LOADING

Type to search

هوامش في الهيمنة المضادة (2)

دراسات موضوع العدد

هوامش في الهيمنة المضادة (2)

الفينيق
Share

محمد العملة

“إن نوع ما بعد الحداثة الذي يتم تحقيقه حاليّا في الممارسة، يلغي المنطق الصارم للحداثة نفسها، الحداثة كهدف تم تحقيقه؛ فتفقد الخطوات المتخذة للوصول إليه معناها، ويصبح ضغط القشرة الأيديولوجية أقل صرامة. يتم استبدال ديكتاتورية الأفكار بديكتاتورية الأشياء؛ كلمة مرور تسجيل الدخول (الباسوورد والباركود)، حيث تظهر ثقوب جديدة في نسيج واقعِ ما بعد الحداثة”.

الخلاص من الغرب – ألكسندر دوغين

“إن حقيقة وجود أوكرانيا المستقلة، تعد على المستوى الجيوسياسي إعلان حرب جيوسياسية على روسيا، وهذه قضية ليست من صنع أوكرانيا نفسها، بقدر ما هي من صنع الأطلسية والقوى البحرية… وبالأخذ بعين الاعتبار أن تكامل موسكو البسيط مع كييف غير ممكن، ولن يقدم النظام الجيوسياسي الثابت، فإن على موسكو أن تشارك بفعالية في إعادة ترتيب المدى الأوكراني، وفق النموذج الجيوسياسي الطبيعي والمنطقي الأوحد”.

أسس الجغرافيا السياسية – ألكسندر دوغين

صراع النّظريات الثلاث

كان القرن المنصرم عصر الأيديولوجيا بامتياز، تصارعت فيه ثلاث أيديولوجيات كلها غربية المنشأ، وفي الوقت الذي انهار فيه الاتحاد السوفييتي، كانت الليبرالية تتربع على عرش الهيمنة، مؤذنة ببدء فترة سوداء من عمر البشرية، النظام العالمي الجديد أو النظام أحادي القطب.

نتحدث بالطبع عن صراع النظرية الأولى (الليبرالية) مع النظرية الثانية (الشيوعية)، وبينهما كانت النظرية الثالثة (الفاشيّة)، وهو صراع كانت الحداثة مركزه، وإليكم بيان الأمر!

تقوم كل نظريّة على موضوع ما يشكل أساسها؛ فهو في الشيوعية صراع الطبقات، وفي الفاشيّة هو الدولة (إيطاليا موسوليني مثلا) أو العرق (ألمانيا الرايخ الثالث)، بينما يشكل الفرد موضوع الليبرالية، الفرد الذي تحرر من جميع أشكال الهوية الجماعية أو الانتماء.

عندما كان للنضال الأيديولوجي معارضون رسميون، كانت أمم ومجتمعات بأكملها، على الأقل من الناحية النظرية قادرة على اختيار موضوعها، لكن انتصار الليبرالية حسم هذا السؤال وأصبح الفرد هو الموضوع المعياري في إطار البشرية جمعاء. وفي وقت ظهور العولمة أصبح نموذج مجتمع “ما بعد الصناعة” معروفًا، وعندها بدأ عصر “ما بعد الحداثة”؛ وقتها لم يعد الموضوع الفردي نتيجة الاختيار، بل أصبح نوعا من الإلزامية المقدرة أو المعطاة، حيث يتحرر الإنسان من عضويته للمجتمع ومن أي هوية جماعية، وتصبح أيديولوجية حقوق الإنسان مقبولة على نطاق واسع -على الأقل- من الناحية النظرية، وهي إلزامية عمليًا. الإنسانية في ظل الليبرالية المكونة بالكامل من الأفراد، تنجذب بشكل طبيعي نحو العالمية وتسعى إلى أن تصبح كونية وموحّدة، وهكذا ولدت مشاريع الحكومة العالمية والعولمة؛ حيث أن مستوى جديدا من التطور التكنولوجي جعل من الممكن تحقيق الاستقلال عن الهيكلة الطبقية للمجتمعات الصناعية، ليتحقق مفهوم المجتمعات ما بعد الصناعية.

