المختص بتاريخ الشرق القديم وآثاره، فنّد طروحات الكاتب الربيعي، ورد على على النقاط المثارة، عبر حوار أجرته مجلة “الفينيق” فلنتابع:
ــ هل كان الكاتب الربيعي دقيقاً في قوله “إن الكنعانية هوية زائفة وإن التوراة والسجلات الآشورية هما المصدران الوحيدان لذكر مصطلح “الكنعاني”، وأن هناك “عرقاً قائماً بذاته هو الكنعاني ولا علاقة له بشعوب المنطقة”؟
ــ لم تحقق قراءة الربيعي لكتاب التوراة الشروط والمعايير الدقيقة، فاسم “الكنعاني” في هذا الكتاب، كان للدلالة على الشعب الكنعاني المتحضر ذي الانجازات الحضارية والفكرية التي عبرت البحار والمحيطات بما فيها الأطلسي، كما كان هذا الاسم هويةً للسوري القديم الذي كان يثير الرعب في نفوس أعدائه، ويحرّض فيهم الغيرة من شخصيته المبدعة “المتقنة لكل صنعة” –حسب وصف التوراة نفسه-…وفضلاً عن ذلك، فقد كان “الكنعاني” اللسان الذي تحدث به السوريون القدماء لغتهم الكنعانية، والحرف الذي سطروا به أبجديتهم ونصوصهم في شتّى المجالات، وكان “الكنعاني” المذكور في التوراة عالماً قديماً بأكمله، حدوده موغلةٌ في اليابسة السورية الحية الممتدة من كيليكيا إلى غزة، ومجاله الحيوي أهم بحار المعمورة ومحيطاتها آنذاك، وهي المتوسط والأطلسي والأحمر، وليس فقط “أرض كنعان” التي وصفها الكاتب الربيعي بالمنطقة المحدودة جغرافياً…
وبالتالي فالكنعانية ليست هوية زائفة بل حقيقية، كما أنها تعتبر أكبر وأهم هوية جامعة للسوريين القدماء حتى القرون الميلادية الأولى، وقد استمر اسم “كنعاني” طويلاً خلال الألف الأولى ق.م في بعض النقوش، مثل نقش البرازيل العائد إلى أواخر القرن الثاني ق.م، حيث جاء فيه (ن ح ن ا ب ن ك ن ع ن) أي: (نحن بنو كنعان)، فثبات الحضارة الكنعانية الفينيقية واستمرارها عبر العصور وصولاً إلى عصر السيد المسيح، وهو عصر كان تحت الاحتلال الروماني للمنطقة، يضيف أدلّة هامة على أصالة الجذور الكنعانية الفينيقية، ومن المثير –على سبيل المثال- أن يذكر كتاب الإنجيل في وقت متأخر هوية المرأة التي استنجدت بالسيد المسيح في منطقة صور وصيدا لكي يعالج ابنتها، وهي “الكنعانية” أو “الفينيقية السورية” كما سمّاها الإنجيل، الأمر الذي يلقي الضوء أيضاً على وحدة مصطلحيْ “الكنعاني” و”الفينيقي”، حيث يوحّد بينهما الإنجيل، وبالتالي فإن عصر السيد المسيح –بمعطياته التاريخية والأثرية واللغوية- هو أحد مصادر البحث الهامة عن الحضارة الكنعانية وتأكيد ثباتها واستمراريتها.
ومن ناحية أخرى استمر اسم الكنعانيين أيضاً في الألف الأولى الميلادي، فسكان المغرب العربي -على سبيل المثال- كانوا يسمون أنفسهم كنعانيين حتى القرن السادس الميلادي، ومن المعروف أن الكنعانيين قد سجّلوا حضورهم في المغرب العربي وغرب المتوسط وأسسوا هناك مدناً منذ القرن الحادي عشر ق.م.
أما القول بأن التوراة والسجلات الآشورية هما المصدران الوحيدان لذكر مصطلح “الكنعاني”، فهو خاطئ، وكان لا بد من العودة إلى المصادر التاريخية والأثرية والكتابية، والتفتيش جيداً عن اسم “الكنعانيين” في نقوشهم المنتشرة بكثرة في مواقع الداخل الكنعاني في فلسطين وسوريا ولبنان ومواقع حوض البحر الأبيض المتوسط الشرقي والغربي والمحيط الأطلسي، وفي الألواح الرافدية والمصرية القديمة، وفي بطون كتب المؤرخين الكلاسيكيين من اليونان والرومان، وقبل أن يُكتب سِفرٌ واحدٌ من أسفار التوراة بآلاف ومئات السنين.
