إنتفاضة التمدن- نجيب نصير
تتصف إنتفاضة 17 أكتوبر اللبنانية، بقيامها على الكثير من الثنائيات المتوازية، فمن جهة، هي إنتفاضة شارع مقابل شارع لديه نفس المطالب ولو بصفة ظاهرية. ومن جهة ثانية، هي إنتفاضة تتوسل المشهدية مقابل الكلام والتصريحات. وعلى كل ما تحتمل هذه العناصر الأربعة من توصيفات وتحليلات، فإن جميعها يقود لنتيجة مفادها أن ثمة إنتفاضة من أجل التمدن، وهذه هي مساحة الخلاف الكبرى بين الثنائيات المتوازية.
والتمدن، في أحد صفاته الأساسية، هو الإلتزام بالمعرفة وعدم التقهقر بها إلى درك المعلومات التي يمكن إستخدامها حسب النفوذ، ونقصد بذلك الدساتير والقوانين. فهي ليست مجرد معلومات، بل هي معرفة قابلة للممارسة في حال وضعت في بيئتها المتمدنة. وبالتالي يشكل التعامل معها وبها كمعلومات فقط، فصاماً إجتماعياً يتمثل في الأداء السياسي الحكومي. هذا الأداء يجعل للدساتير والقوانين وجهين متعاكسين، الأول معلوماتي، والثاني معرفي. الأول هو النصوص ومعياريتها المشهرة، والثاني هو ترجمتها إلى أفعال وممارسة. وهذا ما يفتح المجال واسعاً الى الفساد المقونن في حال إستخدام هذه المعلومات إستنسابياً، بحيث لا تطاله النصوص المشهرة بل ينضوي تحتها، في ظل ما تتيحه التفسيرات، للتملص من المسؤولية والمحاسبة. عندها يتحول المكان السياسي، المنصب، إلى مكانة سياسية، والدولة إلى مجرد سلطة تحتكر العنف كصلاحية تأسيسية لها.
هذا الفصام المتمثل بعدم الإلتزام المعرفي بالـ”الدولة”، هو التخلف بعينه. فعلى الرغم من كل مظاهر المدنية المعلنة، والتي تتعاكس مع التمدن وتتجنبه، نرى الفشل يرافق مساعي بناء “الدولة” في جميع البلدان الناطقة بالعربية، وليس من مسؤول يمكن محاسبته دستورياً أو قانونياً على النتائج.
قلنا إن مظاهر المدنية المعلنة تتعاكس مع التمدن وتتجنبه. لماذا؟ الجواب بكمن في مفاعيل المسؤولية عن الفشل والنجاح. فالفشل والنجاح، يصبحان في حكم المستقبل أو علم الغيب، بناء على تسليف الثقة المسبقة للإدارة الحكومية التي تفعل ما تشأ طالما هناك إمكانية إكيدة للتملص من المسؤولية. وسواء إن كان ذلك عن طريق العنف “المقونن” أو الذكاء الإحتيالي، ما يشكل فارقاً حقيقيا، بين المعلومات ككلام وشعارات لغوية قابلة للتحوير، وبين المعرفة كمشهد أو مشهدية تقول الحقيقة. كل هذا ما يقود الى الحنق والإحتقان ومن ثم الحقد والغضب، والتعبير عنها كلها دفعة واحدة، ما يشكل أزمة تفرح بإدارتها المكانات السياسية دفاعاً عن نفسها. فالإنتفاضات تحاول تصويب الرؤية الى الدساتير والقوانين، مذكرة النخب الحاكمة بوجود منطق يحكم الأمور، والتذكير بهذا المنطق، يكفي إفتراضياً لعودة الأمور الى نصابها الدستوري والقانوني، من خلال النقد البنّاء مثالاً، أو من خلال التظاهر السلمي. فالتعبير السلمي عن الرفض يكفي لتصويب الأمور منطقياً، ولكن المكانات السياسية، تظهر دفاعاً شرساً عن النفس وليس عن الدولة، معبرة عن العماء في رؤية المسافة بين مكانتها والدولة، وهذا واحد من وجوه التخلف في ما يسمى “الدولة” في البلدان الناطقة بالعربية.