بذلك تكون العقلانية والعلمية أشكالاً مستترة من السياسات القمعية والشمولية، تترافق مع تمجيد الحرية الكاملة واستقلال الفرد عن كل القيود، وهذه حالة ما بعد الحداثة. لم تعد الليبرالية هي النظرية السياسية الأولى، وأصبحت الممارسة “ما بعد السياسيّة” هي السائدة. عند وصولنا إلى نهاية التاريخ (حسب تعبير فوكوياما) حل الاقتصاد في شكل السوق الرأسمالية العالمية مكان السياسة، وانحلت الدول والأمم في بوتقة انصهار العولمة، يعني هذا أن الليبرالية نفسها قد اختفت وتحولت إلى كيان مختلف؛ إلى ما بعد الليبرالية، لم يعد لها أبعاد سياسية، ولا تمثل الاختيار الحر؛ بل أصبحت كنوع من المصير الحتمي تاريخيًا. هكذا تتزامن بداية القرن الحالي مع نهاية الأيديولوجيات الثلاث.

السرديّة السابقة يأخذ بها دوغين في التوجه نحو تأسيس نظرية سياسية رابعة، فهو يرى أن النظريات الثلاث تتعامل مع الحداثة بشكل مركزي، حاولت كل نظرية الدفاع عن الحداثة من موضوعها (الفرد، الطبقات، الدولة أو العرق)؛ لذلك تقدم النظرية الرابعة نفسها كمضاد للحداثة، تحديدًا بعد انتصار النظرية الأولى، إذ صارت نسختها الشمولية عن الحداثة مهيمنة. لكن الأهم، أن ادعاءات النظريتين الثانية والثالثة، بأنهما مدافعتان عن روح الحداثة قد سقطت، وكل ما يتعلق بهذه النوايا غير المحققة في الأيديولوجيات السابقة، لا يثير اهتمام مبتكري النظرية الرابعة.

لا يعني هذا إسقاط النظريتين الثانية والثالثة، إنما إعادة التفكير بهما بطريقة جديدة، وفقط بعد أن نسحب ثقتنا في تلك الهياكل الأيديولوجية التي تقوم عليها أرثوذكسيتهما، والتي هي أكثر جوانبهما رتابة. إن قراءة متقاطعة للنظريتين ستكون أكثر إنتاجية، بمعنى قراءة ماركسية ذات نظرة إيجابية لليمين، وقراءة يوليوس إيفولا من خلال نظرة إيجابية إلى اليسار، أي ما يسميه دوغين “المشروع البلشفي الوطني”.

بعبارة أخرى، القاسم المشترك بين النظريتين الثانية والثالثة أنهما مناهضتان للرأسمالية، الليبرالية والفردية، ومتحدتان في اعتبار النظرية الأولى عدوًّا لهما؛ فإذا حررنا النظرية الثانية من ماديّتها الصّرفة وإلحاديّتها، وحررنا النظرية الثالثة من عنصريتها وتقييمها للمجتمعات الأخرى بمعاييرها الخاصة؛ فإننا نصل إلى طريق جديد هو النظرية السياسية الرابعة. ولكن كل هذا خطوة أولى، إذ يجب الرجوع إلى التقاليد (ما قبل الحداثة) واستلهام خصوصية المجتمع وهويته منها. يحاجج دوغين بأن الحداثة أخذت موقفًا مضادًا للأديان عبّر عنه بمصطلح “موت الإله”، لكن استنفاد الحداثة في ما بعد الحداثة خلق الفرد اللامبالي، لا مبالاة بوجود الإله أم لا، أو الذي يؤمن بأديان وعبادات مزيفة.

النّظريّة الرّابعة

بالنسبة لروسيا، فإن الليبرالية غير مناسبة (جرّبتها أيام يلتسن ورغم ذلك ظل الغرب ينظر إلى روسيا كخصم)، لكن الشّيوعيّة والفاشيّة غير مقبولتين أيضًا (الشيوعية في روسيا لم تعد خيارًا بعد الانهيار السوفييتي، والفاشية ليست خيارًا لعنصريتها، بل هي اليوم خصم يهدد روسيا في أوكرانيا)، بالتالي يطرح دوغين في أدبياته الحاجة إلى نظرية سياسية رابعة، وإذا كانت هذه بالنسبة للبعض مسألة حرية اختيار، وإرادة سياسية يمكن رؤيتها من منظور إيجابي أو سلبي؛ فإن الأمر بالنسبة لروسيا هو مسألة حياة أو موت، تكون أو لا تكون. إذا اختارت روسيا أن تكون؛ فإن ذلك سيؤدي تلقائيًا إلى نشوء النظرية السياسية الرابعة. وعلى النقيض، خيار ألا تكون  يعني ترك المسرح التاريخي والعالمي بهدوء، والذوبان في نظام عالمي لم تنشئه أو تحكمه.