ومن ناحية أخرى، فالروابط الكنعانية بالعموريين والأكاديين والبابليين والآشوريين والآراميين والمصريين والأرمن القدماء، هي روابط تشهد عليها المكتشفات الأثرية والكتابية، وكلها يشير إلى وحدة حضارية وعرقية، لا تسمح بالحديث عن عرق كنعاني منفصل عن منطقة المشرق.
ــ ماذا بخصوص حديث الربيعي عن وصف الآراميين بأنهم “جماعة صغيرة تتحدث لغة دينية خاصة بها، وتكتب بحرف خاص هو المربع”؟
ــ هو وصف لا أساس له من الصحة، ولا دليل لدى الكاتب الربيعي على وجود هذه المعلومات في التوراة، والتي لا يوجد فيها نص واحد يتحدث عن نوع خطوط كُتبت بها الآرامية أو غيرها، فلماذا هذا الادّعاء؟!… أما قول الربيعي: “الآراميون في سورية مواطنون سوريون وعرب يتحدثون لغة دينية خاصة بهم”…فهو عارٍ عن الصحة في شقّه الثاني، فالآرامية المستمرة –حتى تاريخه- في بعض القرى السورية، بل في جل اللهجات السورية- لم تكن لغة دينية، بل لغة عامة السوريين في شتّى مجالاتهم، والنصوص الآرامية المتنوعة أثبتت ذلك، ولئن تُلي ورُتِّل بعض صلوات الكنائس السورية بلهجات الآرامية –ومنها السريانية- فلا يعني ذلك أن الآرامية لغة دينية، بل لغةٌ سوريةٌ عالميةٌ ذات سمة حضارية، درجت حتى في أواسط آسيا والهند انطلاقاً من سوريا، وقبل نشوء الديانات السماوية…وبالتالي فلا يمكن اختزال الحضارة الآرامية بممالكها ومدنها وتركتها الأثرية والكتابية الضخمة والهائلة في سوريا الكبرى، بـ”جماعة دينية صغيرة”…حيث لدينا في سوريا الكبرى مئات المواقع الآرامية، منها ما يمثل ممالك ومدناً، ومنها ما يمثل آثاراً ثابته لمعابد ومنشآت معمارية مختلفة بالإضافة إلى مخزون هائل من النقوش الكتابية واللقى الأثرية المتنوعة.
طبعاً ولا بد من الاشارة إلى أن ثبات الحضارة الآرامية السورية واستمرارها وانتشار آثارها بشكل واسع، يؤرق أعداء الحضارة السورية، فشهدنا حملات تشويه لتلك الحضارة ومحاولات تهويد بعض أهم معطياتها –كاللغة والكتابة الآرامية- كما شهدنا عمليات طمس وتدمير لأهم معالمها في المناطق التي احتلها الإرهابيون.
ــ تطرّق الربيعي في محاضراته للموضوع الفينيقي، فذكر أنه لم يجد دليلاً على وجود العرق الفينيقي”…ما تفسير هذا الطرح؟
ــ اسم الكنعانيين كان يُطلق على الشعب الذي سكن منطقة فلسطين القديمة والساحل والداخل السوري اللبناني الفلسطيني منذ مطلع الألف الثالث ق.م، أما تسمية “فينيقي” -التي استخدمها اليونانيون إشارة إلى الكنعانيِّ السوريِّ- فهي مشتقة من الاسم الأصلي –أي “كنعاني” سواء بصيغته المصرية القديمة “فني خو”، أو من المهنة التي برع فيها الكنعانيون وهي استخراج الصباغ الأرجواني “فونيكس Phoinix”… وقد حلّت تسمية “فينيقي” في الكثير من الدراسات التاريخية محل “كنعاني” للحديث عن الفترات التي تبدأ من عام 1200ق.م، كما أضحى اسم “الفينيقيين” “بونيين” في غرب المتوسط والمغرب العربي كلفظٍ روماني لاسمهم، ولهذا الاسم دلالة جغرافية وزمنية.