بالعودة الى لبنان وإنتفاضته، يتكرر مشهد التخلف إياه، مع تميّز واضح عند اللبنايين عن غيرهم من البلدان العربية، بانفتاحهم، ونشاطهم، وتحصيلهم العلمي والإنساني، وإرتقائهم في القيم المعاصرة،واندفاعهم نحو الآفاق المستجدة في العالم. ولعل هذا ما طبع إنتفاضتهم التمدنية ضد التخلف المعشعش في حنايا الدولة الناظمة لأدائهم المعيشي الذي لا يتشابه مطلقا مع إمكانياتهم ووعيهم. هذا الأداء غير المحكوم بالمحاسبة على الفشل والنجاح، والذي تجاوزته إمكانياتهم المعرفية، التي عبرت عن نفسها في الكثير من المناشط الاجتماعية الثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والحقوقية، وحتى الخيرية، ما فضح العلاقة الفصامية للمكانات السياسية مع الدساتير والقوانين. هذا الفصام قاد الإنتفاضة إلى عمق المشكلة الاجتماعية المتمثلة في تناقض نصوص الدساتير والقوانين مع ممارستها في الواقع، وكذلك تناقض هذه الممارسة مع الحاجات المعيشية والحياتية للجماعة اللبنانية.
في السياق تم إشهار سلاح الشارع المقابل، في وجه الإنتفاضة، كخيار شمشوني لا يقبل بالرؤية المنطقية للمحتجين، التي طالت السلوكيات في قيادتها البلاد الى هذا الإنسداد المعيشي المقلق. وهذا الشارع المقابل، له كل الحق بالتعبير كشريك في “المواطنة”، وهذا ما أدى إلى الوقوع في مآزق الكم والكيف الخطيرة و المعبرة عن فصام بين النصوص وممارستها.
هنا، ربما علينا النظر الى مشهدية الشارع، والابتعاد عن حرب القال والقيل الكلامية، على الأقل من أجل تجاوز ترهات الاتهامات، والنظر فيما يقوله المشهد البصري إذا شئنا، لنكتشف ببساطة أن التمدن هو المطلب الأساسي لهذه الإنتفاضة، والذي عليه أن يظهر في الأداء الدولتي، مجبراً أصحاب المكانات، حكومة وأحزابا، للانقياد للمنطق، أو ما يمكن تسميته بالإلتزام المعرفي، كشرط علني ومحاسب عليه. فرجال ونساء الدول والحكومات، ليسوا بملائكة، ولا يمكن التعويل على الأخلاق الفردية أو الوجدان الشخصي للظفر بحكم رشيد، وعلى القوانين أن تجبر رجال ونساء الدولة، أن يكونوا نظيفي الكف و”أوادم”.
في المشهد البصري يمكننا رصد مثالين أدائيين لما تطالب به الإنتفاضة، لما لهما من بعد تأسيسي في مقاومة الفوات التمدني، الأول: هو حضور المرأة في الأداء الإجتماعي، كهيئة أجتماعية كاملة الأهلية. هذا ما أعلنه الحراك ولم يتسبب به، بحيث يتقدم مبدأ المساواة على العدالة كشرط لها. وهذا ما ينسحب على الأداء السياسي للطبقة الحاكمة التي ترفض المساواة مع الشعب، كمبدأ تأسيسي في المجتمع المأمول، وبالتالي في الدولة المنبثقة عنه. هذا ما يزيد من كانتونية الشق الرافض للانتفاضة عبر إظهار أكبر قدر ممكن من العنت الأيديولوجي، والتقاليدي، ما يؤدي إلى رفض مطالب الإنتفاضة، عمليا، وتبنيها لفظيا، بل واتهام المنتفضين بسرقة شعاراتهم. وعلى هذا يبدو في الإشعال المقصود للخلاف بين الحق من جهة والصواب من جهة أخرى، بحيث تتحول أحقية وصوابية مطلب المساواة الحقوقية للمرأة إلى عتبة ومن ثم منصة لرفض المساواة العامة عبر الخصومة المفتعلة بين الحق والصواب. هذا يؤدي إلى تأجيل جديد لفعل المساواة التأسيسي إلى أجل غير مسمى. فالمساواة التي تستثني الجنس من مفاعيلها، لما تزل مسقوفة بـ “قيم” العيب والحرام التقليديين، والقابِعين خارج مفهوم المجتمع والدولة التمدنيين اللذين يطالب بهما الحراك، وتوافق عليهما المنظومة الحاكمة بشرط إثبات صوابية هذا الحق.