للمضي قدمًا نحو تطوير نظرية سياسية رابعة، من الضروري إعادة النظر في التاريخ السياسي للقرون الأخيرة، من مواقف جديدة خارج إطارات وكليشيهات الأيديولوجيات القديمة؛ وثانيًا، إدراك البنية العميقة للمجتمع العالمي الناشئ أمامنا. ثالثًا قراءة نموذج “ما بعد الحداثة” بشكل صحيح، ورابعًا، تعلم عدم معارضة الفكرة السياسية أو البرنامج أو الاستراتيجية، ولكن معارضة الواقع الموضوعي للوضع الراهن، لأنه الجانب الأكثر اجتماعية في المجتمع غير السياسي. وأخيرًا، بناء نموذج سياسي مستقل يقدم طريقة جديدة ومشروعًا لعالم المآزق والأزقة العمياء وإعادة التدوير اللانهائي لنفس الأشياء القديمة.

فلسفيًا، تقترح النظرية السياسية الرابعة فهمًا جديدًا لكلٍّ من الكل وأجزائه، خارج سياق الأيديولوجيات السياسية الثلاث للحداثة، يمكن أن نسميه الفهم بالوجود أو الوجود المصاحب، وهنا لا يوجد وجود مبعثر بمعنى أجزاء أو أفراد، ولا مجموع أفراد كما في الشمولية المفترضة. المعنى البديل للشمولية في النظرية الرابعة يعني العيش مع الناس ومواجهة الموت (نحن معًا عندما نواجه موتنا)، ودوغين هنا يجعل “الوعي بالوجود” موضوعًا لأيديولوجيا النظرية الرابعة، انطلاقًا من فلسفة “هيدجر” عن الكينونة والوجود.

مفهوم “هيدجر” يعني أنه بحث في معنى الوجود الحقيقي الذي نعيش فيه، وهنا النقطة الأكثر عمقًا في النظرية الرابعة؛ نحن على كل اختلافاتنا التي نريد تحقيقها بمعاييرنا الخاصة دائما، لكننا ضد الحداثة وضد ما بعد الحداثة (الليبرالية وما بعد الليبرالية، الأورو-مركزية وهيمنة الولايات المتحدة).

في الواقع، يظل الليبراليون مؤمنين بأيديولجيتهم، ويحرمون ببساطة كل الآخرين من حق الوجود، وهو أمر لم يعد صالحًا بتاتًا. عندما تتحول الليبرالية من ترتيب أيديولوجي للواقع إلى محتوى وحيد لوجودنا الاجتماعي والتكنولوجي؛ فإنها لم تعد فكرة أيديولوجية، إنما تصبح حقيقة وجودية ونظامًا موضوعيًا للأشياء، ويصبح الطعن فيها أمرًا صعبًا وشائنًا أيضًا. الانتقال من الموضوع إلى مجال الموضوع يعني الاستبدال الكامل للواقع بالواقع الافتراضي.

النقطة المثيرة للاهتمام، هي ابتعاد النظرية الرابعة عن الإصدارات الحديثة من مناهضة الليبرالية، من خلال اقتراح الانهيار الداخلي للفرد، لا نقده كما يُنظَر إليه من الخارج. هذا يعني عدم الرجوع خطوة إلى أشكال المجتمع قبل الليبرالي، أو خطوة واحدة جانبية إلى الأنواع غير الليبرالية للحداثة (الشيوعية والفاشية)، لكن خطوة واحدة داخل الطبيعة العدمية للفرد كما شيدتها الليبرالية. الليبرالي فرداني وهو خطر فقط عندما يكون منفتحًا، لأنه بفعله هذا يدمر المجتمع والروابط الاجتماعية التي يرتبط بها. أن تكون ليبراليًا انطوائيًا أقل خطورة، لأنك تدمر نفسك فقط، وهذا شيء جيد؛ سيكون لدينا ليبراليون أقل، بحسب تعبير دوغين.