وقد استمر اسم “كنعاني” طويلاً خلال الألف الأولى ق.م في بعض النقوش كما ذكرنا، مثل نقش البرازيل العائد إلى أواخر القرن الثاني ق.م، والذي فسّره العلامة السوري الدكتور محمد بهجت قبيسي، حيث جاء في النقش (ن ح ن ا ب ن ك ن ع ن) أي: (نحن بني كنعان)، واستمر اسم “كنعاني” أيضاً في الألف الأولى الميلادية، حيث كان سكان المغرب العربي يسمون أنفسهم “كنعانيين” حتى القرن السادس الميلادي، ومن المعروف أن الكنعانيين قد سجّلوا حضورهم في المغرب العربي وغرب المتوسط وأسسوا هناك مدناً منذ القرن الحادي عشر ق.م، لذا فمصطلح “العصر الكنعاني” يلائم وصف ذلك العصر المتوسطي الذي ازدهرت فيه الحضارة الكنعانية في المشرق والمغرب منذ مطلع الألف الثالث وحتى أواخر الألف الأول ق.م، وذلك كعنوان كبير يجمع الحِقَبَ والأماكن التي شهدتها تلك الحضارة.
ــ كيف يمكن الرد على طرح الربيعي لمزاعم أن “الفلسطينيين ليسوا كنعانيين” وأن “أرض كنعان” هي طرح توراتي، وأنه لا وجود لحضارة كنعانية ولا أدلة على ممالكها وملوكها أو آثارها أو أسوار مدنها، سواء في فلسطين أو في أي بلد آخر في المنطقة الممتدة “من مصر إلى كل بلاد الشام إلى غرب الفرات العراقي؟
ــ هذا طرح غريب للغاية، فلو لم يكن الفلسطينيون القدماء كنعانيين لما وصف كُتّاب التوراة أرضهم في فلسطين بـ”أرض كنعان”…فأرض كنعان هي مصطلح جغرافي يشير إلى المنطقة التي كان يسكنها كنعانيو فلسطين القديمة… وهناك اعتراف في كتاب التوراة/سفر صفنيا، يشير إلى أن “كنعان هي أرض الفلسطينيين” (كنعَن أرِص فِلِشتيم)، والمقصود بالفلسطينيين آنذاك هم فئة من الكنعانيين كانوا قد غادروا فلسطين إلى جزر اليونان وعادوا إليها بعد فترة وسكنوا سواحلهم القديمة في فلسطين مثل غزة وجت وعسقلان وأسدود وعقرون.
رئيس وزراء العدو الاسرائيلي “بنيامين نتنياهو” ادّعى أن الفلسطينيين من أصول يونانية، لكن التحريات الأثرية والجينية في مدن الساحل الفلسطيني أكدت أن أولئك الفلسطينيين هم كنعانيون هاجر بعضهم إلى جزر اليونان لفترة وعادوا حاملين ثقافة جديدة، والتحقوا بمدنهم الساحلية القديمة…أما سفر صفنيا في التوراة، فيكذِّب “نتنياهو” –كما رأينا- حيث قدّم شهادة واضحة على كنعانية الفلسطينيين القدماء.
ومن الواضح أن “الربيعي” قد أخطأ في تحديد موطن الكنعانيين الكبير في سوريا القديمة، فهذا الموطن لم يشمل مصر كلها بل سيناء ومعها كل فلسطين والشام بسواحلها ولبنان وقبرص والأردن، وفي فترة لاحقة –أي في الألف الاولى ق.م- انضمت إسبانيا والمغرب والجزائر وتونس إلى ذلك الموطن الكنعاني الكبير كما أن هذا الموطن لم يشمل بلاد الرافدين، ولو أنه اتصل بتلك البلاد بموجب جذور حضارية ولغوية مشتركة.
وبالتالي فكيف ينفي الربيعي وجود ممالك كنعانية؟ وكيف يقصي عشرات الممالك الكنعانية من ممالك مدن الكنعانيين في المنطقة؟ لماذا لم يأت الربيعي على ذكر أوغاريت وسيانو وعمريت وأرواد وسيميرا وصيدا وصور وجبيل وحاصور ومجدو ويافا والقدس وكفرناحوم وعكا وغزة و….مئات المدن الكنعانية المنتشرة في سوريا الكبرى؟…لقد تركت تلك الممالك الكنعانية آلاف النقوش باللغة الكنعانية، المسمارية أو الأبجدية الهجائية، وخلّد مكتشفاتها مئات الملوك الكنعانيين والمعطيات التي تخص الحضارة الكنعانية.. لدينا معطيات كنعانية من مدينة أوغاريت، ظهر ما يطابقها تماماً في إسبانيا بعد ألف سنة من ظهورها في أوغاريت، حيث عُثر في جزيرة “إبيزا” الاسبانية على جُعَل أثري يعود إلى القرن الخامس ق.م، تصوّر زخرفته إلهاً برأس ثور يتهيأ لتسديد ضربة إلى عدو طريح على الأرض، وقد بيّنت التحاليل أن الإله المنتصر هو “بعل” الأوغاريتي، والإله المهزوم هو “يم” إله القوة المائية العاتية، الأوغاريتي أيضاً، وهذا المشهد هو تصوير لأسطورة سورية أوغاريتية كنعانية تعود إلى حوالي عام 1500 ق.م، تتحدث عن الصراع بين الإلهين المذكورين وتفوّق بعل في هذا الصراع.