وعلى الرغم من كل الأداءات التي قامت بها المرأة والرجل أيضاً، على سبيل إثبات صوابية حقها، إلا أن الواقع السلطوي الذي يعرف مدى الخطورة التأسيسية لنتيجة إستحقاق كهذا، أظهر أداءات مبكرة لمواجهة هذا الاستحقاق لحماية نفسه، عبر تصرفات تخاتل الدساتير والقوانين وتبتزها.
الثاني: هو فعل تأسيسي خطير يقع على الطائفية ومحاصصاتها، وذلك عبر إعلان هذه الإنتفاضة رفض الطائفية ومفاعيلها، من تشريعية وتنفيذية وقضائية، لما لها من تأثيرات حاسمة في وأد التمدن كمطلب أساسي للإنتفاضة. وهذا ما وضع كافة الفعاليات السياسية التقليدية أمام إستحقاق الإجابة على الأسئلة التأسيسية المغفلة لوقت طويل. فمنذ ثلاثينيات القرن الماضي، والصوابية المعرفية تسعى إلى فصل الدين عن الدولة، بمعنى فصلها عن السياسة والقضاء والتشريع. إلا أن البنى التقليدية استطاعت تأجيل هذا الإستحقاق التمدني، حتى مع أنفجار حرب أهلية جائرة وعبثية. فمصالح هذه الطبقة الحاكمة لا تخدمها إلا الطائفية، ومن هنا يبدو مطلب رفض الطائفية وأداءاتها الموارِبة، تأسيسياً لمن أراد أن يكون متمدناً أي مواطناً. وهنا أيضاً يظهر الصراع الوجودي من أجل البقاء، عبر إستخدام ثنائية الحق والصواب، وتسعير صراعهما للمحافظة على البنى التقليدية غير المتمدنة، حيث لم يتم حتى الآن إثبات صوابية إلغاء الطائفية، لتبدو الإنتفاضة بمطلبها هذا كفعل تأسيسي مقاوم للتأجيل والنسيان.
فالحق الذي تعتمده السلطات، يتضمن الحق بالتخلف واللاتمدن أيضا على الرغم من كل المظاهر التي توحي بالمدنية. وبهذا الحق “الدستوري” تواجه هذه السلطات صوابية مطلب فصل الدين عن الدولة، بناءً على حقها الدستوري بالتحزب الحر، الذي يخفي دستورياً، طائفية الأحزاب. ولكن الإنتفاضة أوجبت على الطبقة السياسية الإجابة على سؤال وجودها وتواجدها، وهي لا تمتلك من الإجابة إلا إتهام الإنتفاضة بالعمالة أو البذاءة أو قطع الطرقات عن الشعب المنتفض نفسه، في محاولة للتخفي خلف الغربال، الذي يرشح فشلاً أدائياً واضحاً، معلنة أن الطائفية خط أحمر يجب تجميله كخازوق مغر، لا يأنف الشعب من الجلوس عليه كحق من حقوقه الأزلية.
الكل مجمع أن الطائفية سرطان الاجتماع البشري،ولكن قلة تجرؤ على رفضها ومقاومتها. وهذا يعطي الإنتفاضة الشعبية كامل الحق في رفض وجودها في الدساتير والقوانين القائمة، وكذلك في الممارسات الاجتماعية والمدنية كافة. ربما من المبكر إطلاق صفة إنجاز على المثالين السابقين، ولكنهما، وبجدٍ، وضعا قدم الاجتماع اللبناني على سكة التمدن، عبر إعادة الإعتبار لشرط الصوابية عند قراءة النصوص الحقوقية الناظمة لهذا الاجتماع.
من غير المرجح أن تنتصر هذه الإنتفاضة، إنتصاراً واضحاً أو فورياً. فتغول القيم والأداءات السياسية والإجتماعية سوف تقمعها، إن كان على شكل عقوبات مالية مباشرة (كما يحصل الآن)، أو عن طريق المماطلة عبر إدارة الأزمة واستعراض تشاطرات الطبقة السياسية، التي ترى بالإنتفاضة، تأسيساً لمرحلة جديدة لها.