الحدث الراهن

يأخذ دوغين على بوتين الواقعية (البراغماتية) الزائدة، التي تمنعه من أخذ خطوات سريعة في القضاء على نخبة ليبرالية في دوائر القرار الروسية، تقف بين اللوبي الأوراسي والشعب، لكن هذا لا ينفي أن الأوراسية تلعب دورًا محوريًا في الكرملين. بالنسبة لأوكرانيا، تتحدث الأدبيات الأوراسية أن أوكرانيا لا تستطيع أن تكون بشكل كلي في معسكر أوراسيا، كما لا تستطيع أن تكون في المحور الغربي، ويقترح دوغين أن شرق أوكرانيا يجب أن يفصل عن غربها لطابعه الأرثوذكسي وقربه من الثقافة الروسية، وأن المناطق ذات الثقافات المتمازجة، القرم تحديدًا ،يجب أن تُفصَل عن أوكرانيا، وتعطى حكمًا ذاتيًا تحت السيادة الروسية.

هذه الرؤية يشرحها دوغين في كتابه “أسس الجغرافيا السياسية” قبل أكثر من عشرين عامًا؛  وقد بدأت روسيا بتطبيقها حرفيًا منذ أكثر من ثماني سنوات، بعد الانقلاب المدعوم من الغرب، ثم مسألة القرم.

لذلك، قرار الحرب لم ينبت في عقل بوتين بين يوم وليلة، هو تنفيذ لرؤية جيوسياسية أوراسية، ورهان منطقي بالنظر لسرعة فرض العقوبات الغربية على روسيا، والتي تم إصدارها مباشرة في اليوم الثالث للعملية العسكرية، أي أنها كانت مبيّتة منذ فترة في الغالب، والتعويل عليها قد يكلف الأوروبيين اقتصاديًا، لاعتماديتهم الكبيرة على الطاقة الروسية. بريطانيا قد تكون الأكثر تطرفًا في مهاجمتها الإعلامية والدبلوماسية لروسيا، وتمويل السلاح لنازيي أوكرانيا، أمر أفسره باعتمادها على الغاز القادم من النرويج؛ بينما الأوروبيون يعتمدون بشكل كبير على ثلاثة خطوط روسية تمر عبر تركيا وأوكرانيا، وألمانيا (الذي لم يعمل بعد).

بشكل عملي، ليس هناك من يمكنه تعويض الغاز الروسي؛ لاعتبارات كثيرة، أذكر منها:

  • استيراد الغاز من مصادر أخرى، يزيد من كلفة الشحن ووقت وصول الغاز هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن وصوله عبر البواخر يعني أنه سيصل بصيغته المضغوطة (الغاز الطبيعي المسال LNG)، مما يتطلب وجود محطات خاصة، ذات كلفة عالية لإعادة تمييع الغاز مرة أخرى، وأوروبا لا تمتلك هذه اللوجستيات التي تتطلب وقتًا طويلاً لإنجازها.
  • روسيا المصدّر الأكبر للغاز، بحوالي ضعف كمية ما تصدره قطر أو أستراليا أو إيران، وكل هذه الدول تمتلك عقودًا طويلة الأجل مع دول أخرى، ولن تكون قادرة على تعويض الغاز الروسي في حال استغناء أوروبا عنه.
  • ●        بافتراض أن العقوبات ستؤثر على الكمية التي تصدرها روسيا، لكنها لن تكون مؤثرة ماليًا، بسبب الارتفاع الجنوني لأسعار الطاقة مع بداية الأحداث.

حتى مسألة التحويلات البنكية ونظام SWIFT حسب الروس حسابها، بعد أن صادق بوتين قبل أيام، على قرار يقضي باستخدام العملة المحلية للدفع للدائنين من الدول التي فرضت عقوبات على روسيا، وأصبحت هذه الدول بين خيار أن تقبل الدفعات بسعر صرف ثابت يحدده البنك المركزي الروسي، أو لا شيْ.