وفي مثال آخر فإن “الحياة بعد الموت” هي فكر سوري كنعاني قديم تم تدوين تفاصيله في ألواح مدينة أوغاريت المسمارية، كما تم تداوله بحرفيته في العالم القديم قروناً طويلة من الزمن، ففي غرفة جنائزية –تعود إلى القرن 5 ق.م- ضمن أحد مدافن مدينة “كركوان” الفينيقية-الكنعانية المكتشفة على الساحل التونسي، عُثر على رسوم تصويرية تمثّل “مدينة الأرواح” وتتحدث عن مصير الإنسان بعد الموت وشؤون الآخرة، ولعل ألواح مدينة أوغاريت السورية قد أتت على ذكر ذلك قبل ألف سنة من تأسيس كركوان التونسية.
وقد رأينا كيف أن سكان المغرب العربي كانوا يسمون أنفسهم كنعانيين حتى في القرن السادس الميلادي، فماذا كان اسمهم قبل ذلك، وبعد تأسيس مدنهم من قبل كنعانيي الشرق في الألف الأول ق.م؟…والسؤال الأهم هو إذا كان خلفاء الكنعانيين الشرقيين في المغرب قد سموا أنفسهم كنعانيين، فماذا كان أسلافهم -كنعانيو الشرق- يسمون أنفسهم؟
ــ تحدث الربيعي عما سمي “الوعد الالهي” متسائلاً هل من المعقول أن ينطبق على كل هذه المساحة (يقصد المنطقة الممتدة من مصر إلى العراق)؟…وبالتالي فهل ينطبق هذا الوعد على منطقة أخرى حسب إشارة الربيعي؟
ــ هذا الوعد التوراتي لا ينطبق على أية منطقة.. فهو وعد خرافي وهو ليس وعداً إلهياً بل وعد “يهواوي” قدّمه “يهوه” إله اليهود المجهول في وثائق الشرق القديم لإبراهيم وإسحق ويعقوب بإعطائهم الأرض، تارةً أرض فلسطين، وتارةً أخرى الأرض “من النيل إلى الفرات”.. وقد أتى هذا الوعد ضمن سياق خرافي في سفر التكوين، وفيه الكثير من التناقضات التي تؤكد أنه قد تم دسّه في سفر التكوين، حيث إن “يهوه” لم يكن معروفاً لإبراهيم وإسحق ويعقوب –حسب أسفار كتاب التوراة التالية لسفر التكوين، كما أن “يهوه” ليس الله بكل الأحوال، بل هو إله وثني كان يُعبد في خيمة متنقلة –حسب التوراة- .. ومن ناحية أخرى لا سند أثرياً أو كتابياً يؤكد صحة الروايات الخاصة بإبراهيم وإسحق ويعقوب، وكلها روايات تندرج في إطار الخرافات.. وسبق أن أنجزت العديد من البحوث حول خرافة ما سمي بالوعد الإلهي، توخيت فيها الدقّة الممكنة لإبراز بطلان هذا الادعاء.. وقد نُشرت هذه البحوث مؤخراً في أعداد مجلة “زهرة المدائن” التي تصدرها مؤسسة القدس الدولية –فرع سوريا.. وقبل ذلك كنت قد دحضت خرافة ما سمي بالوعد الإلهي في أطروحتي للدكتوراة، التي ناقشتها في الجامعة التونسية عام 2002.. وللإشارة فهنالك حرص وإصرار مؤخراً من قبل التوراتيين على إقناع العالميْن (المسيحي والإسلامي) بموضوع الوعد المزعوم، من باب الترويج لبدعة ما سمي بالديانة الابراهيمية…لكن هذه البدعة سقطت أولاً من خلال اعترافات التوراة نفسها، ومن خلال تناقضها مع معطيات كتابيْ الانجيل والقرآن.. وأيضاً كنت قد نشرت تفاصيل هذه البدعة والردود عليها في مجلة “زهرة المدائن”.
في المحصلة لا يمكن إعطاء كتاب التوراة خصوصية أي مصداقية معينة في اعتماده كمصدر تاريخي، أي أن معلوماته يجب أن تخضع للنقد والتحليل والمناقشة، لا أن يُبنى عليها سياقات تاريخية ما.
ــ نفى الربيعي أن تكون القدس هي “أورشلم”…هل يمكن توضيح ذلك؟
ــ القدس مدينة كنعانية سجّلت حضورها كموقع أثري في الألف الرابع ق.م وفي الفترات اللاحقة للألف الرابع، وذلك دون التثبُّت من اسمها الأصلي، على الأقل حتى نهاية الألف الثالث ق.م…وقد حملت المدينة –منذ أقدم عصورها- اسم “يبوس”، واليبوسيون كنعانيون، وهم سكان القدس الأصليون، كما حملت اسم “القدس” الكنعاني واسم “أورشلم” الرافدي الكنعاني، كاسمٍ مركّبٍ من شطرين (لا علاقة لهما بالعبرية)، الأول “أور” والثاني “شلم” أي أساس أو مدينة شلم، و”شلم” إله كنعاني معروف في نصوص مدينة أوغاريت الكنعانية الساحلية كإله للخير والعطاء… وهنالك آراء لبعض الباحثين ملخصها أن أقدم ذكر لمدينة القدس الكنعانية يعود إلى القرن التاسع عشر ق.م وذلك في نصوص مصرية تسمى نصوص اللعنة التي سبقت أية رواية توراتية، على أن اسم القدس في تلك النصوص قد ورد على شكل “روشاليموم”، ويرى باحثون أنه في القرن الرابع عشر ق.م يرد اسم المدينة على شكل “أوروساليم” و”يبوس”، وذلك في مراسلات العمارنة، أما في حوليات العاهل الآشوري سنحريب (القرن السابع ق.م) فقد ظهرت المدينة باسم “أوروسليمّو”، ولا أساس من الصحة لترجمة اسم “أورشلم” إلى “مدينة السلام”، كما لم تحمل المدينة اسماً عبرياً في أية فترة من التاريخ، وهي مدينة خاصة بالكنعانيين ومنبع للعديد من التقاليد الكنعانية، وكان من الطبيعي أن يرد ذكرها في مرويات كتاب التوراة، على غرار عشرات المدن الكنعانية التي أتى كُتّاب التوراة على ذكرها ضمن أحداثٍ مُتخيَّلة وأخرى تنطوي على معلومات بين السطور.. ولئن أتت قراءة تلك الأحداث والمعلومات عبثية وغير متخصصة عند بعض الأكاديميين والمهتمين، إلا أنها أتت مسيّسة ومنحازة لصالح المدرسة التوراتية عند بعض المؤرخين، ولم تخلُ من تحريف المعطيات الكنعانية الواردة في التوراة، لصالح تهويد فلسطين بدءاً من تاريخها الكنعاني القديم.
ويجب أن نؤكد هنا أن ورود اسم القدس في التوراة العبرية باسم “أورشلم”، لا يعني أن هذا الاسم عبري على الاطلاق –كما يرى بعض الدارسين- وذلك على غرار الكثير من المدن الكنعانية التي ورد اسمها في التوراة العبرية بصيغته الكنعانية، تماماً كمدينة القدس، التي لا توجد آثار يهودية فيها، ولا في أية مدينة كنعانية في فلسطين- في أية فترة من تاريخها، كما لا صحة للادعاءات التي تتحدث عن وجود معبد “سليمان” المزعوم سواء في القدس أو غير القدس، وإثبات عدم وجود المعبد في القدس لا يعني أنه في مكان آخر، فرواية التوراة خيالية وغير صحيحة بخصوص المعبد، وتم تناقلها شفهياً من قبل العديد من الرواة، كما أن التنقيبات لم تقدّم شيئاً بخصوصه.