المضحك حول العقوبات، أن عدم مقاطعة الصين والهند وإيران لروسيا، يعني أن أكثر من ثلث الكتلة السكانية في الكوكب غير معنية بالعقوبات الغربية، لكن الإعلام يصور الأمر على أن روسيا معزولة تمامًا!

منذ بداية العملية العسكرية الخاصة لروسيا الإتحادية في عمقها الأوكراني الجيوسياسي، يتخبط الإعلام في محاولة تجزئة الحدث، تسويقه، إخراجه عن سياقه، وأنسنته ليبراليًا، دون النظر إليه كصراع هيمنة وهيمنة مضادة، أو صراع جيوسياسي؛ بل في تحويله إلى مجموعة صور تمثيلية، تزعم اختزال كل التجارب الإنسانية في ما يسميه المفكر الفرنسي “جاي ديبورد”، “مجتمع المشهد” أو “مجتمع الاستعراض”، وهو صورة عن الليبرالية الغربية وإفرازاتها. هذه الليبرالية بدأت في مراجعة نفسها على ما يبدو، لإعادة تعريف معنى أمنها الاستراتيجي، أوروبا متاخمة لروسيا التي لن تتهاون في تحقيق أهداف عمليتها العسكرية، وليست مستعدة للتفاوض قبل تحقق هذه الأهداف. الروس يفهمون الخطوة التي أقدموا عليها، وهذا واضح في خطاباتهم؛ استخدام مصطلحات مثل: الغرب الكاذب، العالم الأرثوذكسي، الهيمنة الأميركية والنازيين الجدد، يكشف عن بداية تشكل عالم متعدد الأقطاب.

الناتو محرج لأنه يتبنى التعريف الاستراتيجي للأمن الذي يناسب الولايات المتحدة. ذوبان الليبرالية في نموذج “ما بعد الليبرالية” الأميركي قد يرسم موازين قوى جديدة. التباين في المصالح الاقتصادية والأمنية بين الأوروبيين والأميركيين يبدو جليًّا. الأوروبيون اكتفوا بالعقوبات والدعم العسكري غير المباشر قرب حدودهم، والأميركان عينهم على بحر الصين الجنوبي، أيضا في النطاق الأوراسي.

لعل صراع القرن الحالي سيكون بين ما بعد الحداثة ونقيضها الأوراسي، ومنطقتنا بحاجة لمراجعة أيديولوجية عاجلة، نعيد فيها تشكيل خطاب متصالح مع التراث والتقاليد كخطوة أولى، وهذه معضلة اليسار العربي عمومًا، الذي يعلن القطيعة مع الموروث بدعوى “الحداثة”؛ الحداثة التي انتصر نموذجها الليبرالي منذ فترة بعيدة في دول مراكز الأيديولوجيا. إذا كان عالم التعددية القطبية قد بدأ في التشكل بالفعل: الاتحاد الإفريقي، منظمة شانغهاي، مجموعة بريكس؛ فلا أقل من محاولة حشر أنفسنا كقطب لا تنقصه التقاليد، ولا الثقافة، ولا اللغة، ولا الفضاء الجغرافي، ولا التعداد ومصادر الطاقة، ولا الحضارة التي يتعامل معها الغرب بعنصرية، وليس أحوج من أن نقول أن الكيان الصهيوني القابع في أرضنا، نموذج مصغر للولايات المتحدة. كيان ليس له تربة يرجع إليها، هو كيان “ما بعد حداثي” فقط، ومعركتنا معه تفصيل في المعركة الكبرى مع نموذج الهيمنة المسيطر، وتكملة للمعارك التي تخوضها سوريا وجنوب لبنان واليمن والعراق وليبيا لرفض الهيمنة.

قد يكون انتقال ساحة المعركة من أرضنا إلى أوكرانيا أمرًا مفيدًا، باقترابه أكثر من المركز، لأن شتاء 2013 الذي بدأت فيه “ثورة الميدان البرتقالية” في كييف، لن يشبه هذا الشتاء أبدًا.

Print Friendly, PDF & Email
Twitter0
Visit Us
YouTube
YouTube
LinkedIn
Instagram0

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Contact Us


Please verify.
Validation complete :)
Validation failed :(
 
Thank you! 👍 Your message was sent successfully! We will get back to you shortly.