وحرصاً على الدقة في المعلومات نشير أخيراً إلى أن اسم المدينة يرد في التوراة بصيغته الكنعانية الرافدية أي “أور-شلم”، وفي بعض المواضع بصيغة “شلم”، وايضاً بصيغة “مدينة إلُهيم” (الآلهة)، كما وُصفت بأنها مدينة العدل، وسُميت أيضاً “يبوس”…ومن ناحية أخرى توجد في فلسطين أكثر من مدينة تحمل اسم “قدس” أو “قدش”، الأولى تُدعى حالياً “عين قدّيس” في أقصى جنوب فلسطين على بعد حوالي 80 كم جنوب مدينة بئر السبع…أما “قدس” الثانية فهي مملكة كنعانية تقع في الجليل، واسمها حالياً “قدَس” وتقع على بعد 16 كم إلى الشمال من مدينة صفد…وثمة “قدس” ثالثة تقع بالقرب من مدينة مجدّو شمال فلسطين… وهنا نشير إلى أن المؤرخ اليوناني هيرودوت (القرن5 ق.م) قد ذكر وجود مدينة في فلسطين تحمل اسم “قاديتس”.
ــ هل أصاب الربيعي بقوله إن “القرآن عندما يمجد بني إسرائيل فهو يمجد جماعة قبلية مقدسة”؟
ــ بالتأكيد لم يصب في قوله هذا، وحسب اطلاعي على الدراسات القرآنية واللاهوتية الأخرى، ففي إطار الدعوة للإيمان بالرسالة الدينية الاسلامية، لا وجود لجماعات قبلية أو دينية مقدسة على الإطلاق.
ــ ذكر الربيعي أن آية “كنتم خير أمة أُخرجت للناس”، تنصرف على “بني اسرائيل” حسب المؤرخ الطبري”…هل من تعليق؟
ــ هذا غير صحيح على الإطلاق…فالمقصود بالآية الكريمة هم أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ــ ذكر الربيعي في محاضرته الأخيرة في دمشق أنه ورد في القرآن الكريم أكثر من مرة آية تقول: “آمنت بإله إسرائيل وإنا له لمسلمون” (هكذا حرفياً)! رغم أن الآية الأصلية تختلف عن ذلك {الآية الأصلية هي سورة يونس 90: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}…فهل من تعليق لديكم؟
ــ يمكن أن يحال الموضوع إلى مفسّري القرآن الكريم بسبب عدم تخصصي بذلك، لكنني أنوّه إلى ضرورة أن ينقل الكاتب الربيعي النصوص بدقة وأن يقدّم لها أفضل التفاسير.. وقد سبق له أن نقل أحد النصوص من كتاب التوراة نقلاً خاطئاً، ينطوي على خطورة كبيرة، ففي حلقة بثتها قناة الميادين في شهر شباط/2019، هي (لعبة الأمم لسامي كليب، والتي تحمل عنوان “كيف زوّرت “إسرائيل” تاريخ فلسطين)، لفت انتباهنا خطأ ارتكبه ضيف الحلقة “الربيعي”، وهو اقتباسه الخاطئ لنص من سفر حزقيال، حيث جاء في الاقتباس الخاطئ: “رأيت يهوديات يبكين على تموز”…أما ما ورد في نص حزقيال حرفياً، فهو “رأيت نساءً يبكين على تموز”…لذا فحزقيال لم يكن يقصد “يهوديات” وإنما نساءً لا على التعيين…أما إشارة حزقيال فكانت تخص نقله الشفوي لطقس من طقوس عبادة الإله الرافدي-الكنعاني تموز في معبد كنعاني، ولا علاقة لليهوديات به على الإطلاق، بينما ينطوي هذا النقل الخاطئ لشاهد حزقيال، على خطورة تتعلق بالمعطيات، حتى لو كان مصدرها التوراة، لأن التوراة كتابٌ يذكر الكثير من المعطيات بأسلوب ساذج، وبين السطور، ومعظم تلك المعطيات هو اعترافات تدين أصحابه… والعداء للكنعانيين والحقد عليهم واضح من قبل كُتّاب التوراة، لأنه ينظر إليهم كشعب متفوق ومتحضّر ومالك أصلي لـ”أرض كنعان”، التي دارت معظم روايات التوراة حولها.. ويجدر بالذكر أننا نجد أصداء عداء التوراة للكنعانيين في جل أسفار هذا الكتاب، فمنها ما ظهر في سِفريْ القضاة ويشوع بوضوح، حين لم يستطع كاتبا السفرين المذكورين إخفاء حقدهما على إحدى أهم الممالك الكنعانية في فلسطين نظراً لقوتها وتفوّقها الحضاري، وهي مملكة حاصور … أما في أسفار إرميا وزكريا وعاموس من كتاب التوراة، فنرى كيلاً من اللعنات على مدن كنعانية رئيسية ثلاث وتنبؤات عدوانية بخرابها، هي “غزة” و”صور” و”صيدا” …وبينما يصف كتاب التوراة الكنعانيين –بحسرة- بأنهم يسكنون بيوتاً لها شبابيك، إلا أنه يشير في أسفاره إلى أن قبيلة “بني إسرائيل” كانت تسكن الخيم المتنقلة، ولعل ذلك فرق حضاري كبير.
ــ بشكل عام ألا ترى أن تاريخنا الكنعاني مستهدَف؟
ــ لازمت الصفة “الكنعانية” تراثنا المسطور والمعزز بالأدلة والمعطيات الأثرية في شرق المتوسط وغربه ما يزيد على الألفين وخمسمئة سنة، وقد ميّزت تلك الصفة جزءاً من هويتنا التاريخية التي تتّحد في مكوناتها عدة تسميات تشير إلى السوريين القدماء في مراحل مختلفة.. وفي هذا الصدد فإن بعض الآراء المخالفة للمعطيات المذكورة، لا يجب أن تؤثّر على الدراسات الخاصة بالهوية السورية ومكونات الشعب السوري القديمة، حيث تعرّض مصطلح “فينيقيين” ــ رغم أصالته كما رأينا ــ إلى الطعن، وصُنِّف الفينيقيون في بعض الدراسات المحلية –وهم الكنعانيون أصلاً- على أنهم “من الموجات الدخيلة على بلادنا”…لكن اسم “الفينيقيين” يشير إلى الكنعانيين السوريين، لذا لا يمكن اعتبارهم موجة دخيلة.
وبشكل عام، فقد تعرّض تاريخ الكنعانيين السوريين إلى سلسلة مدروسة من الادعاءات الزائفة والمشاريع المسيئة والمحرِّفة لمعطيات تراثهم في المنطقة، بدأت منذ وعد “بلفور” عام 1917 واستمرت في القرن الواحد والعشرين، وننوّه فيما يلي إلى أخطر تلك المشاريع خلال السنوات السابقة، والتي تؤثر سلباً -وفي مراحل قادمة- على الدراسات الخاصة بوحدة العناصر الحضارية في المشرق والمغرب، ففي السنوات الأخيرة باتت مقولة “التوراة” حول مزاعم “حدود الكيان الإسرائيلي” تتجلى في مجموعة من السياسات الإسرائيلية المدعومة من قبل الصهيونية العالمية، وتتخذ على أرض الواقع أشكالاً متعددة، ولعل أخطرها المشاريع المتعلقة بالتراث، والتي تنفّذها أحياناً جهات أجنبية بالوكالة.
هدف بعض تلك المشاريع هو وضع تعاريف جديدة للحقب التاريخية المختلفة تقصي مراحل حضارية بأكملها، مع إنجاز قواعد بيانات تتضارب مع أية قواعد بيانات يُفترض أن تكون موجودة سابقاً، وعلى سبيل المثال –لا الحصر- المشروع الدولي الخطير بمشاركة الكيان الاسرائيلي: ARCANE(2002-2011) الذي هَدَفَ إلى وضع تسلسل زمني {“توثيق”–كرونولوجي-} لمنطقة “الشرق الأدنى القديم” وشرق المتوسط انطلاقاً من الألف الثالث ق.م، بإقصاء المواقع الكنعانية في الساحل السوري من التسلسل الزمني للشرق القديم عمداً!
هناك أيضاً أحد المشاريع التي أطلقها الصهاينة لغرض تهويد مدينة يافا الكنعانية في فلسطين المحتلة، وذلك قبل حوالي 10 سنوات وبدعم أميركي أوروبي، وهو “مشروع التراث الثقافي ليافا” (JCHP) الذي احتوى على كثير من مفردات التهويد، بدأت بتعريفه على أنه {مشروعٌ يعالج تاريخ وآثار مدينة يافا الواقعة على ساحل “إسرائيل” في الجزء الجنوبي من “تل أبيب”…} أما إطلاق عبارة “ساحل إسرائيل” على الساحل الكنعاني، فيلخص كل جهود العدو في استهداف الحضارة الكنعانية، مدناً ومواقع ورموزاً ومعطيات.
ومن الطروحات الخطيرة ما قلّص الجغرافيا التاريخية لسوريا القديمة وعمل على فصلها عن محيطها الطبيعي والحضاري كبلاد الرافدين وفلسطين القديمة، وهذا ما سعى إليه عالما الآثار “بيتر أكرمانز” و”غلن شوارتز” اللذان قدّما سورية القديمة -في كتابٍ عن “الآثار السورية” – كأقاليم منعزلة حضارياً – وابتعدا تماماً عمّا يجمع السوريين القدماء من عناصر حضارية ثابتة ومستمرة منذ أقدم العصور، كما لم يأتيا على ذكر الحضارة الكنعانية أو الكنعانيين ضمن عصور سورية القديمة، ولم يقدّما “الفينيقيين” على أنهم استمرار للكنعانيين في سوريا، بل على أساس الشراكة المتوسطية مع الإغريق، أما المملكة السورية الكنعانية “أوغاريت” – أمُّ المدن الكنعانية- فيعرّفها المؤلفان بأنها مدينة على البحر الأبيض المتوسط كانت تتبادل التجارة مع “قبرص” و”سورية” –وكأنها ليست سوريّة!… الكتاب هو PETER M.M.G.AKKERMANS AND GLENN M. SCHWARTS THE ARCHAEOLOGY OF SYRIA From Complex Hunter-Gatheres to Early Urban Societies(ca.16000-300b.c), , CAMBRIDGE , First Published 2003,Fifth Printing 2009
بعض الدراسات المحلية الرسمية الحديثة –أيضاً- ارتكبت خطأً حين أقصى الكثير من المدن الكنعانية المنتشرة على طول الساحل السوري اللبناني، كما أخطأ حين أغفل ذكر هوية مدينة أوغاريت كمدينة كنعانية سورية تقع على الساحل السوري، مستبدلاً ذلك بوصفها “ميناءً عالمياً”، ذلك أن أي تعريف –ولو مختصر- للمدينة يغفل سوريّتها وكنعانيتها يعتبر منقوصاً ولا يعبّر بشكل صحيح عن هوية المدينة التي بلغت عالميتها من خلال كونها مملكة كنعانية سورية أبدعت إنجازاتها في ضوء الإبداعات السورية القديمة وعبر مراحل طويلة شهدتها الأرض السورية.
عموماً، فمسيرة التاريخ الكنعاني –كجزء من التاريخ السوري والعربي القديم- تتعرّض للاستهداف الغربي الممنهج الذي لا يجوز السهو عنه أو الانقياد إليه، ولهذا الاستهداف أسبابٌ واضحة في تفاصيل بعض المشاريع الأجنبية، وتتلخّص في مساعٍ لإزاحة الحقائق الكنعانية عن بساط البحث التاريخي بما يغطّي على اعترافات كُتّاب التوراة –سواء الصريحة منها، أو تلك التي بين السطور-والتي تؤكد–إلى جانب غياب الشواهد الأثرية والكتابية- على أنه لا توجد حضارة أو دولة قديمة تحمل اسم “إسرائيل”، وذلك بكل ما تحمله “الحضارة” و”الدولة” من معانٍ تطابقت فعلياً مع حضارات المشرق والمغرب العربي القديم ودوله، من خلال الأصول الحضارية والجذور اللغوية والمنجزات على الأرض والتركة الإنسانية المتميزة، الأمر الذي لم يتحقق تاريخياً لمن يدّعون زوراً وبهتاناً ملكية أجزاء من الأرض في فلسطين وسورية والعراق، والذين تتلخص إجراءاتهم منذ عقود في السطو على الأصول الحضارية للمنطقة ومحو جذورها.
إن العبث بمعطيات سوريا القديمة –وعلى رأسها المعطيات الكنعانية- يهدّد منظومة البحث الخاصة بتلك الحضارة بالخلل والتشويه في شُقّيها المشرقي والمغربي، ولعلها إشكالية بحث كبيرة، يحاول العدو الاسرائيلي استثمارها من أجل تكريس نفسه كـ”دولة يهودية ذات جذور تاريخية”، وذلك على حساب الأصول التاريخية الحقيقية التي تنتمي إليها كل بلاد الشام القديمة…وقد عمل مؤسسو الكيان الاسرائيلي وقادته على أن تكون “الدولة اليهودية” هي المالك الحصري ــ بالقوة ــ لعوامل الحضارة وعناصرها بعد مصادرتها والتلاعب بمعطياتها وافتكاكها من أصحابها الأصليين في الشام وفلسطين ولبنان والأردن والعراق، ومحاولة حصرهم كجماعات مفككة ضمن أقاليم منفصلة حضارياً وعرقياً وديموغرافياً.